تلمسان البهيّة ..تحتضن الملتقى
الوطني الأول للقصة القصيرة
بقلم: بشير خلف
القصة هي إبداع
سردي استثنائي، يكون القاص في مواجهة مباشرة مع الآخر المتلقّي، باعتباره يمارس
الحكي، فيشترط أن يتقن صنعته جيدا. القصة الناجحة هي التي تصل إلى الناس دون حواجز،
وعقبات؛ إضافة إلى توفّــر شروط نجاحها الفنية الأخرى ..
والقصة القصيرة
حالة من المتعة ، تأخذ من القصيدة شعريتها، وموسيقاها، وتكثيفها وقوتها، وتأخذ من الرواية
الحدث والشخصيات، ومن المسرح الحوار والصراع السريع الخاطف. وتعتبر القصة القصيرة فــنّ اللحظات المفصلية في
الحياة، فلا تتناول الحدث من خلال مساحته الواسعة، وزمانه المطلق؛ بل تختطف اللحظة
كومضة، أو كسهم ينطلق سريعا إلى هدفه وبكل قوة.
لِـــما
لهذه الأهميّة المُتْعـــتية، والجمالية للقصة القصيرة، وتوجّه الكل متلقيا،
وناقدًا للرواية في السنوات الأخيرة، والإعراض عن القصة القصيرة ( ديوان العرب
الحديث)، ارتأت مديرية الثقافة ـ مشكورة ـ بتلمسان أن تعيد إليها مكانتها، ووهجها
من خلال تنظيم الملتقى الوطني الأول للقصة القصيرة يوم الثلاثاء 16 ماي 2017 الذي
احتضنه قصر الثقافة عبد الكريم دالي بإمامة تلمسان البهيّة.
فعالية الملتقى جاءت لبعْــث، وإعادة إحياء
الملتقيات السابقة للقصة القصيرة التي اختفت على غرار المهرجان السنوي للقصة
القصيرة الذي عُرفت به مدينة سعيدة، والذي كانت تشرف عليه وزارة الثقافة، وكذلك
الملتقى الوطني للسرد بأدرار الذي كانت طبعته الأولى سنة 2011، خُصّصت للقصة القصيرة ، ودُعي إليه روّاد القصة
القصيرة بالجزائر، من تنظيم دار الثقافة بأدرار، وحرص على تأسيسه، ودعوة رواد
القصة القصيرة، المبدع القاص ينينة عبد الكريم، ثم توقّف الملتقى بعد طبعته
الثالثة؛ بينما الملتقيات الوطنية للرواية تتعدّد كل سنة إنْ في الجامعات، أو في
غيرها.
وقد حضر
الملتقى كوكبة من ساردي وساردات القصة القصيرة : بشير خلف من الوادي كانب وقاصّ،
جيدل بن الدين من البيض كاتب قاص، سعدي الصبّاح من الجلفة كاتب وقاص، أحمد ختاوي
إعلامي وقاص، وروائي من البليدة، عبد القادر ضيف الله من النعامة قاص، وروائي،
وناقد، عبد الوهاب بن منصور من تلمسان كاتب، وقاص، وروائي،، جيلاني عمراني قاص،
وروائي من البويرة، ينينة عبد الكريم من أدرار إعلامي، وقاص، علّام حسين روائي، من
تلمسان، ليلى حوماني من تلمسان قاصّة، عبد القادر زيتوني من تلمسان كاتب، وقاص،
جميلة طلباوي من بشار إعلامية وقاصة، وروائية، حفيظة طعام من تسمسيلت قاصة وناقدة،
نسيمة عبد الله من الجزائر العاصمة قاصة، مبخوتي نور الدين شاعر، وقاص.
بعد السلام
الوطني، وكلمة الافتتاح للسيد مدير الثقافة سليمان ويدن، ألقى الدكتور علاّم حسين
ديباجة الملتقى التي ركّز فيها على إشكالية الملتقى المتمثلة في خفوت فن القصة
القصيرة عبر الكتابات، والمنابر الثقافية، والملتقيات، وتلمسان بهذا الملتقى تعيد
لهذا الفن قيمته ووهجه من خلال استضافة روّاد هذا الفن بالجزائر، وأسماء أخرى
واعدة، ليليه الأستاذ زيتوني عبد القادر كاتب، وقاص، ومترجم ليرحّب بالحضور،
ويشكرهم على الحضور، وتحمّل متاعب التنقّل حبًّا للفكر والإبداع، باعتباره محضرا،
ومنظما للملتقى رفقة الشاعر القاص مخبوتي نور الدين.
