كاتب المذكرات غير حيادي في روايته
لتاريخ عصره
بشير خلف
يلجأ الكثير من الناس في الغرب إلى كتابة
مذكراتهم، أو سيرهم الذاتية، أو يومياتهم بشكل منتظم، أو على نحو متقطع بين آونة وأخرى؛
وقلما نجد مثقفاً أو كاتبا، أو مفكرا لم يجرب الكتابة عن نفسه خلال حياته في شكْل
يوميات، أو سيرة ذاتية، أو مذكرات، كما يحرص العديد من الساسة على تدوين مذكراتهم الشخصية،
أو سيرهم الذاتية بصدقٍ دون مواربة، أو خجلٍ، أو خشية من قوْل الحقيقة.
في الجزائر يبدو أن أهل
السياسة أشجعُ من الأدباء، والمفكرين، والمثقفين في تدوين مذكراتهم، ولو أنّ
نشْرها يتمّ بعد ابتعادهم عن مناصب المسؤولية نتيجة التقاعد، أو الإقالة،
ومكتباتنا في السنوات الأخيرة تعدّدت بها عناوين هؤلاء.
ولم أطلع حتى يومنا
هذا على مذكرات لأديب من أدبائنا، أو قامة فكرية شغلت الساحة الثقافية، أو تصدّرت
المشهد الثقافي في ربوع بلادنا سواء في العاصمة، أو الحواضر، أو غيرها من الجزائر
العميقة.
رحل الدكتور أبو القاسم سعد الله منذ أشهر
قليلة، وبحكم علاقتي به عن قُرْبٍ، لا أعلم أنه كتب مذكرات بالمصطلح المعروف،
والكتاب الموسوم ب:
(حديث صريح مع أ.د
.أبو القاسم سعد الله في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ) الذي أصدره مراد
أوزناجي سنة 2008 بموافقة سعد الله، وبمباركته لما في الكتاب، والذي يلخص المسار
الفكري والثقافي لسعد الله لا أحسبه مذكرات، وقبله رحل الدكتور عبد الله ركيبي،
والدكتور أبو العيد دودو، والدكتور عبد الله شريط، والطاهر وطار، وعبد الحميد بن
هدوقة ،والشيخ عبد الرحمن شيبان، ومولود نايت بلقاسم، وغيرهم كلهم رحلوا، ولم
يكتبوا مذكراتهم التي كان بالإمكان أن تكون إضاءات تزيح العتمة عن عهْدٍ عاشوه
زاخراً بالأحداث التاريخية الهامّة في تاريخ الجزائر المعاصرة.
وفي اعتقادي الشخصي أن هذا يعود إلى ثقافة
متأصّلة لدى المثقفين الجزائريين حتى لدى جيل ما قبل الثورة وخلالها؛ فأين هي
مذكرات رجالات جمعية العلماء المسلمين الجزائريين؛ ربما يقول قائل إن السياسي يسهل
عليه كتابة المذكرات باعتباره مساهمًا في
صُنْع الأحداث، والوثائق متوفرة بين يديه؛ بينما الكاتب الأديب في الجزائر غالبا هو
بعيد عن صُنع القرار، ولكنه متأثر به، وبحكم الأحادية الحزبية التي تحكمت لعقود في
الكبيرة والصغيرة بما في ذلك هيكلة الكُتاب، والأدباء، والرقابة التي كانت
بالمرصاد لكل ما يخطّه اليراع ولّد رقابة ذاتية صارمة لديهم تلازمهم حتى الآن،
والوضع تغيّر .
إن المذكرات تعني فيما تعني النظرة إلى
الوراء، كما تعني النظرة خارج النفس للبحث عن شهادة حول حقيقة تاريخية : فرديا، أو
جماعيا، أي أنها وجهٌ من أوجه التاريخ المتعددة؛ فكاتب المذكرات لا يكتب أدبًا
بالدرجة الأولى ، ولكنه يروي تاريخ عصره ومجتمعه من خلال رؤيته، وتقويمه للأحداث،
إلاّ أنه يختلف عن المؤرخ الذي يتعامل مع الحقائق موضوعيا، فقد تجذب الأديب ذاتيته،
إنما الأمر يتطلب جرأة خاصة، في قوْل الحقيقة.
ولعلني أرى أن هروب أدبائنا من كتابة
المذكرات التي هي بطبيعة الحال تختلف كثيرا عن السيرة الذاتية مردّه إلى عامليْن :
سوسيولوجي، وسيكولوجي، حيث يُعرف عن الفرد الجزائري أنه حريص على إخفاء خصوصياته،
والكثير ممّا يخص سلوكياته حتى على أقرب الناس إليه، كما هو حريص على التمظهر
بالعفّة، ونقاء السريرة أمام المجتمع في حياته ، وحتى بعد مماته، وتجنّبه لكل ما
يؤدي به إلى التبعات. كما أني ومن خلال معايشتي لردود الأفعال العنيفة التي تلت
صدور مذكرات ساسة جزائريين: مذكرات الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، الرئيس الراحل
علي كافي، محي الدين عميمور، الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، خالد نزّار، بلعيد عبد
السلام، الطاهر زبيري، أضافت الحيطة والحذر لدى أدبائنا كي لا ينساقوا وراء مغامرة
كتابة المذكرات الشخصية تحاشيا لردود الأفعال، وربّما العزوف عن كتابة المذكرات
لدى أغلب الأدباء الجزائريين يدخل ضمْن أخلاق التواضع، وعدم تضخيم الذات .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق