الاثنين، 28 أبريل 2014

القصة القصيرة جدًّا جنس أدبي غير مرحب به نقديا

                                      القصة القصيرة جدًّا جنس أدبي غير مرحب به نقديا
          القصة القصيرة جدا في الجزائر، ظلت كفن غير مرحب به، في حين يُحتفى بها وبشكل كبير ومتواصل في كامل الوطن العربي، حيث تشهد الكثير من الاعتناء والاحتفاء وهذا بإقامة ندوات ومؤتمرات ومسابقات ودراسات ومقاربات ومخابر بحث خاصة بها وبعوالمها وكُتابها، كما تفتح لها دور النشر أبواب وفرص النشر الواسعة، عكس ما يحدث هنا حيث تحجم أغلب دور النشر عن قبولها وطبعها تحت مبررات مختلفة. فلماذا هذا الإجحاف في حق هذا الفن؟، ولماذا النقد يتجاهلها ولا يلتفت إليها وغير مبال بها. لماذا هذا الموقف من النقد تجاه هذا الفن. وهل اتهامات بعض النقاد لكُتابها باستسهالهم لها ولكتابتها وبأنهم عجزوا عن ولوج القصة القصيرة والرواية لهذا عوضوا عجزهم بفن القصة القصيرة جدا، اتهامات صحيحة أم لا موقع لها من الصحة؟. وهل ستنتزع لها مكانة وسط الفنون الأدبية الأخرى، أم ستظل مقصية من النقد ومن الاهتمام والحضور؟.
كراس الثقافة فتح موضوع الـ (ق ق جدا) مع بعض النقاد وبعض الكُتاب المشتغلين عليها وفي حقلها.

استطلاع/ نوّارة لحـرش. .يومية النصر: الإثنين: 14 أفريل 2014

مخلوف عامر/ كاتب وناقد وأستاذ في جامعة سعيدة
          تراجعت لهيمنة الكتابة الروائية على الساحة وكتابتها من أصعب ما يمكن أن يتصوَّره المتطفلون على الأدب
         حال القصة القصيرة جدّاً من حال القصة القصيرة والشعر. فهي أنواع أدبية تراجعت لهيْمنة الكتابة الروائية على الساحة. فعادةً ما نشهد لدى الأدباء المبتدئين إقبالهم على كتابة القصة القصيرة أو الخاطرة وما شابه، لأنهم يستسهلون شأنها، ثم لا يلبثون أن ينتقلوا إلى كتابة الرواية. وقد يبرِّرون هذا التحوُّل بكون الرواية تمنحهم مساحة أرحب للتعبير عن أفكارهم التي لا تتسع لها القصة، بينما هم لا يملكون في الواقع من الفكر إلا ما يدفعهم إلى البحث عن شهرة مفقودة.
          فأما النقد في بلادنا فلم يواكب الحركة الأدبية، لأن المهتمين بالأدب لا يروْن في الناقد إلا تابعاً للمبدع يقتات على ما يتساقط من مائدته، وقد يشترطون فيه أن يكون شاعراً أو كاتباً ليتسنَّى له الحكم على الإبداع. وإنهم وإن لم يصرِّحوا بقناعاتهم، إلا أنها ليست بعيدة عمَّا عبَّر عنه “ميخائيل نعيمة” منذ قرن من الزمن حين كتب “الغربال” وقال: “وأي فضل للصائغ الذي تَعرض عليه قطعتيْن من المعدن متشابهتيْن. فيقول في الواحدة إنها ذهب، وفي الأخرى إنها نحاس؟ أو تعطيه قبضة من الحجارة البلورية البراقة فينتقي بعضها قائلا: هذا ألماس. ويقول فيما بقي: هذا زجاج؟ إن الصائغ لم يخلق الذهب ولا أوْجد الألماس (...) ولولاه لظل الذهب نحاساً والألماس زجاجاً أو العكس بالعكس. وكَمْ هم الذين يميزون بين الألماس وتقليد الألماس”. ص:18. ثم هل يُشترط في المرء أن يكون دجاجة كي يُميِّز صالح البيض من فاسده؟. والذي قد لا يعيه الذين يهجرون كتابة الشعر أو القصة القصيرة أو القصيرة جداً، أن كتابتها من أصعب ما يمكن أن يتصوَّره المتطفلون على الأدب. إذ أنها تستوْجب مكنة عالية في اللغة وتقنيات الكتابة واختزال شريحة من الحياة في لحظة شاعرية مركَّزة.
       كان “محمد الصالح حرز الله” -في حدود معرفتي- من أوائل مَنْ جرَّبوا كتابة القصة القصيرة جداً، وقد نجح إلى حد بعيد في أن يتميَّز بلغته وطريقته في الحكْي، كما في مجموعاته: “الابن الذي يجمع شتات الذاكرة” و” النهار يرتسم في الجرح” و”ا لتحديق من خارج الرقعة”.
        فأما وقد أصبحت الرواية جسراً للعبور إلى شاطئ الشهرة، ولم تعد في أغلب التجارب سوى فيض من الثرثرة، فإني لا أطمئن إلى أن القراء يجلسون طويلاً لقراءتها، وأشك في أن يكون الروائيون أنفسهم يقرؤون بعضهم. خاصة ونحن نشهد اليوم التسارع اللامسبوق في وسائل الاتصال واكتفاء القارئ بنص قصير كاكتفائه بأكل سريع.
           قد يؤشِّر هذا إلى العودة إلى هذه الفنون القصيرة، تماماً كما يكتفي القارئ أحياناً برسم كاريكاتوري يعبِّر في لمحة من البصر وبما هو أجمل، عمَّا لا يغنمه من خطب مطوَّلة أو نصوص مشوَّشَة ومشوَّهَة.
         إن العزوف عن الممارسة النقدية وعن بقية الفنون الأدبية، لا يمكن أن يدل إلا على ضحالة في الفكر وفقر في المعرفة الأدبية. وقد شهدنا في فترة سابقة كثيرين من أولئك الذين لا يتوفَّرون على أدنى حد من معرفة التراث الشعري وقواعده قد هربوا إلى شعر التفعيلة وقصيدة النثر. كما نشهد اليوم حالة من الرداءة سهَّلتها عمليةُ النشر، فطَفَتْ على السطح فقاقيع “روائيين” لن تلبث أن تنطفئ بمرور الأيام.



