الجمعة، 1 يونيو 2018

مدرسة الذكور بقمار..دوْمًا مدرسةٌ رائدةٌ

مدرسة الذكور بقمار..دوْمًا مدرسةٌ رائدةٌ
بقلم: بشير خلف
         تُعتبر مدرسة الذكور سابقًا " رضا حوحو" حاليا بمدينة قمار مدرسة رائدة، متميّزة، متفرّدة لا لكونها مدرسة قديمة من حيث إنشاؤها في سنة 1907 م؛ بل لدورها الريادي مذ ذاك التاريخ إلى يوم الناس هذا. إن مدرسة الذكور في الفترة الاستعمارية ما قبل الاستقلال قامت بدورها التعليمي بمعية مدرسة البنات المحاذية لها (1948 م) تحت الإدارة الفرنسية بتطبيق المناهج، والبرامج الفرنسية، وبطبيعة الحال كلّ ذلك باللغة الفرنسية، إلى جانب مدرسة " النجاح" التي فتحت أبوابها في الثلاثينات من القرن العشرين تحت إشراف جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبطبيعة الحال كانت مناهج المدرسة، وبرامجها مستمدّة من شعار الجمعية: الإسلام ديننا.العربية لغتنا. الجزائر وطننا. وظيفتها ترسيخ هُويّة الأمّة الجزائرية.

 هذه الثنائية بين مدرستيْ " الذكور" و " النجاح " أدّت بسكّان قمار إلى إرسال أبنائهم إلى المدرستيْن كي ينهلا المعرفة منهما، الفرق فقط في لغة التعليم. ولعلّ الذين لا يزالون على قيْد الحياة يتذكرون أن العديد من التلاميذ حينها كانوا ينهلون المعرفة من ثلاثة مصادر: الكُتّاب، مدرسة النجاح، مدرسة الذكور. ثم إن مدرسة الذكور منذ إنشائها تعلّم فيها أبناء مدينة قمار، وأبناء بلدة تغزوت، سيّما أبناء الأحياء المحاذية لقمار، والقريبة من المدرسة حتّى إلى عقْد السبعينات من القرن الماضي. من هذه المدرسة تعلّم الآلاف من التلاميذ، والميئات من التلميذات، ومن المدينتين، وانتقلوا إلى مستويات تعليمية، ومراكز تكوين. الوثائق بالمؤسسة تؤكد هذا.



     إنّ العوامل التي ساعدت على أن تكون هذه المدرسة رائدة حقًّا، ويحقّ لأهل هذه المدينة، وكل منْ له علاقة بالتربية والتعليم، أو كان له الشرف أن استقرّ بها متعلما، أم معلمًا، أم عاملا، أم مشرفًا ومسؤولا كحالي عملت بها معلما، وأشرفت عليها مشرفا ومكونا لعقديْن من الزمن 1980 م/ 2001 م ، أن يشيد بها كصرْحٍ تربوي، تعليمي، ثقافي هي عوامل عديدة ساعدتها على أن تكون رائدة بعد الاستقلال وحتى إلى أيامنا هذه، نذكر بعضًا منها: إقبال الأهالي بشغفٍ كبير، واهتمام أكبر منذ أول موسم دراسي بعد الاستقلال، سبتمبر 1962 م على تمدرس أبنائهم بالمدرسة دون تردّدٍ، أو خوْفٍ على هُويّتهم، تعويضًا لحرمان التعلّم الذي حُرموا منه في صغرهم، وشبابهم، ارتأوا أن يعوّضوه لدى فلذات أكبادهم.
      احتضنت المدرسة الجميع من كل شرائح المجتمع القماري، والتاغزوتي، وفّرت للكل المقعد البيداغوجي، والوسيلة التعليمية المُتاحة، والرعاية الصحية الكافية: المراقبة اليومية للنظافة. الرعاية الصحية. الوجبة الغذائية اليومية.
       ما كانت الرغبة على التعليم حينذاك مطيّة لاكتساب منافع مادية عاجلة، وما كانت الغاية نيْل الشهادة، وما كان الهدف التباهي بالمستوى؛ إنما كان الهدف الرئيس هو العلم.. العلم وحده، فكانت المدرسة في الموعد، وما تخلّتْ عن رسالتها.
    كانت سبّاقة في فتْح المجال أمام شباب البلدة الذين تمدرسوا فيها، وفي مدرسة النجاح كي يتولّوْا وظيفة التعليم بها بحماسٍ، وبرغبة صادقة، وإخلاصٍ في إفادة الأطفال المتعطّشين إلى المعرفة؛ وقد برهنوا حقًّ أنهم ذوو فضْلٍ، وإخلاصٍ لمهنة التربية والتعليم؛ وحبًّا لا حدود له لمدينتهم، وأبنائها، وأهاليهم. إنّ إخلاصهم، وجلَدَهم، وصبرهم، وجدّيتهم رسّخت في المدرسة عادات الانضباط، العمل المركّز، الحرص المستمر على المستوى التحصيلي المتصاعد، ممّا جعل الأولياء دومًا في سباقٍ لتمدرس أبنائهم بها إلى تاريخنا الحالي. 

