مساهمتي في ملفــ " ديوان الحياة
" بيومية الحياة الجزائرية ، الموسوم بــ (كُتّاب جزائريون يستعيدون تفاصيل
مدارسهم القرآنية الأولى.. العودة إلى المدرسة الأولى) ليوم الثلاثاء 01/ 09/2015
الذي يشرف عليه الكاتب الإعلامي والروائي الخير شوّار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاتيب القرآن الكريم
.. وعِـــبْق التاريخ
بشير خلف
الثلاثاء 1 سبتمبر 2015
17 0
أُدخِلتُ وأنا صبي لا يتجاوز عمري الخمس
سنوات الكُتّاب ببلدتي الصحراوية في منتصف الأربعينات من القرن الماضي .. بلدتي
كسائر البلدات الجنوبية، وكل ربوع الجزائر التي منع فيها الاستعمار الفرنسي تعليم
الحرف العربي ،وُجدت ببلدتي تاريخ ذاك غير مدرستيْن: الأولى أنشأها الاستعمار
الفرنسي سنة 1907 لتعليم أبناء الفرنسيين من موظفين ومدرسين، وأبناء بعض
الجزائريين القلّة المتعاملين معه في البداية، والمدرسة الثانية هي مدرسة النجاح
التي أنشئت سنة 1939 من طرف الأهالي وكان يدرّس بها أساتذة من نفس البلدة درسوا
بجامع الزيتونة بتونس ثم عادوا إلى مسقط الرأس، يدير المدرسة حينذاك الشيخ المرحوم
العلاّمة محمد الطاهر تليلي.
أذكر أن المدرستين كانتا تضمان نفس
التلاميذ، إذ أولياؤهم ممّن هم في مستوى معيشي مقبول، ولا يحتاجونهم كي يكونوا
جانبهم في أعمال الفلاحة، أو التجارة، فكانوا يستفيدون من المدرسة الفرنسية، ومن
المدرسة العربية التي كانت برامجها وفق برامج مدارس جمعية العلماء، وبطبيعة الحال
فإن خريجي المدرستيْن وجدوا أنفسهم بسهولة في أسلاك الوظيف بعد الاستقلال، وفي
مواقع المسؤولية؛ وللأمانة التاريخية فإن كانت هذه العائلات قلة من التركيبة
السكانية بالبلدة، فإنها كانت على علاقة متينة مع السلطات الفرنسية حتّى خلال
الثورة التحريرية.
البقية من السكان الذين يشكّــلون
الأغلبية، ولا موارد رزق لهم غير ممارسة الفلاحة الصعبة كزراعة النخيل والتبغ، وهي
أقرب إلى الفقر منها إلى الكفاف بعضهم لم يتمكن من تعليم أبنائه لا في الكُــتّاب،
ولا في المدرسة، والبعض الآخر وجّه أبناءه نحو التعليم القرآني في الكتاتيب التي
كانت منتشرة في كل مساجد البلدة، والزوايا من معلمي قرآن وأئمة كلّهم متطوّعون.
ممّا أذكره أن السلطات
الفرنسية في الأربعينات من القرن الماضي سعت بكل الوسائل لضمّ أبناء هذه الطبقات
الفقيرة للمدرسة الفرنسية بالبلدة، البعض استجاب خوْفًا مُكرها، والأغلبية هرّبت
أطفالها، وغيّبتهم بعيدا حتى لا يراهم أعوانها، وممّا أذكره أن شيخ البلدة المساعد
لـ " قايد المدينة " وممثل السلطات الفرنسية طلب من والدي رحمه الله
توجيهي نحْــو هذه المدرسة، فبعفوية الجزائري الأصيل الأمّي والمتشبّع بالروح
الدينية البسيطة، والذي لا يريد لابنه تعلّم لغة المستعمر، هرّبني من البلدة
وغيّبني مدة أسبوع كامل في أطرافها الفلاحية البعيدة، وشيخ البلدة يبحث عني وعن
أمثالي دون جدوى، ووالدي مُــصرٌّ على عدم انضمامي إلى المدرسة، وقال قولته التي
لم، ولن أنساها:
« لن أُدخل ابني مدرسة
ستُخرجه لي كافرا فيما بعد»
كسائر أبناء بلدتي الفقراء انضممت إلى
الكُتّاب في سنٍّ مبكرة، وكان التعليم تقليديا يُكتفى فيه بتعليم الكتابة، وتلقين
القرآن الكريم دون زيادة، وكما قال العلاّمة ابن خلدون:« فأمّا أهل المغرب فمذهبهم
في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرّسم
ومسائله، واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم،
لا من حديث، ولا من فقه، ولا من شعر، ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه، أو
ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة.»
