الأربعاء، 23 نوفمبر 2022


                المترجمون.. نحن هنا

كتب: بشير خلف

أثارت المجلة العربية الثقافية السعودية موضوعا ذا أهمّية في عددها الأخير، وخصّصت له ملفًّا، هو ( الترجمة):

« تستعيد" المجلة العربية" في عددها الأخير قضية عمرها في التاريخ المعاصر يـمتدُّ لأكثر من ثمانية عقود، بعد أن طرحها، عميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين عبر تدوين مكتوب أثار من خلاله حقوق المترجم المعنوية، والمادية، وكيف أنه بات -رغم الأهمية النوعية المناطة به- في درجة أقلّ على مستوى المقابل المادي نظير عمله الترجمي، وعلى المستوى المعنوي من حيث التقدير والإكبار.

     في التاريخ المعاصر، لأن الحال التي كان عليها المترجم في العصور المتقدمة تشير، عبر دار الحكمة مثلاً، إلى ما أسبغه المأمون على المترجمين الذين جلبوا المعارف، والفنون، والعلوم وأثْـــروا بها العصر العربي، والعقل العربي، ما يعني أن تقديراً مادياً معتبراً، والحال يؤشر إلى التقدير المعنوي والرمزي أيضاً، رافق المترجم خلال العصور العربية المتقدمة، والحال فيما يتصل بمكانة المترجم في الإطار الغربي.

      ما أثاره الدكتور طه حسين قبل 80 عاماً، أعاد بعثه الدكتور محمد عوض محمد قبل 60 عاماً، وها نحن اليوم في (المجلة العربية) نعيد التذكير به، نظراً لأهمية هذا الموضوع المتمثل في ضرورة إنصاف المترجم، وتقدير قيمته، معنوياً ورمزياً، على المستوى الثقافي والاجتماعي، إلى جانب ضرورة حفظ الحق المادي بما يليق بقيمة جهد الترجمة المضني

      في العدد من المجلة العربية:

1 ـــــ خطاب الاستعمار وما بعد الاستعمار في الأدب والنّقد

2 ــــــ الإبداع.. وهبوب العصر.

3 ـــــ كتب وقراءات.

4 ـــــ العربية لغة عالمية كونية غير عرقية.

5 ـــــ المثقّف ذلك الأبيض الباحث عن الأمل.

6 ــــ التابو في السّرد العربي بين التبرير والتغرير

7 ـــــ الدّور الحيوي للتلقّي في إنتاج النصّ الأدبي.

8 ـــــ خطاب الاستعمار وما بعد الاستعمار في الأدب والنقد.

9 ــــــ المسرح والكوميديا

الاثنين، 21 نوفمبر 2022


 كيْدُ النّساء ونكدهُنّ

1 – سيبويه إمام النُّحّاة: أحْرقتْ زوجتُه كتبَه؛ لأنه كان يشتغل عنها بتأليف كُتُبه، فلما علم بذلك أُغشي عليه، وحين أفاق ضاق ذرْعا بها فطلقها.

2 الليث بن المظفر من علماء اللغة العربية: كان مشتغِــلًا عن زوجته بحفظ كتاب " العين للفراهيدي "، فغارت من الكتاب فأحرقته.

3-الأمير محمود الدولة الآمري، من أفاضل علماء مصر: كان يقْــتني الكثير من الكتب، فلما مات كانت زوجته تنْدُبه، وترمي بالكتب في بركة ماء وسط الدار؛ لأنه كان يشتغل عنها بهذه الكتب.

4-الشريف إبراهيم بن علي العياشي، أبرز مؤرخي المدينة المنورة: قضى 20 سنة في تأليف كتاب "حجرات النساء" فأغاظ ذلك زوجتَه لانشغاله عنها كثيرًا؛ فأحرقت الكتاب فأُصيب الرجل بالشلل!

5 - محمد بن شهاب الزُّهْري، من مُدوّني الحديث النبوي، ومن علماء المدينة في حياته، قالت له زوجته يومًا:(واللهِ لَهذه الكُتب أشدُّ عليّ من ثلاث ضرائر!)