      كفاءة وقدرة، وإبداع منْ تولّوْا إدارتها الذين ما كانت المسؤولية مبتغاهم؛ إنما كان الأمر أسمى؛ حيث طوّعوا الإدارة، ووظفوها لخدمة التربية والتعليم، وتنوير عقول الصغار والكبار معًا بأن فتحوا دروس الفصول الليلية لهم، وجّدوا المعلمين لذلك. مثلما اهتمّوا بالمتعلّم انصبّ اهتمامهم أيضا بالمعلم الذي وفّروا له ما يساعده على التكوين المعرفي المهني، واكتساب خبرات التدريس الفعّال. وعملوا على ربْط علاقات موسّعة مع السلطات التربوية، المحلية، جمعيات الأولياء، المجتمع من أجل العناية بالمدرسة، وإضافة مرافق أخرى؛ كما توفير الوسائل المادية والتربوية لتنفيذ المناهج المقرّرة، وتحسين السلوك العام بين الجميع، وتوفير سبُل الراحة، والجوّ الحميمي الأخوي للمعلمين والمعلمات.
      كانت هذه المدرسة ولا تزال الفضاء التربوي والثقافي لعمليات تكوين، ورفْع مستوى الأسرة التربوية سواء في تحسين تقنيات التدريس، والتبليغ، وتقنيات الأداء، أو تقديم المناهج الجديدة، وتحليلها، وتشخيص الوضعيات البيداغوجية، وتطبيق الدروس النموذجية، وكذا استضافة الشباب والشابات المقبلين، والمقبلات على مهنة التدريس في فترات تكوينية تدريبية، وأيام بيداغوجية تؤهلهم مبدئيا كي يأخذوا بناصية المهنة. 
      يجدر بنا في هذا المقام أن نذكر بعضًا ممّا قدّمته هذه المدرسة للمجتمع القُماري خاصة، والجزائر هامّة.
1 ــ كان الفضل الكبير ولا يزال لهذه المدرسة من خلال مستواها التربوي التعليمي الراقي أن أعطت الأرضية المتينة للآلاف من أبناء، وبنات قمار من أن واصلوا تعليمهم بثبات، ثم صاروا نعم الكوادر في جميع المجالات في الجزائر، وخارجها في أوروبّا، الولايات المتحدة، كندا. نعم الإطارات في التربية والتعليم، في التعليم العالي، في الاقتصاد بكل مكوناته، في الصحة، في الطاقة الفيزيائية، في المحروقات، في الإدارة، في كلّ مناحي الحياة.
2 ــ من هذه المدرسة ارتقى العديد من مدرسيها إلى مناصب أعلى في التربية والتعليم، في التربية والتعليم، في الإدارة التربوية، في التغذية المدرسية، في التوجيه المدرسي، في الإشراف التربوي.
3 ــ هي الفضاء الثقافي الأول، الأفضل لكل التظاهرات الثقافية التي تُنظّم بالمدينة، والكلّ لا يزال يتذكّر " المهرجان الثقافي لمدينة قمار" في عقد السبعينات من القرن الماضي؛ حيث كانت مدرسة الذكور الفضاء الوحيد بالمدينة الذي احتضن الوفود القادمة من ولايات الوطن: إقامة، إطعامًا، نشاطًا ثقافيا ترفيهيا. كانت ملتقى الفنانين التشكيليين، وأعمالهم. كانت منتدى الأدباء والمحاضرين. كانت الركّح للمسرحيين. كانت نادي السينمائيين الشباب الهواة. كانت واحة التعارف والتقارب.
4 ــ هي اليوم كما كانت منذ موسمها الدراسي الأول إثر الاستقلال، بفضْل غيرة معلميها ومعلماتها ، وحرْص إداراتها، الفضاء الأول لاحتضان المناسبات الدينية والوطنية، فيها تُتلى آيات الذكر الحكيم، فيها يعلو النشيد الديني، يسمو النشيد الوطني، يسمعه يوميا القاصي والداني، فيها يخفق العلم الوطني عاليا.. هي مدرسة لترسيخ حبّ الجزائر، والاعتزاز بها وطنًا لنا جميعًا.
5 ــ هي الفضاء الذي يقترن فيه التعليم النظري بالسلوك التطبيقي في التعامل مع مكوّنات البيئة، والمحافظة عليها، وكذا تشخيص السلوك الفردي والجماعي المرغوب في التربية الإسلامية، والتربية المدنية من خلال مواقف، وأعمال مشخّصة، وتدريب المتعلمين على فنّ التواصل من خلال الأعمال الجماعية، والتفويج، والتطوّع، وممارسة الإعلام المدرسي.
6 ــ مدرسة الذكور، الفضاء الجميل الذي يّكرّم فيه النجباء، كما الأوائل من الناجحين في كل المراحل التعليمية، وكأنّ المدرسة تقول للجميع: منّي كانت الانطلاقة، وإليّ يعود الكل؛ أنا أمّ الجميع. التزكية مني قبل غيري.
               

                  السمعُ أبو الملكات اللِّسانية؟ كتب: بشير خلف العلّامة المرحوم ابن خلدون في مقدّمته: «إن أركان اللسان العربي 4، هي: ...