علاوة كوسة/ قاص وناقد وأستاذ في جامعة سطيف
        حظها من النقد يكاد يكون منعدما و المستقبل لها لأن الوعي فيها يسبق التجريب
       إن الحديث عن جنس أدبي معين في الكتابة الأدبية هو حديث عن بنياته الداخلية والأنساق التي تتحاور داخله، وهو حديث أيضا عن جمالياته وأدبيته بالدرجة الأولى، أي الحديث عن كل السِمات والخصوصيات التي تجعل منه كائنا أدبيا مستقلا بذاته عن الأجناس الأدبية الأخرى –وإن كانت الاستقلالية بين الأجناس من كبرى الإشكاليات المطروحة حاليا في النظرية الأدبية المعاصرة– لأن تاريخ الأدب أثبت أن الأجناس الأدبية إنما هي تناسلات لبعضها من بعض وامتدادات وتراكمات لبعضها الآخر أيضا.
        كما أن المتابع للدرس النقدي الغربي والعربي بالخصوص يلمح أن هناك اهتمامات نقدية ومتابعات قرائية متباينة لأجناس أدبية على حساب أخرى لدواع مختلفة، ولعل الاكتساح النقدي الكبير لعوالم الرواية في السنوات الأخيرة وإيلائها نصيبا كبيرا في الدرس الأكاديمي لخير دليل على أن هناك مكاييل نقدية كثيرة تصيب الأشقاء والفرقاء الأجناسية المختلفة، أما في الجزائر فإن المتأمل في الدرس النقدي والأكاديمي خصوصا لا يجد صعوبة في اكتشاف هذا الانحياز النقدي لأجناس أدبية دون أخرى ولعل الجنس الأدبي الأقل حظا من الدرس النقدي هي القصة القصيرة التي لم يكن لها من النقد الأكاديمي سوى أقل من خمسة بالمائة في أحسن الأحوال، وأكاد أجزم من خلال بحوثي الأكاديمية ومتابعاتي النقدية بأن حظ القصة القصيرة جدا يكاد يكون منعدما، فما أسباب ذلك وهل نملك مدونة قصصية قصيرة جدا حتى نتحدث عن متابعات نقدية لها؟ وهل نملك بالأساس نحن الجزائريين تصورا أوليًا لهذا الجنس الأدبي؟ وهل قرأنا يوما عن كتب تنظيرية له كما فعل كثير من النقاد العرب وفي مقدمتهم الدكتور حميد لحميداني في كتابه الرائد “نحو نظرية منفتحة للقصة القصيرة جدا”؟.
          منذ البداية أتحدث كباحث في الأدب الجزائري أولا، وقد عالجت في أطروحة الدكتوراه بعضا من هذه الإشكاليات والمساءلات، كما أنني أكتب القصة القصيرة جدا ولي فيها عديد الإصدارات، ومن هنا سأجدني متعددا في إجاباتي وأحكامي لأنني موقن دائما أن الأعلم بجنس أدبي ما يجب أن يكون عارفا به من الداخل والخارج، وعليه فمن المسلم جدا في مشهدنا القصصي الجزائري المعاصر أن هناك مدونات قصصية قصيرة جدا وهي قليلة طبعا، لكنها ذات قيمة فنية عالية، وتمتلك هذه المدونات أدبيات هذا الجنس بامتياز، ومن كُتابها البارزين أذكر للتمثيل لا الحصر: الدكتورة وافية بن مسعود، خالد ساحلي، سعيد موفقي، حسناء بروش، محمد رابحي، لامية بلخضر والمتحدث، هؤلاء الذين أثبتت تجاربهم أنها على قدر كبير من النضج الفني وأنها استوعبت الواقع الفني وأدبيات هذا الجنس الأدبي الباحث عن هوية بين إخوته.
         ولو جاز لي الآن كأكاديمي متخصص في فن القص، لأتحدث عن التفاعل النقدي بكل تجلياته الأكاديمية والصحفية، لوصفت هذا التفاعل بالمحتشم وغير المشرف مقارنة بما تزخر به الساحة النقدية الجزائرية من أقلام نقدية مشهود لها بالصرامة والبحث وطنيا وعربيا، وأسباب هذا الجفاء تستحق بحثا عميقا، أهو عدم اعتراف أم عدم تفرغ أم إننا تبّع في النقد أيضا؟.
       وليس دفاعا عن القصة القصيرة جدا، وليس حطا من قيمة نقادنا الجزائريين، أقول إن في مدوناتنا القصصية القصيرة جدا ما يستحق الاهتمام والدرس ولا داعي للتسبب باستسهال كُتابها لها أو تداخلها مع أجناس أدبية أخرى، والمستقبل للقصة القصيرة جدا لأن الوعي فيها أسبق من التجريب.