6- ومن الثابت أن ابن أبي الفرج ابن الجوزي، الفقيه والمؤرخ: أحرق كتُبَــه بنفسه بإيعاز من أمه.

السبت، 19 نوفمبر 2022

 

 استبداد الصورة المعاصرة

كتب: بشير خلف

صديقي الباحث، المبدع الذي يملك مكتبة منزلية ثريّة، بها آلاف العناوين في شتّى المعارف، سيّما في الآداب، والفنون، باعتباره مبدعًا، ومؤلفا لعديد الكتب فيهما؛ في لقاءاتي العديدة به ما كان شاكيًا، ولا باكيا، إنما في لقاءاتي الأخيرة به اشتكى إليّ بحسْرة:

ــــــــ أنت تعرف تعلّقي بالكتاب، وشوْقي إليه، وانكبابي على الغوص فيه مطالعة، وتحليلا، ونقدا منذ عقود، في الشهور الأخيرة أغوتني الصورة، وافتكّتْني من الكتاب، وصرْتُ ألاحقها لجاذبيتها، ومرافقتها للأحداث الآنية، أصابني الهوس بها، فصرْتُ عبْدًا لها في يومياتي.

 سلطة الصورة

      لقد أصبحت الحداثة الإنسانية المعاصرة حداثة للصورة، فالصورة في الزمن، الراهن وبكل تـمفصلاتها وتجلياتها تطارد الإنسان الحديث أينما حلّ، وارتحل، فهي تفتح عليه باب منزله دون استئذان عن طريق التلفاز، والإنترنت وغيرهما من وسائل الاتصال الحديثة التي أحدثت ثورة في المفاهيم، وقلبًا للقيم المتداولة، وتدويلا لها في ظل ما بات يُــعرف بالمدّ العولمي الذي اخترق كل المجالات الحياتية للإنسان المعاصر.

الثلاثاء، 8 نوفمبر 2022

 الشبكة العنكبوتية والسرقات الأدبية

كتب: بشير خلف

      ظاهرة السرقات الأدبية قديمة، لعل من أشهرها تلك التي رصدها الأديب المؤرخ الشعر، بن طيفور عام 280هـ في كتاب “سرقات الشعراء” عن سرقات البحتري من أبى تمام.. وكتاب “السرقات” للأديب الشاعر ابن المعتز عام 296 هــ. ثم كتاب الكاتب، الأديب والشاعر  ابن وكيع عام 393 هـ “المنصف في نقد الشعر، وبيان سرقات المتنبي”.

     لعل أبرزها ما ردده البعض عن المتنبي، كان يأتي على النصّ فيجاريه، ولا يقترب من ألفاظه، وإنما كان يزيد الفكرة؛ أو الصورة الشعرية جمالا فيتفوق على النص الأصلي، ولذلك أُدرٍجت سرقاته ضمن السرقات الأدبية المحمودة !

 السرقات الأدبية في عصر الشبكة العنكبوتية

       في السابق كان من يقوم بهذه الظاهرة يتم كشفه على الفور، مع إمكانية توقيع الجزاء المناسب (أقلها الفضيحة الأدبية)، بينما في وقتنا الحاضر هذا الأمر غير متاح حيث كثرة وسائل الإعلام المعاصرة، وتنوّعها.. ساهمت بشكل فعّــال في انتشار هذه الظاهرة وعلى الخصوص في مواقع الشبكة العنكبوتية.

      ولا تقتصر السرقات الأدبية على النشر الإلكتروني، بل قد يبدو عكسيا، حيث تنشر بعضُ المطبوعات الورقية كالمجلّات والصّحُف ما يُنشر في المواقع الجادة على الشبكة، دون إذن، أو تصريح، أو إشارة إلى المصدر..

       أشكال السرقات تنوّعت، كما في حالة سرقة الأبحاث العلمية، ورسائل الدكتوراهـ والماجستير.. وسرقة الألحان الموسيقية، بل واللوحات الفنية.

