الأحد، 24 فبراير 2013

الشيخ العالم محمد الزبيري


  الشيخ العالم الأديب محمد الزبيري( البُرّيّة)
بقلم: الشيخ المرحوم محمد الطاهر تليلي
       الشيخ محمد بن بلقاسم بن علي بن عمر بن عمار المعروف بسي محمد بن البريّة مولود سنة 1296 هـ ،الموافقة لسنة 1874 م.وفي مصدر آخر سنة 1869 م.توفي في قمار يوم الخميس 2 شوال الموافق لـ 28 جويلية 1949 م.ودُفن في مقبرة قمار عن عمرٍ يناهز 75 عاما.
المنشأ
نشـأ في قمار مكان ولادته، وتعلّم فيها القرآن العظيم، ومبادئ العلوم الدينية والعربية، فلم تكن له رحلة لطلب العلم خارج قمار، فكان تلقّيه له من الشيوخ الوافدين إليها منأمثال الشيخ المكّي بن عزوز، والشيخ لخضر بن الحسين ( الذي تولّى مشيخة الجامع الأزهر فيما بعد)، وبعض شيوخ الشابية الذين اعتادوا زيارة قمار، وكان أكثر تحصيلهمن الشيخ البختري التوزري الذي كان كثيرا ما يتردّد على قمار، ويقيم فيها الأشهر العديدة مُفيدا بعلمه وأدبه طلبة قمار، كما كان تحصيل الشيخ البرية للعلم والأدب على بعض شيوخ بلدته كالشيخ الحاج علي بن القِيم، والشيخ أحمد دغمان، والشيخ الحاج أحمد هالي وغيرهم.
       لقد كان الشيخ البُريّة عصاميا، وساعده على استيعابه لفنون ثقافته ذكاؤهُ وألمعيته، فبذكائه وعو كل ما سمعه،فأوعاه، وبعصاميته اعتمد على اجتهاده، وعقله فتحصّل على كل ما ترجّاه، فلئن لم يخرج من بلدته لتلقّي العلوم، والبحث عنها في مظانها؛ بل أتته منقادة تجرّ أذيالها إليه، وترمي بأثقالها عليه، فلم يترك شاردة، ولا واردة إلاّ وعاها فهْمًا وحفْظًا.
الشيخ معلما ومؤدبا
       كان الشيخ من أول صباه ميّالاً إلى الأدب وفنونه من الغناء، والطرب فكان قصّادًامن أبرع القصّادين في قمار، وبعد تحصيله للعلم والأدب تعاطى مهنة التعليم، فكان مؤدِّبًا بالزاوية التجانية بقمار، فعلّم فيها القرآن الكريم، وبقي كذلك سنوات، ثم تدرّج إلى تعليم العلم بنفس الزاوية، وفي بلدته قمار، فكان يرتحل كل سنة مع أهل الزاوية إلى بلدة تماسين معلما، ومؤدبا، ويرجع معهم إلى قمار أوائل كل صيف من كل سنة، ثم رسّمته الحكومة الفرنسية مدرسا بتماسين، وبحكم اتصاله، وتبعيته للزاوية التجانية، والحكومة الفرنسية خمدت جذوة علمه، وجدت مياه أدبه، بل نصّب نفسه مدافعًا عن " الطُرقية" في الظاهر، وكتب في ذلك مقالات عديدة في جرائد كجريدة ( البلاغ الجزائرية)، وجريدة(النجاح القسنطينية)، وكان يتظاهر بعداوته لأهل الإصلاح، وكانت بينه وبين الشيخ عمّار بن لزعر نفرة مفتعلة دامت إلى أن هاجر هذا الأخير إلى المدينة المنورة سنة 1937 م، وبذلك تحصل الشيخ محمد البرية على إذن من الحكومة الفرنسية بأن يكون مدرسا رسميا في قمار مقابل ما يأخذه في تماسين من راتب، إلاّ أن " قائد" البلدةمنّاه بذلك سنوات، ولم يعطه إلاّ القليل ممّا وعدوه به فخسر الصفقتيْن، وباء بخُفّي حنين، فرضي مجبورا أن يقيم في قمار لا يباشر أي عمل، ولا يُعطى أي مرتب، هو متقاعد بلا مقابل ..وهكذا قضى آخر أيام حياته منعزلا عن العامة، والخاصة لا يفكر في أحد، ولا يفكر فيه أحدٌ إلى أن تُوفّي سنة 1949 م كما تقدم، فكان عالما مغمرا، وأديبا مهجورا، وكنزا مطمورا..رحمه الله رحمة واسعة، وعفا عنه، وغفر له.