محمد رابحي/ قاص وناقد
       الفيسبوك شجع على استسهال كتابتها والأفضل أن تظل تنويعا قصصيا وألا تتحول إلى نوع يتخصص فيه الكُتاب
          هي حسب تقديري نوع سردي وتدقيقا نوع قصصي، قد لا يختلف عما سماه النقد يوما ما الأقصوصة والقصة الطويلة. واللذان لم   يستطيعا أن يكونا نوعين مستقلين، وإنما اختفيا لصالح القصة القصيرة. فلم يزيدا عن كونهما حجمين للقصة.
         أفضل أن تظل القصة القصيرة جدا تنويعا قصصيا أو مستوى من القص وألا تتحول إلى نوع يتخصص فيه الكُتاب. فلقد كتبها النوبلي نجيب محفوظ في مؤلفيه الأخيرين في بنية رؤى وأحلام. وقدم باولو كويلو وهو الروائي كتابا في هذا السياق نصوصه أقرب إلى “فابل” لافونتان. بينما كتب كافكا بأسلوبه طقطوقات عنوان بعضها أطول من النص نفسه.
          والمشكلة أنه يحدث في العالم العربي أن نخلق موضة ونركبها ونمضي بها إلى غير ما اتجاه. إذ من المفترض أن تظل القصة القصيرة جدا ملاذا لكل سارد قاص أو روائي، يلجأ إليها كلما استدعت الفكرة ذلك. بالنسبة إلى تجربتي، فلقد كتبتها في هذا السياق: تنويع للقصة القصيرة التي هي عمود كتابتي الفقري. ولم أنتظر النقد العربي ليعينني على استيعابها، بل تعمدت فيها أن أقدمها بعفوية دون التقيّد بأيّما تنظير. فنصوصي بين الحكي والحكمة وما يشبه الخبر والرسالة، وهي عندي لا تحتكم إلى حجم معين، إذ أكتبها سطرا، وقد تطول إلى درجة تصبح أقصوصة. إنما اخترت أن أكون فيها حرا. لأنني في الأخير لا أستطيع أن أتخيّل كاتبا تحت صفة “قاص قصير جدا”.
            ويصاب المشهد الأدبي العربي بمثل هذا الاختلال في غياب النقد (أو الوعي النقدي) المطلق. والمحاولات القليلة لتأطير “ق ق ج” منحت الوهم بأنها نوع أدبي يمكن التخصص فيه. إلى جانب ما أنشئ من مواقع تحتفي بها وإطلاق المسابقات. إضافة إلى أن الفيسبوك شجع على استسهال كتابتها. فوجدنا أنفسنا في هذا التدفق المتسارع. والذي أراه “هوسا”. لا تدعمه أي معايير. والمعروف أنه إذا شاع الخطأ صار هو الأصل. والحاصل في مشهدنا الأدبي بحيث لا نستطيع أن نحدد لها مستوى.