الاثنين، 7 نوفمبر 2022

 السيرة الذاتيّة ..بين الشفافية والتعتيم

كتب: بشير خلف  

       إن أهمّ ما في السيرة الذاتية أنها ترسم حياة صاحبها، وتُكتب لِـيعْـرِفَ بها الإنسانُ نفسَه، ويزداد منها قربًا؛ ويعرضها على القرّاء من زاوية نظره هو، ويـحاول في عرْضه أن يكون أمينًا صادقا، ويتجرّد ما أمكن من العاطفة التي تشدّه؛ لأن ما نُسمّيه بـ"الأنا" ليس شيئا واحدا؛ بل متعددًا، ليس كلاًّ منسجمًا، متجانسًا، "الأنا" متغيّرة تبعًا للمتغيّرات الـمُختلفة التي تطرأ على الفرد جسدا، أو نفسا، أو فكرا، أو ثقافة، أو اجتماعا، أو معيشة.

      السيرة الذاتية بوعي كاتبها وتوخّيه محاولة تعبير صادق تكشف عن تـمفصلات مهمّة في مسار هذا الكاتب، أو ذاك، عن فترة، أو فترات من حياته الفكرية، ومسارات قلمه، أو الظروف التي رافقته إيجابًا، أو سلبًا وساعدته في مسيرته على أن يتبوّأ مكانه ككاتب، أو مبدعٍ، أو تغطيةٍ لِـمساره الأدبي والفكري إلى حين تقاعده الإبداعي، وإنْ كنتُ أستبعد أن يتقاعد المبدع، أو الكاتب الحقّ.

        ولعلّ التساؤل الذي قد يردُ إلى ذهْنِ القارئ: هل السّيرة الذاتية يـحكي فيها صاحبها عمّا مارسه في حياته في كلّ أطوارها من جميلٍ وقبيحٍ، عمّا هو إثْمٌ وما هو غير ذلك، عمّا هو مُباحٌ شرْعًا، وما هو مُحرّمٌ، عمّا هو مُمارسٌ اجتماعيا، ومرفوضٌ أخْلاقيا؛ باعتباره عضوًا من الجماعة، وباعتباره فرْدًا له غرائزه، ونزعاته الخاصّة، وضُعْفه البشريُّ تُجاه الغِواية.

       رأيي الشخصي، كما هو أيضًا ردٌّ عن التّساؤلِ، الذي فحواه:( كي تكون السيرة صادقة، على كاتبها أن يدوّن بها المدنّس، مثلنا يدوّن المقدّس، كما في الآداب الغربية).

       الاعتراف مـمنوعٌ حتى إشعار آخر، هذا الإشْعارُ قد يطول موْعِدُهُ، وقد يقصر سيّما في عالمنا العربي؛ ذلكم أنّ الاعتراف بالمفهوم الغربي الذي بدأه الفيلسوف الفرنسي "جان جاك روسو " كأدبٍ للاعتراف أنْ يكون بطعْمٍ عربي، وجزائريٍّ خاصّة اليوم، يقتضي من صاحب السِّيرة ذلك الفعل الجريء، ولحظات من التردد والارتباك والحيرة، ترتعد فيها الأصابع وهي تـخطُّ الـُجمل الأولى في رحلة استكشاف حقيقة الذات التي يُـراد لها أن تتعرّى أمام الآخر.

      من هنا يغدو أدبُ الاعتراف مغامرة مـحفوفة بالقيل والقال؛ لأنه من المفروض في صاحبه أن يتميز بـمنسوبٍ عال من الجرأة والجسارة، وتسمية الأسماء بـمُسمياتها الحقيقية، ما دامت وظيفةُ فنّ الاعتراف، في الأصل كما تُقِرُّها تقاليدُ الـمسيحيةِ، تتمثَّلُ في التطهير عن طريق الاعتراف.

السبت، 5 نوفمبر 2022

أجنحةُ الحُرّيّة.. فن وفكر وغضب وشهرزاد بلا حجاب

كتب: بشير خلف

      الخوف ملازم للإنسان منذ هبوطه للأرض، فهو أحد محفزات حركته في الحياة، فعندما خاف الإنسان من الجوع اتجه إلى الزراعة، ولما خاف المفترسات، لجأ إلى الكهوف وشيد البيوت، لكن الخوف في الحياة المعاصرة أكثر عمقا ووجعا، فهو يُفقد الحياة متعتها، ويُذهب براحة البال والطمأنينة، وهو عقبة كئود، تتزايد مع تغلغل المادية في الحياة، ليعكر صفوها مع تحوله إلى أزمة وجودية، تطرح سؤال المعنى والمصير والغاية، خاصة لحظة وقوف الإنسان على خطوات من الموت، فلا يهدأ ذلك الخوف مع الظلام ولا يذهب مع إشراقة النور.