خُصّصت الفترة
الصباحية التي نشّطها الكاتب، والروائي والإعلامي الكبير أحمد ختاوي الذي يقول عن الفن
السردي ما يلي: ( أنْ تبوح في فضاء القصة أو الرواية، فالبوح واحد
بشيء من التفاوت، القصة، تستدعي التكثيف والاقتصاد اللغوي، أقصد التكثيف اللغوي، ففي فضائهما يتناسل المولود أو الجنين، المخاض واحد ، قد يكون المولود بعملية قيصرية، في القصة، كما يمكن أن يكون في الرواية،
لكن بصورة أخف في القصة، إذا كانت فترة الحمل المخيالية سليمة، وقد يولد الجنين مشوها معاقا في الرواية إذا لم نحسن رعايته،
بينما في القصة فترة الحمل أقصر، وساعات
المخاض أهون .. البطل واحد، يتحرك في بطن المخيال قد يولد مشوها، وقد يكون العكس في الفضائين.)
حيث صعد
المنصة بشير خلف، سعدي الصبّاح، أحمد ختاوي، عبد القادر ضيف الله، عبد الوهّاب بن
منصور للتحدث تباعًا عن بداياتهم مع السرد القصصي، ومواصلتهم لهذا الفن الإبداعي،
وأهم المحطات ، والعوامل التي دفعتهم، وتأثروا بها.
بشير خلف
كان من أوائل المتحدثين عن بداياته، وتجربته في كتابة القصة القصيرة، والمراحل
التي قطعها، والمؤثرات الاجتماعية والنفسية التي تأثّر بها. الكاتب القاص ابن
الشهيد جيدل بن الدين تكلّم عن طفولته القاسية، ومأسأة فقدان عزيزيّن عليه في
الثورة هما الوالد، والعم، فعوّض ذلك من النهل المعرفي بقراءته منذ الصغر نصوص
الكتب المدرسية، ثم غيرها من مصادر المعرفة المختلفة، ليبدأ تجريب فــن الكتابة
القصصية فيما بعد، فكتب عن حيوات المهمّشين
لتستقرّ هذه الكتابات الأولى في المجموعة الأولى " جثثٌ مدفونة في
قلبي"
جيدل ابن
الدين الكاتب القاص يرى من شروط النجاح في كتابة القصة القصيرة: امتلاك اللغة،
القراءات المتنوعة لِــما هو وطني، وعالمي، مشاهدة الأفلام، المسرح.. وحسب قوله:
له العديد من الأعمال، ويرغب في نشرها في الجامعة، ومراكز الدراسات، وغيرها، ورغم
أعماله العديدة الجاهزة، فإنه مُقلٌّ في الطبع والنشر. تحدث جيدل عن مجموعته
القصصية الأولى 1987 التي تدرس بالجامعات، آملا أن تصدر مجموعته الثانية "
انكسارا داخلية "، وتستغل بحثا كونه كتبها عن مرحلة سوداوية عاشها بالبيض،
لمّا عانى من العزلة خلال فترتي الثورة التحريرية، والعشرية السوداء، حيث قال
حينذاك لأصدقائه: ( لن أهاجر، لأني أفضّل رصاصة في وطني على الموت غريبا).
أمّا سعدي
الصبّاح القاص والكاتب، بدأ مسيرته الإبداعية بالشعر الشعبي، وأوّل قصيدة في هذا
النوع من الشعر أذاعها له رحّاب الطاهر في برنامجه الإذاعي بالقناة الأولى. ثم أول
محاولة قصصية بالفصيح له كانت بعنوان " حالة " التي نشرتها له جريدة
الجمهورية بوهران، ومن المبدعين الذين أثّروا فيه رشيد بوجدرة، والأمين الزاوي، مسيرة
طويلة في الإبداع القصصي تُوّجت بالحصول على عدّة جوائز وطنية، وممّا ساعده على
النجاح في تلكم المسيرة كثرة الحضور، والمشاركة في الندوات، والملتقيات، واللقاءات
الكثيرة الثريّة مع المبدعين، والكُتّاب في كل ربوع الوطن . وأوضح الصبّاح أنّ
الإعلام لعب دورا رياديا في تألقه، ونجاحاته التي ثمّنها له في وهران كل من
الروائيْين رشيد بوجدرة وأمين الزاوي خلال تعرّفه عليهما بداية مشواره الإبداعي
الذي كُـلِّـل بجوائز عديدة كالقلم الذهبي في مسابقات قصصية، وشعرية منها "
عرس الشيطان" و " وسرْد الريف المغربي" .
ضيف الله
عبد القادر الكاتب، والقاص الروائي الذي بدأ شاعرا فقاصّا ثم روائيا، فناقدا أخيرا..
