السبت، 16 يناير 2016

الملحمة في الشعر الجزائري


           الملحمة في الشعر الجزائري

مــــــدخل
بقلم: بشير خلف
       الملحمة الشعرية قصيدة قصصية طويلة، تدور موضوعاتها حول الأعمال البطولية لأبطال غير عاديين، وأشخاص في الحرب أو الترحال. وفي كثير من الملاحم الشعرية الأسطورية، كما هو الحال عند الإغريق والرومان، يكون البطل نصف إله، كأن يكون أحدُ أبويه إلهًا والآخر بشرًا. وتدور بعض أنماط الملاحم الشعرية حول بطل أو حدث.

الملحمة الشعرية رمزٌ لأمة توحّدت آمالها
       ولمّا كانت الملحمة قصةً طويلةً ذات حادثة واحدة، أو عدّة حوادث ارتبطت وقائعها بحياة جماعة توحّدت منها الآمال، وتشابكت المصالح كان لا بدّ من وحدة موضوع يقوم عليها الفنّ القصصي، وتنساق الأحداث معها إلى الحلّ المنطقي، وتتباين مراحل العمل الواحد في تعدّد الأناشيد لبلوغ الهدف الإنسانيّ المطلوب.
        وفيما تمتزج الأسطورة بالحقيقة والخيال بالواقع خرافيون ، يتصفون بصفات لا يتوفر عليها البشر ، وبأمزجة بدائية سريعة التحول والتلون وأحسن شاهد على الشعر الملحمي الإلياذة والأوديسا للشاعر اليوناني هوميروس الذي يعـــد أب الملاحم، وقد عاش في القرن العاشر قبل الميلاد .

النفَسُ الملحميُّ خافـــــتٌ في الشعر العربي
       بالرغم من انتشار أدب الملحمة بين مختلف الشعوب والأمم فإننا لا نجد لهذا الفن أثرا في الشعر العربي  سوى مقطوعات قصيرة، وقليلة، وقصائد محدودة ذات نفس ملحمي. ولكن لا نستطيع أن نضمها إلى الملاحم العالمية  الشهيرة كالتي عند اليونان، والرومان، والفرس. حقاً لقد عرف العرب الشعر الحماسيّ، ذلك الذي كان الشاعر يتغنّى فيه بمفاخر قومه، ويهجو خصومهم، ويدخل الحروب شجاعًا ، ويخرج منها ناجحًا، وواصفًا تلك البطولة التي خاضتها، أو كانت تخوضها قبيلته.
       ويقول في هذا المجال الدكتور كمال اليازجي : « إذا جاز لنا أن نُحمّل الشعر العربي شيئا من قبيل الملاحم، فالذي يبدو لي أن هذه القصائد التالية ربما تكون أقرب إلى الملاحم:
- أرجوزة ابن المعـتز في مدْح المعتضد (418 بيت) التي تصف قيام بيت العباسي، واستقلاله بالخلافة، وازدهار الخلافة العباسية.
- أرجوزة ابن عبد ربه في مدْح عبدالرحمن الناصر (442 بيت) التي تصف تحــوّل الإمارة الأموية في الأندلس إلى الخلافة على يد عبدالرحمن الناصر، وبلوغها في عهده أوْج ازدهارها.
- تائية ابن الفارض الكبرى (761 بيت) التي نستطيع أن نحسبها ملحمة صوفية، تروي حكاية جهاد النفس ضد أباطيل الدنيا، وتحررها من مغريات الحياة، وتساميها إلى الله من أجل الاتصال به و الفناء فيه».

السيرة الهلالية.. إلهام أدبي وإبداع موسيقي
        من الباحثين من أهّل " السيرة الهلالية" إلى أن تكون " إلياذة العرب " والملحمة الكبرى على رأس السيرة الشعبية العربية، والأشهر في الأدب العالمي، لتظلّ منبعًا للإلهام، وللإبداع الأدبي والفنّي.
       ثم إن السيرة الهلالية صنّفتها اليونيسكو من التراث الإنساني باعتبارها من أكبر الأعمال الأدبية، والأقرب، والأكثر رسوخًا في الذاكرة الجماعية، تُقدّر بنحو مليون بيت شعر، تمّ تلحينه، وغناؤه بأشكال عربية تبعًا للهجة، وتراث، وموسيقى، وغنائيات كل منطقة.