      من مقالات العدد الجديد 93 لمجلة الجديد اللندنية الصادر في بداية شهر أكتوبر2022 2022

       مخاوف البشر غرائب وأسرار، وهي مما لا يحصيها العدّ، ومن بين كافة العواطف، والانفعالات التي تعتمل في نفس الإنسان، أغزرها، وأكثرها تعكيراً لصفو الحياة هو الخوف. وأقول نفس الإنسان لأن النفس، أو الروح، إن شئنا الدقة، هي التي تنفعل، فتخاف، وغالباً ما يطاوعها العقل، أو يقف عاجزاً، مكتوف اليدين. فالعقل قد يعقلن الذعر، فيخفّف منه، أو قد ينساق هو الآخر مع الخوف في لعبته، فيتحوّل الخائف ساعتها إلى أضحوكة للآخرين.

        يحتوي هذا العدد كالعادة على مقالات فكرية، وأخرى نقدية، وغيرها فنية، وعلى قصص، وقصائد شعرية ويوميات وعروض كتب ورسائل ثقافية.

        وفي العدد ثلاثة ملفات:

 1 ـــــ الأول تحت عنوان “أجنحة الحرية.

2 ــــــ الملف الثاني تحت عنوان: “التجوال مسقط رأسي – حوار خاص مع: الشاعرة الصينية شياو شياو.

3 ــــــ الملف الثالث حمل عنوان “قصص” ويضم سبع قصص عربية.

     في مقالات العدد: 1أحمد برقاوي (المثقف الشبيه، أو الوجود المبتذل).، 2(فلسفة الحزن في رسالة منسية) للفيلسوف الكندي)،عبد الحكيم الزبيدي، (التصدير القرآني في روايات علي أحمد باكثير)، فارس الذهبي. (ثقافة الشاعر الأوحد والجزر التي لا تلتقي).

     أبوبكر العيادي كتب في رسالة باريس عن العقلية التآمرية فيرى أن “لنظرية المؤامرة آثارا سلبية، لعل من أهمها الارتياب من الشأن السياسي، واعتبار كل الحكومات عاجزة عن مواجهة قوى خفية”.

1 ــــــ الملف الأوّل يتكوّن من عدّة مقالات لكُتّاب عربٍ، وكاتبات من الوطن العربي، مقالات تلاحق الحرية، وتُنْذر بالخوف، والخوف من الخوف:

ـــــ الفن، الخوف، الموت. فارس الذهبي

ــــــ الخوف كعامل يقظة وتجاوز. أبو بكر العيادي

ـــــــ الخوف كنْزُنا الباقي. محمد الدميني

ــــــ هذه الكلمة الموحشة. سالم الهنداوي

ــــــ الخوف من القُبلة. ربيعة جلطي

ــــــ لماذا يخاف الكاتب العربي من القارئ ؟. أمين الزاوي

ــــــ الخوف من الخوف. أحمد سعيد نجم

ـــــــ حياة الربّ وموته.

ــــــــ الكارثة الجويّة

ـــــــ التاريخ السرّي للحرب العالمية الثالثة

ـــــ لماذا يخاف الكاتب العربي من القارئ ؟. أمين الزاوي


                                                                                            

 

 

 

الخميس، 3 نوفمبر 2022

 

الصّحراء.. مبْعث الحكي السّاحر

   كتب: بشير خلف    

      الصحراء ذلك السّحر الأسطوري الكامن في الـمخيال الجمعي للإنسانية عامة، وفي الذاكرة العربية خاصّة، حيث تبرز الصحراء في الوعي، والمُخيّلة مَـجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها  المتقلِّبة، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء.

     ولوج الصحراء فـــتْحٌ لإمكانية السّرد.. أن تعيش وترى، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسّي، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرِّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور المحفّـــز على الإبداع..

