السبت، 23 أبريل 2022

 

منح حياته للجمال والفنّ التشكيلي



 بقلم: بشير خلف

        عشق الرّسم منذ صغره، في آخر مرحلة التعليم الابتدائي بمدرسة الذكور بقمار كان يتفاجأ به معلِّمُه المرحوم شيحه محمد الطاهر أثناء إنجاز التلاميذ تمارين مادة تعليمية، يرسم بدل إنجاز التمارين. كان بدل أن يشجعه، يقسو عليه بالتقريع.

 موهبة فنية وجدت حريتها

     في سنة 1967م تحوّل إلى المعهد التكنولوجي بمدينة الأغواط للتكوين كمربٍّ، ومعلّمٍ، في تلك المرحلة أطلق العنان لموهبته، حيث وجد فضاءه الحرّ الواسع لإبراز موهبته، وتفتّحها، بالاحتكاك بأساتذة مختلفي المشارب، والتخصصات من الجزائر، والعالم العربي، وطلبة كُثّرٍ من ساكنة ولاية خينذاك ممتدّة الأطراف: وادي سُوف، ورقلة، تفرت، المغير، جامعه، غرداية، الأغواط.. هي ولاية الواحات؛ تلكم الفسيفسائية البشرية، ساعدته في اكتساب شخصية اجتماعية، وعلاقات جديدة، متفتحة في أن تبدأ تظهر هُــويّته الفنية التي زاوج فيها بين الرّسم بمفهومه الواسع" الفن التشكيلي" و " الخط العربي".

 


فنّان إعلاميٌّ قدير

      تعارفنا في صائفة 1967م قبل توجّهه إلى الأغواط، بعد نحْو ثلاثة أشهر أُفاجأُ برسالة " دسمة" وصلتني منه، فكانت مجلة من إعداده الشخصي، وبخطّ يده، مجلّة ثقافية، فنية، ترفيهية: نصوص خفيفة، ترويحية، شعر، نُكت وطرائف، رسوم كاريكاتورية، بروتريهات كاريكاتورية لشخصيات فنية، ثقافية. استمرّت المجلة تصلني شهريا حتى نهاية السنة الأولى من سنتيْ تكوينه لتتواصل مع السنة الثانية.

 مدرّس.. مكوّنٌ.. مبدع الجمال

      بعد انتهاء تكوينه، وتخرّجه معلّما واستئناف نشاطه مدرِّسًا في سبتمبر 1969م بمدرسة النخيل بمدينة الوادي، ظهرت موهبته كفنّان تشكيلي أعطى لمدرسته موهبته، وعطاءه الفني حيث حوّلها: ساحة، حجرات إلى معرض فني تشكيلي، موظِّفًا ريشته السحرية في توظيف الألوان لتشكيل براءة الطفولة تحفّها الطبيعة بأزهارها، وورودها، وحيواناتها، وجمالياتها المكانية؛ بل وتوسّع عطاؤه الفنّي إلى مؤسسات تعليمية أخرى.

         ذاع صيْتُه وسطع نجمُه، وتوسّع مجالُ إشعاعه، فكانت لوحاته للطبيعة العذراء: شطوط البحار، الجبال المكلّلة بالثلوج، الأنهار المنسابة بين المروج، الكثبان الرملية الذهبية، حيوانات إفريقيا في ممالكها الغابية. اهتمّ في تلك الفترة وبعدها برسم بروتريهات لشخصيات ثورية جزائرية، وشهداء ثورة التحرير خاصة في منطقة وادي سُوفْ، حيث أوّل فنّان تشكيلي رسم صورة البطل الشهيد حمّ لخضر، إضافة إلى صور الأصدقاء، والشخصيات الطربية العربية.

 رائد الفن التشكيلي بالوادي

      في عشرية الثمانينات وقبل أن تُعيّن وادي سُوفْ سنة 1984م بحكم التقسيم الإداري، استعانت بلدية الوادي بفنّانا كي يمنح للمدينة في شارعها الرئيسي وساحاتها لمساته الفنية، (وللأمانة عهد ذاك كان الوحيد المتفرّد في الساحة الفنية التشكيلية)، فانتصبت جدارياته، ولوحاته على حاملات حديدية على طول الشارع، تُغنّي للجزائر في مسيرتها الصناعية، الفلاحية، الثقافية، التاريخية من خلال صور المعارك، معارك المنطقة، الشهداء. كما ساهم في تعريب المحيط بخطوطه الجميلة في بعض الإدارات، والمؤسسات، والمحلّات التجارية.