البدايات في الجزائر تصدّرتها المغازي
          كسائر البلاد العربية لم يعرف الأدب الجزائري في القديم الملاحم، إنما عرف ألوانًا أخرى من الأدب كالمغازي التي كان يلقيها الراوي في السوق، واحتفالات الزواج، والختان، وإقامة النذور للأولياء التي تُــسمى " وُعْـــدة "، والتجمعات العامة في الساحات، والمقاهي، والدكاكين.. هي الفضاءات التي يقوم فيها الراوي المحتـرِف بإيصال ما يحمله من تراث قصصي إلى الجماعة، حيث يُفسح مجالٌ مكانيٌّ للراوي على شكل دائرة يكفي لأدائه الحركي، ويتحلق  حوله الحضور؛ وقد يكون بمفرده، أو برفقة عازف، أو عازفين، وقد يكون الاثنان، أو الثلاثة من الرواة يتبادلون فيما بينهم الرواية ،والعزف مستخدمين الرّبّاب، والقصبة والبندير؛ وهي آلات موسيقية تقليدية شائعة في منطقة الجنوب الشرقي الصحراوي، وهي قصص منظومة وملحنة.
       لقد كان روّاة المغازي الشعرية يُسقطون مضامين رواياتهم على الواقع المعيش، فالمغازي تحكي حروب المسلمين مع الكفّار، وتشيد بشخصيات البطولة الإسلامية كالإمام علي، وعبد الله بن جعفر وغيرهما؛ ومن المؤكد أن جمهور المستمعين وهو يستمع إلى هذه المغازي الملحمية يحدث عملية زحزحة للأحداث التاريخية، فتصبح كأنها تصوّر واقع هذا الإنسان الجزائري الرازح تحت ظلم الاستعمار، ويصبح هو امتدادا لجيش المسلمين الأول، ويصبح مستعمر بلاده صورة مكرّرة لجيش الكفّار؛ بل يوظف أحيانا الشاعر الشعبي الجزائري حتى الأسطورة التي تقوم كما هو معروف بالتأليف بين عناصر خيالية، وأخرى واقعية تتجسّد الأولى في الأدوات السحرية، والقدرات الخارقة.     

1 ــ المغازي تتحوّل إلى عملية إسقاط لواقعٍ بئيس
         فالمغازي وإنْ كانت تمثل مجموعة من المواقف البطولية لكل موقف منها استقلاله الموضوعي فإنها ترتبط فيما بينها، مُكـــــوِّنة وحدة كبيرة من العمل البطولي؛ إننا إذا قمنا بتنسيق جميع المغازي في وحدة متسلسلة لحصلنا على عملٍ أدبي يتوفر على كثير من شروط الملحمة كنوع أدبي وسيكون بطل هذا العمل الإمام علي في نصفه الأول، وابن أخيه عبد الله بن جعفر في نصفه الثاني.
       الدكتور عبد الحميد بورايو في دراسته لأدب المغازي ميّــز بين عدة عناصر تدخل في تكوين هذا الأدب وهي : العنصر التاريخي، العنصر الخرافي، العنصر الواقعي.
      ما يهمّنا نحن في هذا المجال هو العنصر الواقعي ، حيث أهّـــل هذا العنصرُ رواية المغازي للقيام بدورها الوظيفي في المجتمع الجزائري في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فقدمت نماذج بطولية لعبت دورا بارزا في بثّ روح المقاومة، والتحريض على الثورة؛ ونستطيع أن نقدر ما مثلته الصورةُ النموذجيةُ لأبطال قصص المغازي المروية الذين قاتلوا تحت راية الجهاد، اذا ما علمنا أن جميع حركات المقاومة، والثورات الشعبية التي واجهت الاحتلال الفرنسي في الجزائر ابتداء من ثورة الأمير عبد القادر، وانتهاء بثورة التحرير المسلحة قد رفعت جميعُــها هذه الراية شعارا قاوم تحته الشعبُ الجزائريُّ الغزوَ الاجنبي، ولا شك أن الدور الذي حققه أدب البطولة الإسلامية المتمثل في المغازي في مجال تدعيم وتغذية الشعور القومي في نفوس المواطنين، والتعبير عنه؛ هو دور لعــــــبته السِّيرُ الشعبية على مدى تاريخ الشعب العربي، وهــــو ظاهرة ترجع الى حيوية التراث الشعــــــبي المُعـــبِّر عن الوجدان الجمعي للجماعة الشعبية 

2 ــ المغازي في الجزائر نتاجٌ أدبيٌّ جمعيٌّ
         ان المغازي المروية شفاها في الجزائر رغم انها اعتمدت على النتاج الفردي في البداية هي بفعل الانتقال الشفهي واعادة الانتاج من طرف الرواة المرددين اصبحت نتاجا جمعيا يدل انبعاثها في الجزائر اثناء الاحتلال الفرنسي على استجابة الرواية الشعبية لحاجة جمعية واذا ما قارنا الروايات الشفهية بالمدونات نلاحظ استجابتها للشروط الاجتماعية والسياسية التي عاشها المجتمع الجزائري في ظل الحكم الاستعماري.