قلولي بن ساعد/ قاص وناقد
        المطلوب هو الاعتراف بالهوية الجنسية النصية لهذا الفن من طرف "مؤسسات النقد الجامعي"
       القصة القصيرة جدا فن جديد بدأ يعرف طريقه إلى المشهد الثقافي العربي بخجل في السنوات الأخيرة، مثله مثل القصيدة القصيرة جدا، ويمتاز هذا اللون من الكتابة القصصية عن القصة القصيرة بكثافة اللغة والقبض على اللحظة الإبداعية بأقل قدر ممكن من الكلمات بإيحائية شديدة الوقع على ذائقة القاريء وبإحداث عنصر المفارقة التي هي البؤرة المركزية التي يتأسس عليها وجوده المفارق، ويمكن اعتبار أيضا أن شاعرية اللغة رافد آخر لهذا الفن لو تتم الاستعانة بها لكسر جمود اللغة القصصية دون تعسف أو إضافات زائدة عن «فائض المعنى»، لأن المبدع السارد أو الشاعر هو في النهاية منتج «لفائض المعنى» وليس لفائض الكلام، غير أن الاهتمام به في جزائر اليوم وفي مشهدنا الأدبي لا يزال دون المستوى، مثله مثل القصة القصيرة عموما، من حيث التداول الإعلامي والنقدي وفرص النشر والذيوع والانتشار لجهل البعض بجدواه وأهميته، وربما أيضا الخوف من استسهال هذا الجنس الأدبي من طرف أدعياء التواجد الصوري والمرور إلى فضاءات الأدب دون زاد يذكر. ومع ذلك، فإننا نجد لهذا الفن ممثلون ورموز ثقافية تمارسه كتابة ونقدا، وتدعو له وتُعقد من أجله الندوات والمؤتمرات في المغرب والعراق ومصر والسعودية وفي غيرها من البلدان العربية، وفي المغرب بصفة خاصة تشهد القصة القصيرة جدا تطورا مذهلا، لقد لفت نظري منذ أشهر عندما اطلعت على ملف نوعي ومهم للغاية خصص للقصة القصيرة جدا نشرته مجلة عربية، وشارك فيه نقاد قدموا إضاءات مثمرة لفن القصة القصيرة جدا وأبانوا عن اهتمام به واسع النطاق ووعي مسحي بأهم ممثليه في الوطن العربي وكُتاب أخلصوا لهذا الجنس الأدبي «اللامفكر فيه»، عندها اندهشت صراحة لهذا الاهتمام والوعي الإبداعي بهذا الفن، الذي لا شك أنه من أفضل الفنون قدرة على اختزال اللحظة الإبداعية والذهاب عميقا في إبداعيته، ترفده في ذلك قوة المخيلة وكثافتها والتفجير اللغوي. وأنا شخصيا لا أعدم وجود ممثلين لهذا الجنس الأدبي الخصوصي في الجزائر، لكنهم بحاجة إلى تثمين مضاعف واهتمام أكبر للخروج به من ركام الشفوية وأحاديث الكواليس إلى فضاء الاعتراف بهويته الجنسية النصية لبعثه على حمل شرارة وجوده، لعله يرنو للمختلف رؤية وتشكلا. وأتصور أن الاعتراف بهذا الجنس من طرف «مؤسسات النقد الجامعي» هو المظهر الأكثر انفتاحا لاكتشاف خصوصية هذا الفن، وما لم يتم ذلك فسيظل هذا المولود محجوبا مغيبا عن أنظار القراء. ثم يأتي بعد ذلك العمل على التفكير في آليات تطور هذا الجنس الأدبي الوافد. ففي حدود علمي ومعلوماتي المحدودة لم أسمع بعد بأن باحثا جامعيا أنجز أطروحة حول فن القصة القصيرة جدا، أو أن مخبرا من مخابر البحث الجامعي عقدت ملتقى علميا لهذا الفن.


عيسى شريط/ قاص وروائي
       من أصعب الأجناس كتابة وعزوف النُقاد عن قراءتها يكمن في صعوبة تأويل محتواها
         اعتقادي أن النقد الأدبي وفي عمومه هو غائب تماما، لا يقتصر هذا الجفاء والغياب النقدي على القصة القصيرة جدا إنما يمتد إلى باقي الأجناس الأدبية الأخرى. القصة القصيرة جدا تعتمد على التركيز والاختزال والدقة ذلك ما يجعلها أكثر نفاذا في اعتقادي انطلاقا من القاعدة الفيزيائية التي تنص بأنه كلما دق الشيء كلما زاد خطورة، بذلك يجعلها من أصعب الأجناس الأدبية كتابة، ومنها صعوبة قراءتها من الناحية التأويلية، وعليه فعزوف النُقاد عن قراءتها يكمن في صعوبة تأويل محتواها من جهة وصعوبة كتابتها من جهة أخرى، واعتقادهم بأن من اختار كتابتها لسهولتها اعتقاد واهِ لا يبرر فعل إهمالهم.
       لقد سبق لي وأن خضت تجربة كتابة القصة القصيرة جدا، ووقفت على مدى صعوبة كتابتها ولا أبالغ إن قلت أن كتابة الرواية أسهل لأن فضاءها أوسع يوفر للكاتب مجالا للمناورة والاستفاضة والبوح، في حين لا توفر القصة القصيرة جدا ذلك إطلاقا، ففضاؤها ضيق جدا يحتاج إلى مهارة أكيدة من الكاتب كي يتمكن من تمرير ما يرغب في قوله بشكل سلس يتوفر على العنصر الجمالي والفني، فضلا على أنها تجمع بين النثر والشعر، فتركيبتها تتضمن روح الشعر بكل تأكيد نتيجة لعامل الاختزال الذي تتميز به، والشعر اختزال. وعليه فغياب الاهتمام والنقد والحضور سببه الجوهري ينحصر في أن القصة القصيرة جدا فن راق وصعب المنال، ولكي يتمكن من استقطاب الاهتمام أكثر لابد له من حضور أكثر عبر الإصرار والاستمرار في كتابة القصة القصيرة جدا لتعويد القراء على قراءتها واكتشاف خباياها الجمالية والفنية والموضوعية.
          أنا أعتبر أن القصة القصيرة جدا جنس أدبي معاصر جدا يتماشى وعصر السرعة وهو أكثر ملاءمة وتأقلما مع الراهن، واليقين أن أفاقه المستقبلية متوفرة وستمكنه من انتزاع مكانة تليق به وبميزته العصرية. أما أن ينال حصته من النقد فهذا أمر يبدو مستحيلا في الجزائر، فممن يتصفون بأنهم نقاد لا يقرؤون أصلا، باستثناء أولئك الذين يمارسون الانطباع النقدي الإعلامي، فهم أكثر نشاطا من الأكاديميين بين هلالين.