       ساهم في تكوين المعلمين في مادّة الرّسم، وسهّلها لهم، وهي المادّة التعليمية العصيّة على المعلمين والمعلّمات إذ يعانون صعوبة في تقديمها إلى المتعلّمين، فألف لهم فنّانُـــنا ستة كُتيبات بها خطوات مبسّطة تساعدهم على تعلّم الرسم، وتنفيذه بسهولة معلما، ومتعلما، كتيبات تتعلق برسم الحيوانات، والنباتات، والأشكال الهندسية، وراجت تلكم الكتيبات، وطُبعت عدّة مرّات، ولم يكتفِ بذاك؛ بل شارك مع مشرفي التربية في تأطير الندوات من خلال مواد الرسم، والأشغال اليدوية، والأيام التكوينية للمعلمين والمعلمات في عديد مناطق وادي سُوفْ. تواصلت مساهماتُه في التكوين حتى لمّا صار أستاذا لمادة الرّسم طوال سنوات في إحدى المتوسّطات بالمدينة.

 

رسّام المجلّة.. مانحُها البعدَ الجماليَّ الفنّيَّ

      في الثمانينات من القرن الماضي كان يُقام مهرجانٌ ثقافي سنويًّا في مدينة قمار، يحضره إعلاميون وأدباء جزائريون تشرف عليه الجمعية الثقافية بقمار التي كان يرأسها المرحوم إدريس التهامي، فكان فنّانُنا من الأوائل الذين يُعدّون بخطّ يده اللافتات، والمعلّقات، والجداريات زمن خلُوّ حياتنا من الطابعات؛ كما كان للجمعية مجلّة دورية اسمها" المنبر الثقافي" كان هو رسّامها الذي يعطيها اللمسات الفنية التي تُلفت نظر المتلقّي إلى الموضوع، كما كان يوشّحها برسومات كاريكاتورية مُضحِكة، أو ساخرة.

     بإرادته تحوّل من قطاع التربية إلى قطاع الشبيبة والرياضة التي انتهى فيها إلى مدير لدار الشبيبة والرياضة؛ بمجرّد تنصيبه لم يكتفٍ بمنصبه الإداري التسييري كعادته شرع في تزيين، وتجميل المؤسسة بلوحات رائعة للبراءة، والطبيعة، وتحبيب الفن التشكيلي، وسحْر الألوان للمُكوِّنِ، والمتكوّن، والزائر في المؤسسة، ولها ومسّ التكوينُ للمتكوّنين من البراءة، والعاملين.




 

..بمع الأدب الرّاقي شرْقًا وغرْ

      للأمانة التاريخية من الكُتّاب الذين أثّروا فيّ كثيرا خلال بداياتي الكاتبُ المهجري جبران خليل جبران؛ في نهاية الستينات وجدتُ لدى صديق العمر بشير بلباح أصيل بلدتي، الفنّان التشكيلي، الكبير الخطّاطٌّ الذي كان يهيم بالجمال، ولا يزال في كلّ تجلياته، وجدْتُ أغلبَ كُتُب الكاتب الفنان التشكيلي، الشاعر الفيلسوف اللبناني، المهجري جبران منها: العواصف، النبي، الأرواح المتمردة، الأجنحة المتكسرة، دمعة وابتسامة، عرائس المروج، البدائع والطرائف. كان هذا الصديق متأثرا بجبران الكاتب الرومانسي، الرسام الفيلسوف، الشاعر الألمعي، ارتأى الصديق أيّامها أن نقرأ بتمعُّنٍ كتابات هذا الفيلسوف، فقد قرأنا أغلبها، وتأثّرنا بنزعته الجمالية، وصرخاته تجاه ظُلْمِ الإنسان لأخيه الإنسان.