       يبدو أن الشفاهية هي مفتاح ثقافة الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغه المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية. فالصحراء تعتمد على الشفاهية في مختلف شؤونها.  والشفاهية تشمل، والسرد معا؛ ولها تأثيرات بليغة في إنتاج المادة الأدبية نفسها، ثم في تداولها ونشرها وحفظها. والكلمة الشفاهية كلمة الصحراء هي ما يقال بالفم، وليس ما يرى بالعين أو يخط بالقلم، إنها جزء من المتكلم أو الناطق، وهي أقوى وأثبتُ وأشدُّ تأثيرا حتى حدود الأسطورة، والسحر..

     في ثقافة الصحراء الكلمة المنطوقة تكفي: فلها قوّتها وفعلها وسيطرتها، أما الكتابيون فيضعف تأثير الكلمة المنطوقة عندهم ويحتاجون إلى الكلمة المكتوبة الموثقة (وإذا تداينتم بدين فاكتبوه) في القرآن الكريم، وهذا مطلب حضري جاء مع تبنّي الإسلام للنمط الحضري. أما البدوي فعنده كلمته (المنطوقة الملفوظة) ولا يحتاج كلاما مكتوبا لتثبيت وعده، أو فعله؛ بل كلمته هي قوته وفعله.

     الحضارة في أصل دلالتها ترتبط بالاستقرار في مقابل البادية، أو الصحراء المتسعة التي يتحرك الناس في بقاعها بحرّية أكبر وبإقامة أقـلّ في المكان الواحد. الصحراء حرية، والمدينة سجن. الصحراء مفتوحة والمدينة مغلقة. الصحراء ممتدة والمدينة مرتدّة.

 الصحراء حرية ..المدينة سجْــنٌ

       الصحراء أيضا ليست ثابتة تماما على مرّ الزمن، فقد "تتحضّر" بعض بقاعها إذا ما تغير مناخها وظهر نباتها، وصلحت بعض أراضيها للزراعة، وقد يتصحّر الريف وتتصحر القرى إذا ما تعرضت لتغييرات معينة، كأن يجف مطرها ويقل نباتها. ولكن مثل هذا التغير يكون على مدى أزمنة طويلة. وكذلك هناك تغيرات وهجرات من الصحراء وإليها، فقد يتحضر (يقيم ) البدوي،  وثم أخبار ومرويات سجّلها الرواة الأوائل عن الأعراب الذين انضموا للحواضر وغدوا قنوات لنقل معارف البادية وأشعارها ومروياتها السردية، و تمكننا المصادر العربية من معرفة بعض أسمائهم. وأكثر من يلقبون بـ "الأعرابي" أو "ابن الأعرابي" وهم كُــثّرٌ في أخبار المؤلفين والرواة، هم ممن لهم صلة بهذه الفئة من الرواة الأعراب الذين انتقلوا إلى الحضر، أو ظلوا يترددون بين البادية والحاضرة. وهناك رحلات العلماء الحضريين (الأصمعي وغيره..) إلى البادية وعودتهم بحكايات ومرويات كثيرة تمثل صورة من صور التقاط صور البادية وثقافتها بمنظور حضري وأدوات كتابية. وقد يتبدّى(البداوة) بعض أهل الحضر ويدخلون في البادية، فيتحولون إلى البداوة بتغيير نمط حياتهم. وفي الحديث النبويّ نُهِي عن التبدي "من بدا جفا" وهو موقف مفهوم في ضوء تبني الإسلام للنمط الحضري. وهذا يدلنا على أن التفريق يعتمد نمط المعيشة على الأمد البعيد أكثر مما يرتبط بمجموعات سكانية ثابتة أو معينة. ولذلك فقد نجد قبائل منقسمة بين نمطين أو ثلاثة.

 للصحراء سرْدها الساحر

       إن للصحراء سردَها، وسرد العرب في جذوره سردٌ صحراوي إجمالا، إذا كان يخيّـل إلينا أن الشعر هو فـــنّ الصحراء الأثير، أو الوحيد فإن ذلك الوهم سببه ثبات الشعر أكثر من النثر، والمرويات السردية، من ناحية قابليته للحفظ مع وجود الوزن والقافية والرواة الموكلين بحفظه وإنشاده. إن الشفاهية هي مفتاح الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغة المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية.. إنها الكتابة بلغة الرمل..