نبيل دحماني/ قاص وناقد وأستاذ مساعد بجامعة قسنطينة
         لا تزال في مرحلة المحاكاة والتأسيس ولم ترق إلى مرحلة التجريب
        بداية لعل الحديث عن الشيء يستدعي أولا معرفة هذا الشيء في محاولة للقبض على مضمونها وتماثلاتها من زوايا مختلفة، حيث تعد القصة القصيرة جدا من الفنون الأدبية الشائعة اليوم عالميا، وهي كغيرها من الفنون النثرية تتسم بانتقاء اللغة المناسبة والمفردات الدقيقة، يسترسل كاتبها في جمله القصيرة مدعما لموسيقى داخلية شيقة مركزة على فكرة واحدة وحدث واحد وشخص واحد وهدف واحد، فيوّلِد المعاني والصور من فيض مفرداته في دقائق معدودات أو ثوان موجزات. وهي كفن يخاطب المتلقي المثقف أكثر من أي متلقي آخر وقد انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية وعرفت انتشارا واسعا حتى سماها البعض بالقصة القصيرة الأمريكية ولكنها سرعان ما انتشرت في أماكن أوسع وهي اليوم يتم تداولها عبر أندويد وآيباد وتغريدات تويتر وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى كما خصصت العديد من المواقع الأدبية العربية على الانترنت أركان وأقسام خاصة بالقصة القصيرة جدا، وعلى الرغم من استمالة هذا الفن العديد من القصاصين والروائيين غير أنها أي «ق، ق، جدا» لا تزال في مرحلة المحاكاة والتأسيس ولم ترق بعد إلى مرحلة التجريب على أساس جملة الإشكالات التي تحيط بكُتابها أو بمن يريدون كتابتها. فهناك من ينظر إليها على أنها مطية الضعفاء وأصحاب النفس القصير وهناك من ينظر إليها على أنها مرحلة لاحقة لمرحلة كتابة القصة القصيرة لأنها تتطلب مهارات فنية وأدوات تعبيرية خاصة أكثر عمقا ودقة من سابقتها، والرأي الثاني أكبر للتقبل على أساس خصائص هذا الفن الذي يتسم بالسلاسة اللغوية الفائقة والدقة في انتقاء المفردات المولدة للمعاني والتحكم الخارق في حبكة جد ضيقة، والجمل القصيرة واللغة الإنزياحية.
         بدوري بدأ اهتمامي منذ أكثر من 15 سنة بالقصة القصيرة قراءة وكتابة أي منذ كتبت قصة “بوابة الردة” سنة 1999 وأنا في المرحلة الثانوية. شدتني في البداية أعمال عز الدين جلاوجي لكنني فيما بعد وقفت على تكلفها أكثر من تميزها، كما شدتني نصوص عبد الرزاق بوكبة والخير شوّار وهي النصوص التي توقفت عند صدق أصحابها دون تطرف لغوي وتعصب لنمطية ما، وكل ما قرأته عن هذا الفن إبداعا أو نقدا كان عن طريق الصحافة الوطنية، أو في كواليس بعض الندوات والملتقيات على قلتها. وعلى الرغم من أني استمتع بقراءتها وسماع إلقائها إلا أنها لم تستملني ولم تغويني القصة القصيرة جدا لكتابتها، بقدر شغفي للقصة القصيرة والقصة الطويلة والرواية.
        في الجزائر لم يختلف تطور هذا الفن عن باقي الدول العربية الأخرى لكن في ظل أزمة الأدب الجزائري المستعصية والمتمثلة في غياب قنوات النشر والتوزيع والتيارات النقدية، قد انعكس ذلك عن تطور هذا الفن جزائريا لدرجة لا يكاد يعرف أصحابه ولا يكاد يظهرون.
         فأصبح الأديب في الجزائر ينشر ليفشل لأن المقروئية لا تكاد ترى لها بصيصا والنقد في عطلة مرضية طويلة المدى، ودور النشر مهتمة بالحوليات المدرسية وكتب الطبخ. يجب النهوض بهذا الفن ليأخذ موقعه بين مختلف الفنون الأخرى لأنه أكبر من نص وأصغر من قصة قصيرة، يحمل بعض قيم العصر الحالي وهي السرعة والبساطة والدقة والسلاسة، فعلى الأدباء أنفسهم أن يتجندوا من أجل النهوض به من خلال تنظيم ملتقيات متخصصة والتكثيف من الندوات والأمسيات التي تُعنى بنشر هذا الفن واستمالة محبي الأدب إليه سبرا لأغواره واكتشافا لمكنوناته الخلاقة.