       ومن الكُتّاب المبدعين الروائيين الغربيين الذين قرأنا ل الروائي الإيطالي ألبيرتو مورافيا (1907 ـ 1990م)، الذي تـميّزت أعماله الأدبية بالبراعة والصدق والواقعية، حيث اهتمّ ذلك الكاتبُ الروائي بـمناقشة الكثير من المشاكل الاجتماعية التي كانت موجودة في إيطاليا. هاجم من خلال رواياته الفساد الأخلاقي الذي كان متـفشِّيا في بلاده إيطاليا، كتب في الكثير من المجالات والتي لازال أثرها قائما حتى وقتنا هذا.

    ومن أهم السمات التي تغلب على أكثر الأعمال الأدبية التي قام الكاتب ألبرتو مورافيا بكتابتها، هو اهتمامه بالاندماج في سرد الكثير من المشاعر الخاصة بالجنس، والتي ظهرت واضحة في الكثير من التداخلات الموجودة بين الكثير من الشخصيات في رواياته، ولقد اتسم أيضا بالتركيز على القيام بعملية التحليل النفسي لنوعية العلاقة بين الجنسين، أو الزوجين والتي ظهرت واضحة من خلال أشهر أعماله "رواية الاحتقار" التي تُــــعدُّ  من أهم ّالأعمال الأدبية للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا

        أغلبُ رواياته قرأتها مع صديقي: صوْتُ البحر، أنا وهو، الخطيئة الأولى، مراهقون ولكن، عذاب الحبّ، الهوان، اللّامبالون، الخدعة، السأم، الاحتقار، امرأةٌ من روما، الانتباه.

     بإرادته تحوّل من قطاع التربية إلى قطاع الشبيبة والرياضة التي انتهى فيها إلى مدير لدار الشبيبة والرياضة؛ بمجرّد تنصيبه لم يكتفٍ بمنصبه الإداري التسييري كعادته شرع في تزيين، وتجميل المؤسسة بلوحات رائعة للبراءة، والطبيعة، وتحبيب الفن التشكيلي، وسحْر الألوان للمُكوِّنِ، والمتكوّن، والزائر في المؤسسة، ولها ومسّ التكوينُ للمتكوّنين من البراءة، والعاملين.



 

اهتمام بالإخراج السينمائ

      اهتمّ في أواخر السبعينيات بالسينما: ثقافة، متابعة لممثليها البارزين، ومخرجيها ممّا أثّر فيه لاحقًا بأن يدخل عالم التصوير السينمائي وفْق الإمكانات التقنية المتاحة. ففي الثمانينات لمّا انتعش الفعل الثقافي بمدينة قمار، وكذا بمدينة الوادي من خلال عيد المدينة، والمهرجان الثقافي بقمار، شرع الأستاذ بشير في التصوير الوثائقي بتقنية سوبير08 ، وأنتج عديد الأشرطة الوثائقية عن المنطقة، وخاصة عن الحياة الاجتماعية والعمرانية التراثية، والفلاحية لمدينة قمار وضواحيها، ومن أشهر الأشرطة الوثائقية التي أبدع فيها شريط " نظرة حول سُوفْ" وبه نال المرتبة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية للشرق الجزائري.



 

عشْقٌ للطبي

      في تلكم السنوات تعلّق بالطبيعة الخضراء، وبعالم البستنة، وأريج الورود والزهور، فأبدع فيها رسْمًا، وتعايشا في رحلاته، وسياحاته في الصحراء، وفي الشمال، وكان حلمه آنذاك أن يكون له منزل فسيح الأرجاء، يخصّص مساحة كبيرة منه لحديقة فيحاء يشرف عليها بنفسه، وبقي معه ذاك الحلم؛ وجسّمه بمنزله وفق ما سمحت، وتسمح به مساحة منزله بمدينة الوادي.