       يقول الشاعر والروائي الجزائري أحمد عبد الكريم:

«كتابة الصحراء، لا تُــعْـني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعـني نقْـــل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية" الغرائيبية "» .

       ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي“ نادي الصنوبر” التي تتناول عالم التوارڤ ـ ما ورد على لسان المرحوم عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: « الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. نُـدّوكم أنتم للصحراء ».

 الـمُـبدعون توّاقون إلى غرائيبيتها

       وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقــلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فــــــــذٌّ للخيال، وفضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، وروائيين، ومغامرين، ومستكشفين، وجواسيس، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا، وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت، وغيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه. كتب لوكليزيو رواية "صحراء"، الفرنسي الحائز على جائزة نوبل سنة 1980م، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورنس، أو كما يعرفه الكثير من الناس بلورنس العرب، وهو يكتب "أعمدة الحكمة السبعة"، وكذا انطوان ده سانت ـ أكزوبري الذي بأسلوبه الأدبي البديع، وبروحه الفلسفية، صوِّر لنا عظمة الطيران، وإثارته، وأخطاره، وعزلته في كتابه الجميل:" أرض البشر"، لمّا قاد طائرات البريد الجوي عبر صحراء شمال أفريقيا.

 روائيون رصدوا لحظات التحوّل

        تـناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها؛ ذلك لأن للصحراء قوانينها، وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكنَّ هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر، واكتشاف النفط، وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية، ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية " فساد الأمكنة " لصبري موسى، وروايات "النهايات" و" سباق المسافات الطويلة "، و" مدن الملح بأجزائها الخمسة " لعبد الرحمن منيف.

       أمّا ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنُّعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب "المجوس والفرنسيس"، وإصرارها على البقاء مِهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مُقْــفرًا للإنسان. وعندما نتقصّى متْــن السرد، والصحراء حتى إلى وقت قريب سيقفز تأكيدًا أمامنا اسم الروائي الليبي إبراهيم الكوني بكمّ رواياته، وبثيماتها المنفتحة على فضاءات متفرّدة زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.

 مــتْــنُ السّرد الصحراوي تعدّدَ

         فرض فضاء الصحراء نفسه، وبقوة كبيرة على النص الروائي الجزائري المعاصر، بحكم جاذبيته، وروائع طقوسه، وعاداته وتقاليده الساحرة الآسرة، وبحثا من الروائيين الجزائريين عن فُـرص جديدة للتجريب، وممارسة مغامرة الكتابة بنوع من الممارسة العشقية مستعينة بقاموس صوفي ثري بمصطلحاته الموغلة في الوله والوجد والفناء؛ خاصّة لدى مبدعي أبناء الصحراء مولدًا، ونشأة، وإقامة؛ ممّا سمح بتعدّد مبدعي السرد قصصًا، وروايات، كما لم يبق هذا الجنس الأدبي حكْرًا على مبدع بعينه؛ لكوْن أسماء أخرى ظهرت على الساحة العربية، وخاصة في منطقة المغرب العربي منهم الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو وروايته "مدينة الرياح"، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية "الرجال الزرق".

 الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت

        ومن الذين ولجوا الصحراء، وفتنتهم فعشِــقوها، وكتبوا عنها وأبدعوا، وبقـــدْر ما ألهمتهم الصحراء فإنهم خلّدوها في أعمال سردية رائعة أشبه ما تكون بلوحات تشكيلية رائعة الجمال.. الكاتبة الرّحّالة إيزابيل إبراهاردت ذات الشخصية التاريخية المثيرة للجدل، ليس فقط لأنها جـــزء من ذاكرة الجزائر، وقطعة من فسيفسائها، ولكن لشهرتها العالمية ككاتبة، وما أحيط حولها من جدل، وشكوكٍ في تحرّكها، وعلاقاتها

