الثلاثاء، 10 فبراير 2015

مذكّرات الطريق.. رحلةٌ من الواحات الجزائرية والتونسية

مذكّرات الطريق.. رحلةٌ من
الواحات الجزائرية والتونسية
بقلم: بشير خلف
       قراءة في كتاب
          الصحراء ذلك الفضاء الشاسع السحريّ الأسطوري الكامن في المخيال الجمعي للإنسانية عامة ، وفي الذاكرة العربية بشكل خاص ، حيث ” تبرز الصحراء في الوعي ، والمُخيّلة مَـجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها  المتقلِّبة ، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب ، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء.
        ولوج الصحراء فـــتْحٌ لإمكانية الحكي.. أن تعيش وترى ، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي ، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرِّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسّع أفق التصور المحفّـــز على الكتابة والبوْح،والإبداع..
       وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقــلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتعٌ فــــــــذٌّ للملاحظة العلمية والتاريخية، مثلما هي فضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، ورحّالة ، ومغامرين ، ومستكشفين ، وجواسيس ، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا، وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت ، وغيرهم ليدخلوها ، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه.
      الكثير من الرحّالة الغربيين من قديم ولا يزالون فتنوا بالصحراء، وولهوا بها وحتى الذين كانت مهامّهم اكتشافًا، وجوسسة للاستعمار الغربي لم يسلموا من هذا الوله، والافتتان بالصحراء، وخاصة الصحراء الكبرى الإفريقية.

الرحّالة هنري دي فايريه
       من هؤلاء الرحّالة وعالم الجغرافيا الفرنسي هنري دي فايريه الذي اشتهر باستكشافاته للصحراء، وأقام بها العديد من الشهور في الصحراء الجزائرية، والتونسية، ووصل حتى مدينة غدامس حيث الحدود الليبية.
         هذا الكاتب الرحّالة يُعتبر من أبرز المغامرين والمستكشفين الغربيين الذين جابوا الصحراء، ودوّنوا ملاحظات مهمّة صدرت في كُتُب ، تُعدّ الآن مراجع مهمّة للباحثين في شتّى المجالات؛ فقد قدّم معلومات، ومشاهدات غزيرة، ووثائق قيّمة، وهامّة ، ويوميات تحكي بأدقّ التفاصيل مشاهداته وملاحظاته لمختلف المناطق التي زارها.
          ألّف هذا الرحالة العديد من الكتب حول استكشافاته في رحلاته، منها مذكّرات رحلة في إقليم الجزائر، استكشاف الصحراء.. توارق الشمال، إخوانية سيدي محمد بن علي السنوسي المسلمة، ومجالها الجغرافي سنة 1300 هجري، والكتاب الذي بين أيدينا : الصحراء الجزائرية والتونسية .مذكرات الطريق.