 

صيلمع الطرب الأ

      تعدّى شغفه بالجمال في تلكم السنوات إلى الطرب العربي، ومبدعيه: فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، شادية، محمد عبد الوهّاب الذي داومنا على سماع أغانيه مدّة شبه يومية، فهد بلّان، فائزة أحمد، وغيرهم؛ لكن تعلّقه كان أكثر بسيّة الطرب العربي التي كنا نسمع روائعها كلما سمحت لنا الظروف، وكان الأستاذ بشير ينتظر حفلها السنوي الذي كانت تطلّ به على محليها بأغنية جديدة، كنّا ننتشي بالسماع لــــــ: ألف ليلة وليلة، الأطلال، أراك عصيّ الدمع، يا ظالمني، وغيرها. من المطربات اللاتي شغفن صديقي بشير، ولا يزال الفنّانة المصرية نجاة الصغيرة في أغلب حفلاتها الطربية، سيّما في رائعتها " لا تكذبي، يا مسافر وحدك، القريب منك بعيد، أيظنّ"

موهبة متجدِّدة.. ومجدِّدةٌ..عطاءٌ مستمرٌّ



        في هذه السنوات القريبة والآنية، غيره من جيله ممّنْ كانوا في التربية سكنوا، ودخلوا في الاجترار، واللغو، الفنانين التشكيليين من جيله بدلا من الاستمرار، والتطوير، ومسايرة الحياة المعاصرة، دخلوا في دهاليز ثقافة التشكّي، أصابهم العطل الفكري، والفنّي..ها هو فناننا بشير بلباح يُدخل إبداعًا نوعيًّا في مساره الفنّي لا يزال في الجزائر غير متداول لدى الفنانين التشكيليين:" الرسم على حجارة الأودية"، على أديمها يرسم فنّانا بشير بلباح أشياء جميلة نتعامل معها يوميا في حياتنا




تقاعد منذ سنوات، ولم تخـفت جذوة موهبته، فالتفت في وقت ما  إلى فنّ النحت، وبرع فيه، لكن يبدو أنّ ارتباطه بالتربية، ومعايشته للبراءة، والقرْب منها تغلّبت عليه، وأعادته طائعًا راضيا، ها هو يُبدع في لوحات فنية طفولية ينشرها يوميا على صفحته الفيسبوكية؛ كما أنه من القلائل في الجزائر الذين برعوا في الرّسم على الحجارة، ها هو هذه الأيام يفاجئنا بين يوم وآخر برسومات كاريكاتورية طفولية من كُتُبٍ يُعدّها.


 


      موهبة متعددة الأوجه، استمرّت في العطاء لِما ينيف عن النصف قرن، ولا تزال تبدع، وتزرع الجمال، كيف لا ؟ وفنّاننا (الكبير، القدير بشير بلباح) الرائع في علاقاته، المتسامح، الحيّي، الكريم بدون حدودٍ، المتفتّح، الودود، صاحب النُّكتة، والطّرْفة؛ وأن صديقه منذ ما ينيف عن النصف قرّنٍ، مُعْرضٌ عن الشهرة الاستعراضية، والنرجسية العاشقة للذّات.

        أرفع يديّ مخلصًا، صادقًا أن يرزقه ربنا الصحة والسلامة، وأن يمنحه طول العمر، ومواصلة غرْس الجمال، وتمتيع متذوّقيه، والشكر الله تعالى الذي خلق الجمال، وبثّه في كلّ تمفصُلات الحياة.

 

 

الجمعة، 22 أبريل 2022

  العلّامة، الفقيه، المجاهد  أحمد حمّاني

     مضى على رحيله عن دنيانا ما ينيف عن الربع قرْنٍ،(وفاته:1998)، وكان من المراجع الدينية الهامّة في بلادنا في الربع الأخير من القرن الماضي؛ بالرغم من تلك المكانة، وما قدّمه، وما تركه من تآليف، وفتاوي طالــته ثقافة النسيان، وحتى تآليفه، وفتاويه الـمتوافقة مع المرجعية الدينية في بلادنا لا يُشار إليها، ولا يُستفاد منها لا من المواطنين، ولا من الهيئات الدينية الرسمية، وغير الرسمية.
        للشيخ أحمد حماني تآليف عميقة، ومصنفات مفيدة ، بلغت من التحقيق ما  ترفعه إلى مستوى العلماء الكبار من حيث العمق، والإحاطة، وطول النفس؛ ومن هذه المؤلفات :
ـــ  صراع بين السنة والبدعة في جزئين "
ـــــ "الفتاوى في جزئين "
ــــــ  "الإحرام لقاصدي بيت الله الحرام "
ــــــ  " استشارات شرعية ومباحث فقهية "
 ــــــ "رسالة الدلائل البادية على ضلال البابية وكفر البهائية "
  ــــــ " شهادة علماء معهد بن باديس ".
       بالإضافة إلى عشرات المحاضرات والمقالات المنشورة في مختلف المجلات والصحف ، داخل الوطن وخارجه ، يضاف إلى ذلك كله ، أحاديثه في الإذاعة التي يقدمها على الأثير، وعلى الشاشة . التلفزية.