وممّا أذكره أن معلمي
الأول " الطالب " رحمه الله، والذي واصلت معه حتى سـورة " يوسف
" له سلوكات غريبة منها أنه في الحصة الصباحية يخصص نصفها الأول إلى تلقين
الصغار الحروف والحركات بالإيقاع الصوتي الجماعي، وسماع ما حفظ الكبار ممّا أملاه
عليهم وكتبوه في نفس الصبيحة، أو بالأمس؛ أمّا النصف الثاني فيكلف الكبار بتحفيظ
الصغار السور القصار، وينتقي ثلاثة صبيان أو أربعة، اثنان يكلفهما بتدليك ساقيْه
اللذيْن يكون مدّهما عن آخرهما فيتعاون الصّبِـــيان، أو يتكفّل كل واحد بساقٍ،
ولمّا يتعب الاثنان يحلّ محلّهما الصبيان الآخران؛ ولمّا تكتمل حصة التدليك، أو
" المسْد" كما كُــنّا نطلق عليها ينتقي " الطالب " أحد
الصبيان الغير الأربعة، ويكون قد بسط على ركبتيه برنوسا لـ " التصدير"،
أي زخرفة حواشيه بخيوط ذهبية، إذ هو يخيط والصبي يدخل الخيوط التي تكون موزعة بين
أصابع يديه بطريقة فنية لتشكل الأيقونة التي يرغبها " الطالب "..هي
ذكريات رغم ظروف الفاقة تركت بصماتها الجميلة .
في أيامنا هذه تنوّعت وسائل تعلّم، وحفظ
القرآن الكريم بفضل التكنولوجيات السمعية البصرية من حيث تقريب الفهم، والدّربة
على الحفظ، والأداء الصوتي من ترتيل وتجويد؛ إلاّ أنّ هذا ليس في متناول الجميع.
في أيامنا هذه المدارس القرآنية في المساجد، أو المنشأة مستقلة من طرف المواطنين،
أو المدارس القرآنية بالزوايا لا تزال تؤدي وظيفتها، بل تدعّمت وكثُرت، وتضاعف
الإقبال عليها في الأرياف، والبوادي، ومدن وبلدات الجزائر العميقة، وطريقة التعلّم
بها، والتحفيظ لم تتغيّر كثيرا فلا تزال اللوحة، والطين، والسمق، وقلم القصب
الأدوات الرئيسة؛ وما تغيّر حسْب ما ألاحظه من خلال أحفادي أن طريقة التحفيظ تغيّرت
بعض الشيء، من ذلك أن معلمي القرآن المتمرّسين، والصبورين اختفوْا، وحلّ محلّهم
شباب إمّا متطوّعون، أو أئمة شباب متخرّجون من معاهد التكوين لا يكلّفون أنفسهم
عناء مع الصبيان حيث يكلفون الصبيان الكبار بنسخ ما يحددونه لهم من المصحف في
منازلهم على اللوح ويحفظونه، وفي الغــد يعرضونه عليهم للتقييم والتقويم، وأمّا
الأطفال الصغار فيتكفّل بهم هؤلاء بعد عرْض ما حفظوه.