الكتاب
       صدر في بداية هذه السنة عن دار الثقافة محمد الأمين العمودي بالوادي كتاب : " مذكرات الطريق ..رحلة في الواحات الجزائرية التونسية 1860- 1861 " للرحالة الفرنسي هنري دي فايريه ..ترجمة الكاتب والمترجم الجزائري ميهي عبد القادر، أصيل ربوع سُوفْ.
      الكتاب من الحجم المتوسط ، يتضمّن : الإهداء، شكر، مقدمة ،تصدير، من بسكرة إلى وادي ريغ، ووادي سُوفْ، ورقلة وتقرت، من تقرت إلى الجريد مرورًا بسُوفْ، في الجريد التونسي، نفزاوة وقابس، العودة إلى الجريد عبر قفصة، من توزر إلى بسكرة، في وادي ريغ، في سُوفْ، مذكرات عن التجارة في الوادي، السفر إلى غدّامس ..  تضمّها مجتمعة 206 صفحة .الغلاف من إبداع الفنان التشكيلي كمال خزّان ..غلاف يعبّر عن البيئة الصحراوية عمرانًا وطبيعة .
        قدّم للكتاب الأستاذ الباحث الدكتور العيد جلولي، الأستاذ بجامعة قاصدي مرباح بورقلة، حيث ممّا جاء في المقدمة :« إن هذا الكتاب" مذكرات الطريق: رحلة في الواحات الجزائرية والتونسية سنة 1860 م لهنري دوفيرييه الذي نسعد بتقديمه يمثّل حلقة من حلقات كثيرة بدأها الكاتب والمترجم عبد القادر ميهي منذ فترة طويلة قدم خلالها للمكتبة العربية مجموعة من الكتب المترجمة، بعضها رحلات، وبعضها تقارير الضباط الفرنسيين، وبعضها الآخر مذكرات لهؤلاء الرحّالة، أو الضبّاط العسكريين سجّلوا خلالها انطباعاتهم أثناء قيامهم بهذه الرحلات، أو أثناء تدوين هذه التقارير.»
      وممّا جاء في التصدير للأستاذ محمد حامدي مدير دار الثقافة بالوادي: «...وجب علينا أن ننوّه هنا بالمجهودات المبذولة من قِبل الأستاذ ميهي في سعيه من أجل المحافظة على إرثنا الحضاري، والثقافي من خلال ترجمته لمجموعة من الكتب جلّها تتحدّث عن تاريخ الوادي، كتبها بعض المستكشفين الغربيين الذين عاشوا لفترة من الزمن في هذه الأرض، فمنهم منْ أحبّها، وعشقها، وكتب عنها بكل جوارحه عن كل شيء عاشه، أو شاهده؛ فكانت كتاباتهم عبارة عن صفحة من صفحات تاريخ هذه الجهة، والأستاذ عبد القادر ميهي يكون بهذا قد وضع لبنة متينة من أجل ترجمة مختلف الأعمال التي كُتبت عن المنطقة، والمناطق المجاورة.. الصحراء الجزائرية ألهمت منذ القدم العديد من المستشرقين، والمفكرين الغربيين، فكتبوا عنها مجموعة من الكتب تُعتبر في ظلّ شحّ الكتابات مرجعًا يمكن من خلاله معرفة جوانب عديدة من الحياة التي كان يعيشها سكان تلك المناطق.