 

الثلاثاء، 19 أبريل 2022

      

فوْق كلِّ الّلغات

بشير خلف

        يا قصّة المجْد هذا الحرْفُ يحْملني

يسْتــنطقُ الصّمْتَ تاريخًا بيُمْـــــــناك

مُـــذْ كان عُـــقبة والأحْـــــــلام تسبقه

شرْقًا يضمخ تاريخ الهــوى الحاكي

                            يا قـــــــــــروان تُرى هل يرتوي نهمي

                         هل يــــــشرح الناي ما ترويه عيْناكِ

        صدر في الشهر الماضي مارس 2022م، ديوانٌ شعْريٌّ للشاعر الموهوب، مبْدع هذه الأبيات التاريخية الجميلة، الأستاذ صوالح مصطفى صوالح من لــدُنْ: (بيْت الشعْر الجزائري) بالجزائر العاصمة، الديوان من الحجْم الصغير، يقع في 74 صفحة تضمّ 21 نصًّا شعْريًّا، قصائد الديوان قصيرة، لكنها مشحونة بالأحاسيس الراقية، ذات حمولات لقضايا الإنسان الجزائري، والعربي.. ثريّة بأفكار، ورؤى الشاعر مصطفى صوالح.

      من أجمل قصائد الديوان في تقديري الشخصي قصيدة: (مَنْ هي..)، أوّل نصٍّ من الديوان، فالقارئ في بداية قراءته يشعر أنه أمام نصٍّ عاطفيِّ، يعْـبُق بالمشاعر الجيّاشة، والإبحار في العيون الناعسات، فيفاجأ وهو يقرأ النصّ أن الشاعر لا يقصد صاحبات القدّ الرشيق، ولا صاحبات العيون الناعسات اللواتي تُسْقطْن العُشّاقَ، في آخر النصّ يتـنفّـس القارئ حبورًا، وبهجة، واعتزازًا بانتمائه إلى حُضْن الحبيبة التي تهاوى الشاعر تحْت رجليْها:

إنّ العيون الناعسات قــــتلْنني

والجفْن في عرف الهوى ذبّاحُ

نطــقْـتْ بحبّــُكِ كلُّ آيات الهوى

وتلقّــفــــــتْكِ على المدى الآقاحُ

الحُسْنُ فيك سجيّة.. أمّا الهوى

كمْ ذا تــلــتْه عواصف وريّـــــــاحُ

     الشاعر يتغـــنّى بالتي هي أكبر، وأعزّ من الحبيبة:

هــــنا تسألون عن التي تــــنــــــتابني

في ذكرها تـــــتبسّم الأقْـــــــــــــــــــــــداح

هي في الحشى ريحانة مِـلْء الرّؤى

هي هـــــــــالةٌ وجبيــــــــــــــــــنها وضّاحُ

هي ذي (الجــــــزائر) إنْ أردْتَ حبيبتي

غـــــــــنّى الجــــــــــــمال متـــــــيم سوّاح

أنا لا أرى غيـــــــرَ الجمالِ يحُــــــــفّها

في حُــــبّها تــــتآلــــــــــــــــــــف الأرواحُ

       فلئن كان الإنسان العادي قلّـما يُعـبّر عن علاقة الحب التي تربطه بوطنه، فيما يبذل الشاعر جهْداً مميزاً ليُعـبِّر من خلال قصائده عن عواطفه، وأحاسيسه تجاه وطنه؛ وإذا كان للشعر هذه المكانة الرائعة؛ فاقترانه بالأحداث العظمى يزيده قوة ومكانة في آنٍ معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث، لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسن كما تتردد التحية بين الناس، الشاعر مصطفى صوالح تجمّعت لديه هذه، وتلك.