طرح مجموعة من التساؤلات عن التجربة الإبداعية، تشكّلات كتابة القصة القصيرة: قبل
الكتابة، اللحظة، القلق الوجودي حول بداية الكتابة، شكل الكتابة . كانت البداية
عند ضيف الله " الشعْـر " لأنه ديوان العرب " ومتنفس عبد القادر
الإبداعي الجمالي . الشعر المُتشكّل في الذات العربية قد انتهى في رأي عبد القادر،
لأنه مرتبط بالبداوة لتحلّ محلّه الرواية والقصة المرتبطتان بالمدينة، ونحن وغيرنا
نحيا في هذا الفضاء المديني . البداية كانت لمّا كتب في المدرسة بتشجيع من المعلم،
وفي الثانوية كتب في مجلتها.
في راي عبد
القادر الكتابة تنطلق من النزوة، وتستند إلى اللغة، الأسلوب، الرغبة. مرحلة انطلاقه
كانت سنة 1996 بالقصة الأولى" المقصلة" ، وأوّل مجموعة كانت في سنة 2007
، ثم تلتها المجموعتان الثانية والثالثة لتأتي الرواية الأولى " تنزروفت
".
الكاتب
القاص والروائي عبد الوهّاب بن منصور تحدّث عن تجربته ومشواره الإبداعي ، وما قدّمه
حتى الآن للساحة الثقافية الجزائرية والعربية: عدّة أفلام توثيقية، مسرحيات عُرضت،
ولا تزال، وثلاث روايات: قضاة الشرف 2001، فصوص التيه 2006 ، الحيّ السفلي 2016.
عبد الوهاب
بن منصور كاتب متميز سواء في نصوصه السردية، أم في كتاباته الأخرى خاصة التي كان
ينشرها في يومية " الجزائر نيوز" لصاحبها احميدة العياشي، عبد الوهاب من
الكتاب الذي يعلنون بشكل صريح خيار الالتزام بقضايا الإنسان، والمجتمع ويذهب بعيدًا
في خياره، معتبرًا الكتابة شكلاً من أشكال تدوين التّاريخ . وهذه الكتابة في رأيه ضرورة
فرضتها ، وتفرضها الصّورة التاريخية " غير المكتملة " في مجتمعاتنا الموسومة
بالتّكتم والأسرار، والتعثر المستمر في التّصالح مع الذات والماضي .
ولئن عبد الوهاب تحدّث باقتضاب عن مسيرته
الإبداعية فإن كتاباته تشكّل علامة فارقة متميزة عن غيره، وأصدق مثال على ما نقول
روايته الأخيرة " الحي السفلي 2016 " التي يرى فيها النقاد أن المرحلة التي
اختارها لهذه الرواية، مرحلة إشكالية في تاريخ الجزائر والعالم العربي، بسبب حداثة
مشاعر الاستقلال، وشعارات الوحدة والتحرّر، واختلاطها بمشاعر مرارة " إجهاضها
" السرّيع عبر سلسلة الخيبات المتلاحقة؛ إلا أن إعادة كتابتها مسألة ضرورية لفهم
اللحظة الرّاهنة، ومدى ارتباطها بـ " الأبوية الثورية " التي تستمر في رفْــع
جدار الخيبة أمام المستقبل.
وأضيف أنا
إلى قول ابن منصور نحن على مقربة من " الأبوية الحفيدية " التي دعا
إليها أخيرا وزير المجاهدين من خلال دعوته إلى إنشاء جمعية وطنية لأحفاد
المجاهدين.
اختُتمت جلسة الملتقى الصباحية بقراءة نصوص
قصصية لبعض ضيوف الملتقى: بشير خلف، ضيف الله عبد القادر.
أمّا جلسة
المساء نشّطتها الإعلامية المعروفة في إذاعة بشار، والقاصة الروائية المتميزة
بلغتها الانسيابية الجميلة، وأسلوبها الجذّاب جميلة طلباوي، خُصّصت للقراءات
القصصية : جيلاني عمراني من البويرة، ينينة عبد الكريم من أدرار، علام حسين، ليلى
حوماني، عبد القادر زيتوني من تلمسان، جميلة طلباوي من بشار، نسيمة بن عبد الله من
الجزائر العاصمة.
قراءات
قصصية لنصوص جميلة فيها من الشعرية، والجمالية ما بعـث متعة التلقّي في الحضور.
حضور
نخبوي متميّز رافـق الملتقى من بدايته إلى نهايته، وفي مقدمة هذا الحضور الأستاذ
سليمان ويدن مدير الثقافة الذي ثمّن الملتقى، وشكر الضيوف، وأثــنى على الذين
نظموا، وسهروا على إنجاحه، وفي مقدمتهم الشاعر القاص مخبوتي نور الدين، والقاص
المترجم زيتوني عبد القادر، كما تعهّد السيد مدير الثقافة على السعي لدى وزارة
الثقافة كي يُرسّم الملتقى وتكون الطبعة الثانية السنة القادمة في نفس التاريخ .