3 ــ الشعر الشعبي الجزائري
           إن الشعر الشعبي الجزائري في بداياته الأولى كان شعرا شفاهيا نبع من الوعي الجمعي حتى ولو أنتجه الفرد، لأن هذا الشعر يعبر عن الجماعة التي تندمج في تلقّيه. ذلك أن الشعر الشفاهي مرتبط بالأداء أمام جمهور المتلقّين الذين يلعبون دورا ما في توجيه النصّ الشفاهي حسب الظروف الزمكانية.
        في الجزائر ومنذ بدايات ظهور الشعر الشفاهي الذي يُتداول وينتقل عن طريق السماع، والمشافهة والحفظ، وينتقل من محفل إلى آخر عن طريق الذاكرة وحدها ، فهو متغيّر بالتعديل والإضافة، وربّما قصيدة واحدة بها خمسون بيتا في البداية قد تتضاعف عدّة مرّات.
        كان الشعر الشفاهي في الجزائر، ولا يزال من أهمّ أشكال التعبير يتداوله الشعب في المناسبات الوطنية، والدينية، والاجتماعية. عـــبّر الشاعر الشعبي أيام الاستعمار عن القحط ، والجفاف، وضيق العيش؛ كما عبّر عن سخطه من الاستعمار، وأعوانه الذين كانوا يُثقلون كاهل الشعب بالأتاوي والرشاوي، كما عبّر عن هويّته، بدءا بحدود قبيلته، مرورا بمحيطه الجهوي، ووصولا إلى الانتماء القومي والوطني، بدأ هذا الشعر الشفاهي مفتقرا في البداية إلى النضج السياسي عند الشفاهيين البدو، ليأخذ في التبلور والوضوح، والنضج مع بروز الحركة الوطنية والإصلاحية بخاصة في الحواضر أين وصلت دعوات حزب الشعب أوّلا، ثم طموحات جمعية العلماء.
        لقد ارتبط الشعر الشعبي الجزائري منذ بداياته الأولى باللحظات الحاسمة في تاريخ الجزائر، لا سيّما بعد تعرّضها لحملات الغزو؛ إذ وقف الشاعر يسجل حملات الصليب، ويدعو بقصائد حماسية إلى ردّ هذا العدوان، وضرورة الانتصار  للهلال في مواجهة الصليب، وفهم الشاعر ألشعبي أن شعره وسيلة من وسائل الدّعم، والتجنيد للشعب من أجل الحفاظ على هويته.
          وحين اندلعت ثورة التحرير المباركة كان الشاعر الشعبي الجزائري جنديا من جنودها يسجل مآثرها، ويدعو إلى مؤازرتها، وينقل أحداثها من منطقة إلى أخرى، راويا شعره في  الأسواق، والأفراح، والمقاهي، والبيوت، والتجمّعات، ناعتا الذين خانوها بأبشع الصفات، مؤديا بذلك أدوارا كثيرة مثل: الإعلام والدعاية، وحشّد الهمم، وشحذها للانضمام إلى الثورة على الرغم من أن أشعاره ليست بالضرورة نابعة من فلسفة سياسية؛ وإنما لبست ملامح السياسة، وأشارت إلى القضايا بالفن الشعبي المشحون بالسذاجة الحلوة، وعفوية الخاطر السريع، وانطوت على إرادة في التغيير إلى الأفضل.
       إن العديد من قصائد الشعر الشعبي الجزائري التي تناولت واقع الإنسان الجزائري، ومقاومته للاستعمار الفرنسي في القرنين الماضيــــين، هي قصائد طوال أشبه بملاحم بطولية، يمكن إدراجها في الأدب الملحمي.
          ظهر شعراء كثيرون في معظم جهات الوطن يصعب حصرهم، وفيهم الكثير صاروا فحولا في هذا الشعر، إذ تعدّدت قصائدهم، وتنوعت مواضيعهم؛ إلاّ أنهم جميعا لم يبرز منهم شاعر تفرّد بقصائد ملحمية على غرار الأمم الأخرى غير العربية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...