         تـخـتزن تجربة الشاعر صوالح مصطفى في هذا الديوان، وفيما سبقه من دواوين: كفّ الريح، كيف يحترق الضمأ، وغيرهما.. فيضا من التميز، فالقصيدة لديه فضاء رحْبٌ تتراقص فيه المجازات، وتتبلور الرؤى، وتنفتح مصادر الجمال بـمحمولاته الفياضة، وتتجـلّى القيم الإنسانية: من خير، وحقٍّ، وحرية، وعدْلٍ؛ لذا فكل قراءة مُوغلة في قصائده تكشف عن أبعاد ثريّة، يشكّـل الهمّ الوطني، والعربي مكوناً رئيسًا من مكونات رؤية الشاعر صوالح مصطفى، بحيث يندر أن يجــد القارئ قصيدة من قصائد الديوان الذي بين أيدينا، تخـلو من هذا الهمّ الجزائري، أو العربي.

        ما انفـكّ الجُـرح العربي النازف بدون توقُّفٍ هنا، وهناك، والنار المشتعلة قضت، وتقضي على شرايين الحياة تؤرق الشعراء، ومنهم شاعرنا:

إنْ كنْتِ تدرين يا بغـداد دُلّيني

ضيّعْتُ بعدكِ أزْماني، وأخيلتي

كسّرْتُ حُلْمًا تُراه اليوم يُحْييني

قلبي وقبري وعنواني وخارطتي

كلّ الحكايا أراها لا تُــــــواسيني

بغداد عذْرًا فخذلاني يحاصرني

دمْعي يُصادَرُ والأحقاد تكْويني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشعر جمالٌ، وغموضٌ مُحـبّــبٌ يبعثُ النشوةَ في القلوب.. شلّالٌ يتدفّق من مشاعر الإنسان حين يحدث ذلك التفاعل الغريب المفاجئ بين مكوّنات الطبيعة، وذاتية الفنّان المبدع، وعذوبة اللغة.

قداسة المحبّة والوفاء

1 ـــ الشاعر إنسان رهيف الأحاسيس، صادق العاطفة الإنسانية، سيماته الوفاء، وصدْق المودّة لأصوله، خاصّة لِمنْ كانوا السبب في وجوده بعد الله خالق الجميع، وموجد الكوْن، شاعرنا مصطفى صوالح بوفاء يُهْدي مَـنْ وسّدتْه ضلعها، واحتواه قلْبُها:

عائشة

أيّ ليْلٍ تلحّـفـتْهُ

والنُّبؤات التي بشّرت

بالذي يحْضُن الحُلْم

سراب ...

عائشة

أيّ ويْلٍ توسّدتْه

والمدارات حُبْلى

والذي ضيّع الحلْم غابْ

 

2 ــــ الشاعر صوالح مصطفى وفيٌّ لوالده، وذكراه، في أغلب جلساته مع أصدقائه ما انفكّ، وينفكّ والده حاضرًا، يتحدّث عن مناقبه التي أثّرتْ في شاعرنا، ولا تزال، في قصيدته:" آيات المحبّة":

كـــــــلُّ الحروف إليك قــدْ مدّتْ يدا

أمّا الـــــــفـــــؤاد صغى إليك وغرّدا

وتــــــــلتْــك آياتُ المحـــــبّة يا أبي

ما أروع الـــــــذكرى تُحرِّكُ أدّمُعي

كنتَ الحبيبَ ال.. ذاب فيه تولُّهي

حـــتّى استحال عبيرُ ذكْرك منتدى

كــــــنتَ الحقيقة قد خبرت نضارها

فـــــــطوتْك غدْرًا يا أبي كفُّ الرّدى

     الديوان الذي بين أيدينا:(فوْق كلِّ الّلغات) إضافة للمسار الشعري للشاعر الجزائري المبدع صوالح مصطفى، كما هو هديّة للمتلقّي المتذوّق للشعر.