        لقد وجدت في الجزائر جنتها الأرضية، ووطنها المفقود، فاعتنقت دينه الإسلامي الحنيف، وساندته في فضْح بشاعة الاستعمار، وساهمت في ثقافته، وكل هذا بنشاطها وبقلمها الجريء، وأسلوبها الرومانسي الدافئ تارة، والساخر تارة أخرى؛ وهذا ما نستشفّــه من كتاباتها، ومراسلاتها الصحفية. عشقت إيزابيل الوادي (وادي سوف.. الجنوب الشرقي الجزائري)، ونخيلَها، وكثبانَها الرملية، وأزقَّــتها وآبَارها، وساحاتِها، ومآذنَها، وإبلها فجاءت كــلُّها صورا متناسقة منسجمة في كتاباتها عن الوادي؛ كما كانت واضحة جليّة في ذهنها ومخيّلتها.

       لقد بلغ عشقُ إيزابيل للوادي حتى أن الذين عاشوا حياتهم كلها في هذه المدينة لا يمكن أن ينافسوها في معرفتها لها، واطلاعها على أتفه الجزئيات، والدقائق في الحياة الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والروحية لهذه المدينة حينذاك وهي التي أطلقت على مدينة الوادي: "مدينة الألف قـــبّة وقــــــبّة". عرفت إيزابيل عن الوادي خيرها وشرها، جِــدّها وهزلها، عفّتها، وفجورها، عاداتها وتقاليدها. عرفت من أهلها صدقهم وكذبهم، غدرهم وإخلاصهم، صداقتهم وعداوتهم.. كل ذلك سجّلته في نصوص سردية جميلة أشبه بلوحات تشكيلية في غاية الجمال.

تـــجاربُ مهمّةٌ

      الحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري حبيب السايح الذي عرفت فترةُ إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة، ومعمارية، وثـــيمات رواياته، وفي تبلور رؤية جديدة عبْــر تلك اللغة التي تنسكب كلمات معجونة بالرمل. إضافة إلى أعمال سردية أخرى تتخذ الصحراء فضاء معماريا كرواية" تميمون" لرشيد بوجدرة، رواية " نادي الصنوبر" لربيعة جلطي، رواية اعترافات أسكرام لعـــزّ الدين ميهوبي، والمجموعة القصصية" حائط رحمونة " للدكتور عبد الله كرّوم، ومجموعة" مغارة الصابوق"، رواية " مـملكة الزيوان " للدكتور الحاج أحمد الزيواني، رواية " تنزروفت .. بحثًا عن الظلّ" للدكتور ضيف الله عبد القادر، ورواية " الشهيلي " LE  SIMON باللغة الفرنسية للأستاذ علي عبيد من الوادي، رواية " أعوذ بالله " للدكتور السعيد بوطاجين. رواية "الخابية" للكاتبة الإعلامية جميلة طلباوي، وكذا روايتها" وادي الحنّاء"، رواية" صحراء الظمإ "للأخضر بن السايح، وكذا رواية" فجْر الغيطان" للكاتب الإعلامي خليفة قعيد، رواية " تاغيت" للدكتور باديس فغالي، رواية عائشة لحنكة حوّاء من الوادي.

         ونـختم برواية" نبوءات رايكا " للكاتب خيري بلخير التي فازت بالمرتبة الأولى للغة العربية في جائزة علي معّاشي لسنة 2019. كما في شهر فيفري 2020 فاز القاص، الروائي عبد الرشيد هميسي في جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع بروايته الموسومة بــ " الملحد بقيّ بن يقظان" التي تجري وقائعها في بلدة حاسي خليفة بربوع وادي سُوفْ.

     وتبقى الصحراءُ مصدرَ إلْـــهامٍ..في رأيي الشخصي النصّ السّردي الصحراوي، ليس فقط الذي يتّكئ على الصحراء مصدرًا للأحداثِ فحسبُ، وإنّما تلكم أيضًا الروائح، والأساطير، والذكرياتٍ التي سكنت الصحراء، وآثار الإنسان من رسومٍ، ونقوش، ممّا قد يُكسبُ النصّ السّرديَّ (الغرائبية).

 

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...