آثاره الأدبية
       أمّا آثار الشيخ العلاّمة محمد البُرّيّة الزبيري هي كثيرة، إلاّ أنها مطمورة طمرها هو في حياته، وطُمرت كذلك بعد وفاته..وقد حدّثني هو مشافهة عن بعض آثاره الأدبية فقال:
« في سنة 1320 هـ زار شيخ زاوية عين ماضي محمد البشير التجاني زاوية تماسين، وكنت فيها معلما،فأنشأت قصيدة مدحته بها،وأنشأتها قائما بحضرته، وحضرة أولاد الزاوية على عادة الشعراء، ومطلع القصيدة هو:
إنْ رمتَ أن تُعطى السعادة في غد ** فاخصص مديحك آل بيت محمد
فهم لنا سُفُن النجاة من الــــردى ** وهم الشفعاء يوم المـــــــــــوعد
منْ لم يكن اهتدى بهم في سعيه** ظلّ السبيل وماله من مهــــــتدي»
     وقال:
«…وقال وفي سنة 1350 هـ التقيت بأديب من أحفاد الشيخ المكّي بن عزوز، وتذاكرنا الأدب، وتجاذبنا أطرافه حتى طلب الحفيد مني أن اضمن له البيتين التالييْن، وهما:
نشرتْ عليّ غدائرا من شعرها * خوْف الفضيحة والرقيب المُوبق
فكأنه، وكأنني،وكــــــــــــأنها * صُـــــــبحان باتا تحت ليل مطبق
    فقلتُ له الوصال إذا لم يتقدم عليه الجفاء، والمشاقّ لا يكون مستملحًا..قال المتنبي:
فالحبّ حيث العدا والأسد رابضة
حول الكناس لها غابٌ من الأسل
     وأنشدتُ بيتين تضمّنا البيتين الأوليْن، فقلت:
لمّا التقينا بعد طول جــــــــفائنا
وقد أوعدتني بالوصال المُونـق
نشرتْ عليّ غدائرا من شعرها
خوف الفضيحة والعدو المُوبق
باتت مُعانقتي، وبــات رضابها
راحي فما أحلاه من متعــــشّق
فكأنه، وكأنني، وكـــــــــــأنها
صبحان باتا تحت ليل مُــطبق»
     قال الشيخ محمد البرية:
« فاستحسن الأديب هذا التضمين، وقيّدْتُه له في كُنّاشة.وفي سنة 1320 هـ اجتمعت مرّة بالأستاذ العلاّمة الشيخ لخضر بن الحسين ببلدة قمار، وتلقّيتُ منه إملاء هذه الأبيات:
حرّمتْ ليلى علينا وصْــــلها
ليتها باللحظ يــــوما تُــلمِّـح
حملت قلبي تباريــــح الجفا
فغدتْ روحي ببحر تــــسبح
حبست قلبي بسجن ضـــيّق
ثم قالت لي تسلّى تــــــفلح
حلفتْ ليلى يمــــــــينًا أنها
في ميادين التصابي تمرح»
      قال الشيخ محمد البرية وهو بصدد الحديث عن أثره الأدبي:
« …في سنة 1311 هـ أيام قراءتي لابن تركي علي العشماوية، وجدت بحاشية الكتاب لغزًا منظومًا هذا نصّه:
ألا يا فــقيهًا أي شخص تطهرا
بماء طــــــهور ثم صلّى وكملا
فقلتم عـــــليه إثمٌ، وأمّا صلاته
فباطلة لا زالت ترقى إلى العلا
        فقلت مجيبا عنه بما صورته:
فـــــــــذلك ماء من آبار ثمود قد
تخصص بالفرع المقرر للــــملا
كما هو في الزرقاني للعدوي قد
تحلى مقامات الرضا وتـــــبجلا
    ويقول في سنة 1314 هـ أيام قراءتي لمختصر خليل في باب " الوقت المختار" نظمتُ أبيتا ذكرت فيها الأشهر القبطية مع مطابقة كل شهر منها بما يقابله من الأشهر الرومية، الأبيات هي:
إذا رمتَ تــــعريفًا بأشهر قبطهم
فبادرْ لنظْمٍ قد أتـــــاك مـــــــسلسلا
فأولها توت فبابه فــــتهاتــــــــــــر
كيهك فطوبه ثم أمـــــشير انجــــلا
كذا برهمات فيم يرمـــــود يشنس
فبونه أبيب ثم مسرى مــــكــــملا
وإنْ تُرد الإيضاح عـــمّا زبـــرته
لتخرج من ريب التشبه حــيهــلا
فنون بروم هو غشت وهـــــكــذا
تقابل أعداد الشهور عـــلى الولا
ويسأل ذو التقصير أعني محمدا
حميل العطايا من إله تـــــــفضّلا
     والملاحظ في هذه الأبيات أن الشيخ محمد البرية كتبها لي بخطّ يده في آخر رسالة لي في الفوائد الفلكية قدمتها له جملة رسائل لي ألّفتها ليطلع عليها، فأطلع على رأيه فيها، فكتب هذه الأبيات ضمن تقريظ لرسالة الفلك المذكور، وذلك في محرّم الحرام عن سنة 1364 هـ .