      ...ويبْـقى الشعْرُ أنشودة الحياة العذْبة، الماتعة، ذات الإيقاع الموسيقي الساحر؛ بغير الموسيقى لا يكون الشعر، هذا الكائن الفنّي المتناغم الذي نسمّيه (شعْرا)، وكيف لا يكون الشعرُ موسيقى وهي التي تسمو بالمشاعر، وترفع من مستوى العاطفة، وتجعل الفكرة تتسرّبُ إلى المتلقّي بين الكلمات، كما تتسرّبُ روحُ الشاعر من عـــبْق نصِّ القصيدة.

 

 

 

 

 

الأربعاء، 6 أبريل 2022


   ما بعد المونقار

عرض: بشير خلف

        صدرت هذه الأيام ترجمة كتاب:" ما بعد المنقار" للرحالة الصحفية، الكاتبة الأديبة (إيزابيل إبراهاردت.. 17 فبراير 1877 - 21 أكتوبر 1904)، ترجمة الكاتب المترجم ميهي عبد القادر، صدر الكتاب  عن دار سامي للطباعة والنشر والتوزيع بالوادي. صمّم الغلاف كالعادة الفنان التشكيلي، المبدع القدير: كمال خزّان.

      الكتاب من الحجم المتوسط A5 في 156 صفحة تضمّنت مجتمعة: 33 مقالة، بعد التقديم، والتمهيد.

      الرحّالة كاتبة هذه المقالات الصحفية بعد أن انتقلت من ربوع وادي سُوفْ نحو الجنوب الغربي الجزائري، وتحديدً إلى عين الصفراء؛ كُــلّفت من طرف جريدة (الأخبار) لصاحبها فكتور باروكان بالجزائر العاصمة، في آخر سبتمبر 1903 توجّهت إلى عين الصفراء لتغطية أحداث الاضطرابات في تلك المنطقة، فكانت هذه المقالات الصحفية التي تضمّنها الكتاب. إذْ نقرأ في مذكّراتها:

« فجأة، اندلع قتال المنقار( منطقة جغرافية)، ومعه إمكانية أن أرى من جديد مناطق الجنوب، حيث يصعب العيش. ذهبتُ إذن إلى الجنوب الوهراني بصفتي مراسلة صحفية.»

      إيزابيل إبراهاردت حينذاك هي مراسلة صحفية أيضًا لجريدة " لاديباش ألجريان"، كتبت سلسلة من المقالات عن الاضطرابات السائدة على الحدود الجزائرية الجنوبية  المغربية، تختلف هذه المقالات الصحفية عن نصوص السرد،  والقصص القصيرة  التي كانت تنشرها عادة في صحُفٍ جزائرية أخرى أثناء عهْد الاستعمار. هي مقالات تُــبْرِزُ فيها إيزابيل( التوسّع الاستعماريّ الفرنسي في واحات الصحراء الجزائرية الجنوبية الغربية.)

     استــفادت إيزابيل من صداقة الجنرال ليوتي قائد الحملة العسكرية على الجنوب الغربي، واحترامه لها، ممّا سهّل لها حياتها اليومية، وخاصة تنــقّلاتها، بدورها لم تتردّد في الدفاع عن سياسة الأسواق التي هي أساس نظرية الحماية التي دافع عنها ذلك الضابط صاحب الرؤيا المستقبلية لتلك السياسة، وقد ارتآها بديلا عن الاستعمار الكلاسيكي.

      هل آمنت إيزابيل إبراهاردت بصدْق الجنرال ليوتي العسكري؟ فكّرت حينها" بأن الحلّ الذي اقترحه هو الأقلّ سوءًا بعْـد أن رأتْ البؤس، والعذاب الذي يكابده حينذاك السكان في الجنوب الوهراني.