عبد الكريم ينينه/ قاص
        كُتابها في الجزائر قلة ومستقبلها مرهون بإجادة هذا الفن
         القصة القصيرة جدا في الجزائر، جنس أدبي يشق طريقه بصعوبة بالغة، أتمنى أن يلتفت إليه النقد بكامل الانتباه الذي ينبغي، وذلك خدمة للكتابة عندنا بالشكل الذي يسمح لنا بمسايرة الفعل الأدبي الحالي خارج الجزائر. غير أن مستقبل القصة القصيرة جدا عندنا، يبقى مرهونا بإجادة الكتابة في هذا الفن، فهذا ضروري لكي يعرف طريقه إلى الدراسات النقدية والمقروئية الواسعة والرواج، مع الإشارة إلى أن الكتابة الجميلة والنصوص الناجحة لا تُقاس بالأسطر وعدد الصفحات، والقول بأن البعض عجز عن ولوج القصة القصيرة والرواية، ولهذا عوض عجزه بفن القصة القصيرة جدا، لهو قول من لا يعي جيدا ما هي القصة  القصيرة جدا، فراح يستسهلها، ليجعلها ملاذا للفاشلين، وبرأيي فهو قول ينطبق على الطرف الآخر كذلك، فقد يعجز هو أيضا عن كتابة القصة القصيرة جدا فيقوم «بالحرقة» إلى الرواية والقصة القصيرة. أتكلم هنا عن النص الحقيقي المدهش لا غير، فمن يكتب فعلا في هذا الجنس فإنه يمتلك القدرة التي يمكن أن يفتقدها كاتب النصوص الطويلة، فهذا الفن ليس من اختصاص أي كاتب، كما أنه ليس مجرد حشو مختزل لبعض الألفاظ التي لا يجمعها أي رابط، ثم في الأخير، أليست الكتابة -في أي جنس كان- رؤية للأشياء ترعاها اللغة الجميلة؟.
         ما أعلمه حاليا هو أن كُتاب القصة القصيرة جدا في الجزائر قلة، قد يعدون على الأصابع، مقارنة بانتشار هذا الفن خارج الجزائر. ولعل غياب النص القادر على استيعاب العالم بفكرة وعبارات قليلة تقول بين ثناياها الكثير دون أن يشوش هذا الاختزال على القارئ، قد يكون من بين أسباب عزوف النقد عن التطرق لهذا الجنس، باختصار شديد «يجب أن نكتب ما يلفت الانتباه»، أقول هذا دون أن أبرئ الجامعة باعتبارها مسؤولة عن أي نقص معرفي يحصل في الخارطة الأدبية، إذ أذكر في هذا الصدد أن الأستاذ القاص عبد الله كروم تناول إحدى قصصي بالدرس مع طلبته في جامعة أدرار، فلم يجد أحدا منهم سمع من قبل بجنس القصة القصيرة جدا.
       الأهم هو الإمتاع والإدهاش، ولهذا الغرض وُجدت لغة الأدب، وأرى قول المعري منذ مئات السنين (يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق) صحيحا إلى أبعد حد في سياقه. شخصيا لا فرق عندي بين نص من أربعمائة صفحة ونص من بضعة أسطر يقول عالما بأسره، وفي كثير من الأحيان تعطينا القصة القصيرة جدا جرعتنا من الجمال والمتعة أسرع مما تعطينا النصوص الطويلة.
        هناك من يرى في القصة القصيرة جدا نصا غير مكتمل، وهذا غير صحيح، فهو أشد اكتمالا، وهي مكتفية بذاتها، أمام وعي قارئ لم يدرج بعد على هذه الكتابات المكثفة، خاصة في عالمنا العربي، هذا العالم المبني أساسا على الإكثار، الإكثار في الأكل، في الشرب، في الولد، في المال، هذا العالم المتناقض الذي لم يمنعه الإكثار من أن يوجِد للسانه صيغة بليغة موجزة لهذا الإكثار فقال: أكول، مزواج، ولود..إلخ. وتقابله الأمم الأخرى التي تتصيد النوعية القليلة مهما كان شكلها، ولنا دليل في تصيد أدمغتنا رغم أننا نختلف عنهم شكلا ومضمونا.
        وما ذنب القصة الجزائرية القصيرة جدا في بيئة الثرثرة بالكتابة؟ لقد كتب همنغواي مؤسس هذا الجنس الأدبي، قصة قصيرة من ست كلمات: «للبيع حذاء طفل لم يُلبس قط»، وقد عدت من أجمل ما كتب، ثم نأتي نحن، الأمة المثرثرة لغرض الإقناع، ونسمي هذا الجنس من الكتابة القصصية بكلمات تعادل في عددها نصف عدد كلمات قصة همنغواي، وكدليل على أن اسم هذا الجنس الأدبي أصاب أصحابه بما يشبه العياء، أطلقوا عليه اسم (ق.ق.ج) وذلك أشبه بتسميات فرق الكرة عندنا حتى تستوعبها قسيمات الرهان الرياضي وقمصان اللاعبين.