نصوص الكتاب المترجمة
       إن ترجمة النصوص في هذا الكتاب من بدايته إلى نهايته من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية من قِــبل الأستاذ المبدع ميهي عبد القادر جعلتني في كثير من الأحيان أتصوّر نفسي لا أقرأ للكاتب الرحّالة، وإنما أقرأ نصوصا للمترجم، وكأنّ الإثنان يتماهيان ..إن الترجمة لدى الأستاذ ميهي إبداعٌ وفنٌّ، ومعايشة للنصّ المترجم، وتغلغل في مكوّناته المعرفية، والتاريخية، وتوظيفٌ راقٍٍ للغة العربية من أجل إيصال أفكار كاتب النصّ الأوّل؛ فقد يقرّب لك الفكرة فيجعلك وكأنك عشتها، أو هي جزْءٌ منك في مرحلة من مسيرة حياتك.
       ففي نصّ بسكرة 15 جانفي ( يوميات)
       لمّا يتكلم هنري دي فايريه على الجولة التي قام بها رفقة السيد كولمبو إلى حمّام الصالحين، محدّدا موقعه المكاني بدقّة، ويصف الماء، والرائحة المنبعثة منه، وكذا غرف المستحمّين، ودرجة حرارة الماء، والسبب الذي دفعه إلى هذه الجولة مع رفيقه؛ نلاحظ أن المترجم ميهي عبد القادر بمهارته في الترجمة، وإبداعه فيها يجعل المؤلف الأصلي للنصّ يتوارى، والمتلقّي يجد الكاتب ميهي وكأنه صاحب النصّ وحده :
«... غطس السيد كولمبو في الحمّام؛ أمّا أنا فاكتفيت بوضْع رجليّ فقط ، والتي أصبحت تؤلمني بعد وقت قصير. كان سبب  هذه الجولة رغبتي في الحصول على عيّنات من الأسماك التي تعيش في الساقية الجارية من الحمام، ويحتفظ ماؤها لوقت طويل نسبيا بحرارته، وأيضًا بالأملاح المشبع بها. هذه الأسماك التي تمكنتُ من الحصول على نماذج منها تشبه كثيرا تلك التي في مياه وادي ريغ الارتوازية، حيث تعيش في مياه تصل حرارتها الـ 30 درجة مئوية.»
        هذا الكتاب عبارة عن يوميات سجّل فيها هنري دي فارييه كل ما رآه، وما صادفه في طريقه سنة 1860 م ، من بسكرة إلى وادي ريغ، ووادي سُوفْ، ثم السفر إلى غدامس بدءا من يوم 15 جانفي ببسكرة إلى يوم 10 آوت 1860 م .
          علمًا أنّ اليوميات كما هو معلوم،  تُــعد وثيقة، أو وثائق تاريخية مهمة، يمكن الاستفادة منها من قِبل الكثير من فروع العلم، كعلم النفس، وعلم النفس الاجتماعي، والعلم العسكري، وكذلك الأمني، مثلما يستفيد من اليوميات المؤرخ، الأستاذ الجامعي، الطالب، المثقف، وغيرهم.
        إضافة إلى الفائدة الأدبية الكبيرة التي يمكن أخذها من اليوميات، وبالطبع هذا يتوقف على مستوى صاحب كاتب اليوميات.
       بالكتاب الذي بين أيدينا توجد وثيقة تاريخية هامّة تبدأ من الصفحة 157 عنوانها " مذكرات عن التجارة في الوادي " في ذاك التاريخ، ومحاورها، وأسواقها، وحتى أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، إذْ يُقرّ هنري بأن التجارة في منطقة سُوفْ لا علاقة لها بالشمال الجزائري الذي أطلق عليه هنري بـ " ممتلكاتنا في الشمال " :
« تسلك تجارة الوادي أربع اتجاهات أساسية، ومن الغريب أنْ لا واحدة منهن تتجه نحو ( ممتلكاتنا في الشمال) ، بسكرة، أو ربّما تبسّة. " تقرّت " لديها في الحقيقة علاقات مع سُوفْ ( الوادي)، ولكن التجارة التي تُعتبر الأساس فاترة جدا، وهي تخصّ في غالبها بلدات سُوف الثلاث " قمار " و " كوينين " و " الزقم " . وقنوات التجارة الرئيسة الأربع هي: تونس، الجريد، قابس، تــتمّ عـبْر هذه الأخيرة المبادلات مع " غات " و " السودان "إضافة إلى ورقلة. أمّا التجارة مع " الجريد" فتعتمد حصْرًا تقريبا على الأقمشة الرفيعة من صُوف، وحرير هذا البلد.
       التداول في الوادي للسلع القادمة من تونس، وتدخل في دائرة المنتجات المصنّعة، وفي أغلبها إنجليزية، أو مالطية.
      على سبيل المثال الأسعار الجارية حينذاك كالتالي:
ــ قطعة قماش قطني من مالطة : 22.5 م إلى 23.5 م طولا ثمنها 9 فرنك
ــ منديل قطن ملون ـ إنقليزي ـ الدزينة 6 فرنك.
ــ ورق أبيض للدراسة 500 ورقة 5 فرنك.
ــ برنس غير مخاط من الجريد من 20 فرنك إلى 25 فرنك.
حايك من الصوف من 22.5 فرنك إلى 30 فرنك.
      أمّا أسعار نقْل وحمولة الجمل بالفرنك :
ـــ من الوادي إلى تونس 80 فرنك صيفًا، 40 فرنك شتاء.
ـــ من الوادي إلى ورقلة 20 شتاء، إلى ميزاب 25 شتاء، إلى تبسة 22.5 شتاء.

أهمّية الكتاب
      يُعدّ هذا الكتاب من الوثائق التاريخية  المهمّة، ووثيقة أساسية في معرفة تاريخ الصحراء الكبرى بصفة عامة، وتاريخ الصحراء الجزائرية الشرقية ، ومنطقة ربوع سُوفْ خاصة بكونها منذ القديم منطقة ذات نشاط تجاري، ومحور للسفر، والتبادل التجاري مع الجنوب الجزائري، وتونس، وغدّامس.
       إن هذا الكتاب يُعتبر لبنة جديدة تُضاف إلى صرْح الثقافة العربية، والمكتبة الجزائرية؛ هو عملٌ تاريخي ثقافي يُهدى للجيل الحاضر والمستقبلي، منه يشعر بأهمية التاريخ الوطني، وتثمين جهود الآباء والأجداد حتى يحذو حذوهم في عمارة المنطقة وخدمتها، وتنميتها ، وكذا الحفاظ عليها ضمْن الحفاظ على الوطن، وخدمته بالأعمال الخالدة.
      شكرا للأستاذ الحاج عبد القادر ميهي على جهوده في إثراء المكتبة العربية بهذه الترجمات الراقية، وهذه اللغة الانسيابية الجميلة التي تأْسر المتلقّي، وترحل به بعيدا في أعماق تاريخ صحرائنا المجيدة.

   ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للتعليق أو المشاركة: اضغط على ( روابط هذه الرسالة ، ثم اضغط على ( إرسال تعليق) واكتب تعليقك داخل المربع وارسلْه.    

     

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...