     قــدّم للكتاب بشير خلف:

« ...  بالكاد أغلبُ مقالات الكتاب تتميّز بهذا الدّفق الأدبي الإبداعيّ الماتع، فالنصّ الأدبيّ لِما يتّسم به من خصوصية، منها الأحاسيس، والمشاعر، والتخييل، يَحْـتمل عديد الترجمات التي قـد تختلف من مترجم إلى آخر؛ فالمترجم القدير ميهي عبد القادر باعتباره ترجم عديد الأعمال الأدبية للرحالة إيزابيل إبراهاردت، شكّـل من خلالها في رأيي مدرسة ترجمية "مِيهيّة " بامتياز تجذب المتلقّي مع النصّ المتُرجَم، بحيث يتماهى معه، ويتصوّر أنْ لا نصٌّ أصليٌّ البتّة.     

       وهذا ما تراءى لي بعد قراءتي لمقالات هذا الكتاب أن الأستاذ ميهي عبد القادر، كما في كلِّ ترجماته للأعمال الإبداعية للرحّالة الأديبة إيزابيل إبراهاردت، أنه مُبدع مقتدر آخر لنصوصها، ومقالاتها الأدبية، وغير الأدبية.» ص:04

إبداع ترجمي ماتع

      القارئ المتلقّي لهذه النصوص المُترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية من قِبل المترجم ميهي عبد القادر، من سحْر النصّ، وروعة الترجمة، دون شعور من هذا المتلقّي قد يشعر أنه يقرأ للمترجم، وليس لكاتبة المقالات:

«... تنساب أيّام الصيف الأخيرة رتيبة. تنام مدينة الجزائر تحْــت سماءٍ مرْهقة، خالية من السُّحُب. تبدو الشوارع، حيث المارّة قليلون أكثر اتّساعًا، وتطُـــنُّ أسرابُ الذباب في ظلّ المنازل العابر. يغشى هضابَ مصطفى غبارٌ خفيفٌ، فينطفئ بياضُ مرتفعاتِ المدينة اللّبني. هنا في الأزقّة المختنقة تستمرّ الحياة، رغْم ذلك عنيفةً، ثملةً بالنور، والألوان، تتزيّن بالفواكه، والأقمشة المعروضة، وتشدو بغِـــناء العنادل السجينة في الأقـفاص أمام المقاهي العربية.» ص:08

 سوق عين الصفراء

      من مقال بعنوان" سوق عين الصفراء"

«... منذ مساء يوم الأحد يتوافد البدو عبْر المسالك، والكثبان يركبون الأحصنة، والبغال، أو هم راجلون يدفعون أمامهم حميرهم الصغيرة، الصبورة، وجمالهم الكبيرة البطيئة التي تمدّ رقابها المرنة، ومناخرها الشرهة نحو باقات الحلفاء الخضراء...أولاد عمّور، وبنو غيل شعْبٌ بكامله في هجرة مستمرّة، يتجمّع في عين الصفراء، ليحضر سوق صباح الإثنين.» ص: 114

      من مقال بعنوان "وجدة":

«... حين تغْــرب الشمس، وعندما يبعث المؤذن نداء الصلاة تغلق" وجدة" أبوابها التي تَصِرُّ على مفاصلها الحديدية. تذهب المفاتيح إلى القصبة، إلى العامل حيث تبقى" وجدة" هكذا معزولة عن باقي مناطق الأرض، ولن يتمكّن أيّ بشرٍ من دخولها، أو الخروج منها. ما أنْ تجاوزنا القوس حتى خُـنقْـتـنا الرائحة عنيفة.. رائحة القاذورات، والمسك، والجيف، والزيتون المنقوع.

      ثم إننا دخلنا في الوحْل، العـفن بين البِركِ الراكدة، المُخْــضرّة، حيث يَسِنُ البراز، والدواب الميتة، والقمامة النجسة، والخِرق البالية.

       عوض صمْتُ التأمّل في مُدُن الإسلام الأخرى، هنا إنه حشْدٌ كثيف، وصاخبٌ؛ رعاع يتخبّط، ويتدحرج في وحــل الشارع، كأنّ ريحًا من الحُمّى مرّت على " وجدة""» ص: 132

      كـلّ مقالات الكتاب بهذه الترجمة الإبداعية الرائعة والمضامين الماتعة: تاريخا، أدبًا تماهت فيه عذوبة اللغة، وسلاسة التراكيب، وتوظيف الكلمات، والتعابير في إطارها السليم.

 

 

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...