       وهل أكون مصيبا في رأيي لو قلت بأن العالم أصبح اليوم سريعا بما يكفي لكي نيأس من اللحاق به، ولابد لنا من البحث عن أفضل الحلول لنسير معه، فلا نبقى في الخلف كما حالنا الراهن، حلول في التقنية الدقيقة كما في تقنية الكتابة، ولأن ازدهار الرواية في الغرب كان أحد أسبابه هو الصناعة السينماتوغرافية، فإن القصة القصيرة جدا هي الأنسب لأمة لا أقول تعيش في عصر السرعة، ولكن لأمة مصابة بكسل القراءة، حتى لا أقول لا تقرأ. وأن في القصة القصيرة جدا الكثير من خلاصة الصدق والحقيقة، وأن الإنسان سيكتشف لا محالة في الأخير وهو بصدد مغادرة هذا العالم أن حياته لم تكن سوى قصة قصيرة جدا.

الأربعاء، 23 أبريل 2014

الحضارة الإنسانية

الحضارة الإنسانية  
 للحضارة الإنسانية جناحان: واحد روحيٌّ إيماني يعمّق الجانب الأخلاقي، وآخر مدني إنسانيٌّ يجذّر المفهوم الحضاري لدى الإنسان كمنتج علاقاتي تعاوني.. تكافلي..عملي .. ديناميكي ينشّط عجلة الحياة كي تدور، ولا تتوقّف باعتبارها دورة إنتاج، وبناء، وصُنْع حياة.

الثلاثاء، 15 أبريل 2014

"وهران" الجزائرية.. هنا كتب "سيرفانتس" الإسباني فصولا من روايته الشهيرة "دونكيشوت"

"وهران" الجزائرية.. هنا كتب "سيرفانتس" الإسباني فصولا من روايته الشهيرة "دونكيشوت"
       ظلت مدينة وهران، غربي الجزائر، على مدى قرون، ملهمة للأدباء والمفكّرين، فألفوا كتبًا عن تاريخها، وروايات خالدة لا يزال التاريخ يذكرها، لعل أبرزها رواية "دونكيشوت" الشهيرة، التي كتب الإسباني "ميجيل دي سيرفانتس" فصولاً منها بالمدينة، بحسب روايات تاريخية.
       وذكر ماسينيسا أورابح، مسؤول المعالم الأثرية بمحافظة وهران، في تصريحات لوكالة الأناضول، قصة مجيء الكاتب الإسباني "سيرفانتس" (1547- 1616) إلى المدينة، قائلاً: "قدم سيرفنتاس إلى وهران (450 كلم غرب الجزائر العاصمة) في القرن السادس عشر للميلاد، على متن سفينة برفقة بحارة، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا عليه لدى وصولهم المدينة، حيث سلبوا ماله وتركوه وحيدا".
       وتابع: "ما لا يعرفه كثير من الناس هو أن سيرفنتاس جاء في إطار مهمة تجسس، كلفه بها الملك الإسباني آنذاك، إذ جمع معلومات عن الوضع العام بالمدينة، حصل عليها خلال لقائه بأعيان القبائل، التي كانت تحيط بوهران". ومضى قائلا: "لقد سرّب سيرفانتس معلومات هامة إلى الملك الإسباني حول عدة وعتاد الجنود الجزائريين المكلفين بتأمين مدينة وهران من الغزو الأجنبي".
      وأوضح ماسينيسا أن الكاتب الإسباني سيرفانتس تأثر كثيرًا بـ"مغامراته" في وهران، فأشار إليها في روايته الشهيرة "دونكيشوت"، كما "تنقل إلى الجزائر العاصمة، وجمعته قصة غرامية بفتاة جزائرية، ثم انتهى به المطاف بالسجن بسبب التجسس، ليتمكن من الهرب فيما بعد".
     وتحكي رواية "دونكيشوت" تفاصيل مغامرة قام بها رجل قروي، في الخمسين من العمر، يدعى "ألونسو كيخانو"، حيث عاش في إسبانيا في القرن السادس عشر، وتأثر بقصص الفرسان الجوالين، الذين يجوبون بقاع الأرض، مدافعين عن المستضعفين، فحذا حذوهم، بأن استخرج هذا القروي سلاحًا قديمًا تركه له أجداده، وارتدى درعًا ووضع على رأسه خوذة، وحمل رمحًا وركب حصانًا هزيلاً، وانطلق في مغامرته ومعه فلاح ساذج من قريته يدعى "سانشو"، وعده بأن يجعله حاكمًا على إحدى ممالكه إن اتبعه.

     وخاض الفارس المغامر معركة وهمية ضد طواحين الهواء التي صادفها في طريقه، متوهمًا أنها شياطين ذات أذرع هائلة، واعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها غير مكترث بصراخ مرافقه "سانشو"، ووضع فيها - أي الطواحين - رمحه فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به ورمته أرضًا، فحطمت عظامه. وترجمت رواية "دونكيشوت" إلى العديد من اللغات، لكن يبقى المميز فيها تلك الفصول المستلهمة من محطات حياتية عاشها سيرفانتس بوهران.