      قال الشيخ:
« وبيان ذلك أن توت يقابله غشت، وبابه يقابله شتنير، وهكذا ..الخ. ثم يقول: إني رأيت بعض الأدباء يجعلون للشتاء كافات، ويحصرونها في سبع وأكثر، وأنا أرى أن كل كافات الشتاء محصورة في كاف واحد، وهو كاف الكيس ..أعني المال، نظمت في ذلك بيتين فقلت:
يقولون كــــــــــــــافات الشتاء كثيرة
وما ثمّ إلاّ الكيس والــــــــــــكلّ تحته
نعم ترغب العّزّاب في الكسّ وهو إنْ
تكن لست ذا كيسٍ وإنْ جــــــلّ عفته
       وقال الشيخ البرية وهو بصدد حديثه عن الأدب، وعن أثره فيه: أن والدي توفّي سنة 1311 هـ رثيتُه بقصيدة أولها هذان البيتان:
جفوني بمياه الصبابة تهـــــــــمع
وقلبي بحيات التفرق يـــــــــلسع
وأرميتُ سهما للحشا جاء صائبا
فلله ما أعداه إنه مــــــــــــسرع
    وقال وفي نفس الوقت كنت ملازما قراءة المختصر للشيخ خليل فكتبت بظاهر المتن هذه الأبيات، وصرت أتمثّل بها مخاطبا خليل المختصر، وهي هذه:
يا خليلي إنْ هجرت رقــــادي
وهمومي، وكربتي في ازدياد
كان لي والد عليّ شفــــــوقٌ
غاب عنّي مجـــــاوِر الألحاد
وجرت لي من بعد ذلك أمور
صرتُ منها مفتّت الأكباد
      ثم قلتُ:
عجبت لحكم الدهـــــــر بيني وبينه
وما قد مضى من حادثات الأأألياليا
قضى للذي لا يفقه الضرب بالعصا
بلين وبالغر الدواهي قضى لــــــيا
فيا ليتني لو كنت مثل بهــــــــيمة
أطوف مع الأنعام في البيد فــــاليا
        ويستمرّ الشيخ البُريّة في حديثه الأدبي ممليا عليّ ( القول للشيخ تليلي) ما جادت به قريحته من نظْمٍ ممتعٍ، فيقول:
كنت في قرية تماسين معلما ومدرسا رسميا، وقد مرّ والي الجزائر العام( الفرنسي) بتماسين، وفي مروره أنعم على الشيخ عبد القادر بن الحاج السعيد برتبة " آغا " واحتفل أهل زاوية تماسين بالسيدين الوالي، وعبد القادر، فألقيتُ بهذه المناسبة خطابا رحّبت فيه بالضيف، والمُنعم عليه، وختمت الخطاب بأبيات منها قولي:
مقباس شوق في الحشا يــــتضرم
فالجسم مضى والفؤاد مكـــــــــــلم
الصبر يجدي غير من شف الهوى
ما لي سوى اللقيا لذكرك مــــرهم
هل نلتقي يوما بمن أخلاقــــــــــه
تغشى لمرآها البديع الأنجــــــــــم
شهم مدارك رأيه تسمو عـــــــلى
غير الذين تضلعوا إذْ عــــــــلموا
وإذا يجود اليوم غــــــــــيرك من
بعض الذي أحبيته بتـــــــــــــكرّم
فلك المزايا الباهرات فــــــحسنها
حتى عِداتك في كمالك ســــــلّموا
فاخلد زدمْ في العزّ مصـحوبًا بما
تختاره من كل معنى يعــــــــــظم
           وقال وفي سنة 1319 هجرية كنا نجتمع في دار القاضي عبد الغني، قاضي بلدة قمار، وكان صديقي الشيخ المرحوم محمد الصالح بن الخوصاء، وكان أديبا، وكنا كثيرا ما نتجاذب أطراف الأدب، وكانت دار القاضي عبد الغني هي النادي الأدبي لنا، ولا سيّما أيام المولد النبوي الشريف، فكنّا نجتمع للقصيد والمديح فيها، كما كنّا نتبارى في مديح القاضي،فأنشأ مرّة الشيخ محمد الصالح قصيدة في مدْح القاضي مطلعها:
نفحة الطيب عرّجي نحو حي
وعليه مني السلام فحي
        وكان محمد الصالح لا يستعمل الغزل في مديحه، أو في شعره، فقلتُ له: إن الغزل في أول القصيد كالملح في الطعام، فالأولى أن نستعمله، فأنشأ أول بيت في الغول هو هذا:
على الصبّ فاعطف عنه منك بقبلة
بها يشتـــــــــــفي من حرقة بفؤاده
لئن غــــــــــبتم عن ناظريْه ببعدكم
جفاء فــــــــــــأنتم دائمًا بسواده
       فقلت له: أحسنت لولا أنك خاطبتَ في البيت الأول المفرد، وفي الثاني الجماعة أن يكون الخطاب على أسلوب واحد، وطريقة متحدة، فكان الأحسن، إذن أن يكون بين البيتين بيتان آخران يصلانهما ببعضهما مثل قولي( القول للشيخ الزبيري):
على الصبّ فاعطف عنه منك بقبلة
بها يشتـــــــــــفي من حرقة بفؤاده
فقد أنْحل الشوق المـــــبرح جسمه
وأنت أيم الله أقصى مــــــــــــــراده
وقد ذكر وأزجت سميرا مطــــــيكم
وقطعتم بالبين حــــــــــــــبل وداده
لئن غبتم عن ناظريْه ببعـــــــــدكم
جفاء فأنتم دائما في ســـــــــــواده
         قال: فاستحسن ذلك منّي وصار ملازما للغزل، حتى قال تلك القصيدة التي مدح بها القاضي عبد الغني التي تقدم مطلعها.
         وللشيخ محمد البرية قصائد مولدية ينشدها في النادي الأدبي أيام مولد الرسول عليه السلام بدار القاضي، ومن تلك القصائد هذه القصيدة التي منها هذه الأبيات:
أخفي الهوى وتـــــــــذيعه أجفاني
والشوق من ألم الجفــــــــا أفناني
ومني يؤمل راحة من تنـــــــقضي
أيامه في الصدّ والهـــــــــــــجران
لعب الغرام بلبّه وبعــــــــــــــــقله
فنراه بين الناس كالــــــــــــولهان
تحييه ساعات التمنّي بـــــــــاللقا
وتميته يأسا بغير ضــــــــــــمان
لله كم أحيا بها وأمــــــــــوت من
طول النوى وتزايد الأحــــــــزان
وبمهجتي رشأ يميس قــــــوامه
فاق القناة وفاق غصن الــــــبان
ومن العيون النجل قتلى لا القنا
حسبي محبّي قاتلي وكـــــــفاني
يرمين قلبي بالسهام لــــــــذا ترا
ني مضرّجا من قتْل ذي الغزلان
يا لائمي كف الملام فــــــما الذي
ألقاه من تلك الجآذلا فــــــــــــان
لو تدري فيم عذلتني لعــــذرتني
خفّضْ عليك وخلّني وهــــــواني
      ويقول الشيخ محمد البرية في إحدى قصائده مقدما الحمد لله يوافي نعمه، ويكافي مزيده، والصلاة والسلام على منْ لا نبيّ بعده، وبعد:
….فإني كنت فيما مضى من زمان سلف تعاطيتُ كؤوس الهناء الصرف أنشأت أبياتا منمجزوء الكامل في الحضرة التجانية، وذا كالغزل كأن يجرد الشاعر من نفسه يحاوره دلالا، وعتابا، وسؤالا، ويظهر من رموز العشق عليه، وتخييلا لقلة صديق يظهر كنوز الحبّ لديه فيقول:
قد طال ليلي بالسهر
وبشير وصلك مـا ظهـر
أنكثت عهــدا وصـــالنا
وبدت أحــاديث أخــــــر
أم أرجف الواشي فــأبـ
دل صفو ودك بــــالكدر
أتروم تترك وصـل حب
في هواك على خطـــــر
 ما ضرّ لو واصلـــــتْه
جنْح الظلام المحتـــــكر
          يقول الشيخ المرحوم العلاّمة محمد الطاهر التليلي:
هذا ما نقلتُه عن الشيخ نفسه في نسخو أولى كمسودة حرصًا على عدم فوات فرصة النقل، ومع هذا فقد فاتني الكثير الكثير حين لم أسأله عن حياته العلمية، وعن دراسته، وشيوخه، والأنكى من كل ذلك أن النسخة الأولى ضاعت في جملة ما ضاع منّي منمسودات قيّدتُها في أوقاتها، فضاعت، وأكلتها سوسة بني آدم.
 
      
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...