الأحد، 13 أبريل 2014

كاتب المذكرات غير حيادي في روايته لتاريخ عصره

                       كاتب المذكرات غير حيادي في روايته لتاريخ عصره
بشير خلف
      يلجأ الكثير من الناس في الغرب إلى كتابة مذكراتهم، أو سيرهم الذاتية، أو يومياتهم بشكل منتظم، أو على نحو متقطع بين آونة وأخرى؛ وقلما نجد مثقفاً أو كاتبا، أو مفكرا لم يجرب الكتابة عن نفسه خلال حياته في شكْل يوميات، أو سيرة ذاتية، أو مذكرات، كما يحرص العديد من الساسة على تدوين مذكراتهم الشخصية، أو سيرهم الذاتية بصدقٍ دون مواربة، أو خجلٍ، أو خشية من قوْل الحقيقة.
      في الجزائر يبدو أن أهل السياسة أشجعُ من الأدباء، والمفكرين، والمثقفين في تدوين مذكراتهم، ولو أنّ نشْرها يتمّ بعد ابتعادهم عن مناصب المسؤولية نتيجة التقاعد، أو الإقالة، ومكتباتنا في السنوات الأخيرة تعدّدت بها عناوين هؤلاء.
        ولم أطلع حتى يومنا هذا على مذكرات لأديب من أدبائنا، أو قامة فكرية شغلت الساحة الثقافية، أو تصدّرت المشهد الثقافي في ربوع بلادنا سواء في العاصمة، أو الحواضر، أو غيرها من الجزائر العميقة.
       رحل الدكتور أبو القاسم سعد الله منذ أشهر قليلة، وبحكم علاقتي به عن قُرْبٍ، لا أعلم أنه كتب مذكرات بالمصطلح المعروف، والكتاب الموسوم ب: (حديث صريح مع أ.د .أبو القاسم سعد الله في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ) الذي أصدره مراد أوزناجي سنة 2008 بموافقة سعد الله، وبمباركته لما في الكتاب، والذي يلخص المسار الفكري والثقافي لسعد الله لا أحسبه مذكرات، وقبله رحل الدكتور عبد الله ركيبي، والدكتور أبو العيد دودو، والدكتور عبد الله شريط، والطاهر وطار، وعبد الحميد بن هدوقة ،والشيخ عبد الرحمن شيبان، ومولود نايت بلقاسم، وغيرهم كلهم رحلوا، ولم يكتبوا مذكراتهم التي كان بالإمكان أن تكون إضاءات تزيح العتمة عن عهْدٍ عاشوه زاخراً بالأحداث التاريخية الهامّة في تاريخ الجزائر المعاصرة.
      وفي اعتقادي الشخصي أن هذا يعود إلى ثقافة متأصّلة لدى المثقفين الجزائريين حتى لدى جيل ما قبل الثورة وخلالها؛ فأين هي مذكرات رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ ربما يقول قائل إن السياسي يسهل عليه  كتابة المذكرات باعتباره مساهمًا في صُنْع الأحداث، والوثائق متوفرة بين يديه؛ بينما الكاتب الأديب في الجزائر غالبا هو بعيد عن صُنع القرار، ولكنه متأثر به، وبحكم الأحادية الحزبية التي تحكمت لعقود في الكبيرة والصغيرة بما في ذلك هيكلة الكُتاب، والأدباء، والرقابة التي كانت بالمرصاد لكل ما يخطّه اليراع ولّد رقابة ذاتية صارمة لديهم تلازمهم حتى الآن، والوضع تغيّر .
      إن المذكرات تعني فيما تعني النظرة إلى الوراء، كما تعني النظرة خارج النفس للبحث عن شهادة حول حقيقة تاريخية : فرديا، أو جماعيا، أي أنها وجهٌ من أوجه التاريخ المتعددة؛ فكاتب المذكرات لا يكتب أدبًا بالدرجة الأولى ، ولكنه يروي تاريخ عصره ومجتمعه من خلال رؤيته، وتقويمه للأحداث، إلاّ أنه يختلف عن المؤرخ الذي يتعامل مع الحقائق موضوعيا، فقد تجذب الأديب ذاتيته، إنما الأمر يتطلب جرأة خاصة، في قوْل الحقيقة.
      ولعلني أرى أن هروب أدبائنا من كتابة المذكرات التي هي بطبيعة الحال تختلف كثيرا عن السيرة الذاتية مردّه إلى عامليْن : سوسيولوجي، وسيكولوجي، حيث يُعرف عن الفرد الجزائري أنه حريص على إخفاء خصوصياته، والكثير ممّا يخص سلوكياته حتى على أقرب الناس إليه، كما هو حريص على التمظهر بالعفّة، ونقاء السريرة أمام المجتمع في حياته ، وحتى بعد مماته، وتجنّبه لكل ما يؤدي به إلى التبعات. كما أني ومن خلال معايشتي لردود الأفعال العنيفة التي تلت صدور مذكرات ساسة جزائريين: مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، الرئيس الراحل علي كافي، محي الدين عميمور، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، خالد نزّار، بلعيد عبد السلام، الطاهر زبيري، أضافت الحيطة والحذر لدى أدبائنا كي لا ينساقوا وراء مغامرة كتابة المذكرات الشخصية تحاشيا لردود الأفعال، وربّما العزوف عن كتابة المذكرات لدى أغلب الأدباء الجزائريين يدخل ضمْن أخلاق التواضع، وعدم تضخيم الذات .

      

                  السمعُ أبو الملكات اللِّسانية؟ كتب: بشير خلف العلّامة المرحوم ابن خلدون في مقدّمته: «إن أركان اللسان العربي 4، هي: ...