" رمضان كريم وجاب
خيرو معاه "
بقلم :بشير خلف
اللهفة لدى الجزائري يبدو أنها ترسّخت
لتصبح سلوكًا دائما معه. بعض علماء الاجتماع يُرجعون أسبابها إلى مرحلة السبعينات،
والثمانينات لمّا كانت الدولة وحدها تحتكر الاستيراد والتوزيع على التجار، والبيع
في الفضاءات الكبرى كالأروقة، واسواق الفلاّح، وكان يصعب على المواطن الحصول على
المواد الضرورية، فقد يقضي ليلته أمام إحداها كي يكون صباحا في الصفّ الأول من أجل
الحصول على بعض تلك المواد التي تُحتّم معها موادّ كاسدة ؛ لئن تغيّر الأمر كثيرا في السنوات الأخيرة، وتوفرت المواد الضرورية
والكمالية كمّا ونوعًا، وصارت أكثر قربا من المواطن، وفي أية لحظة يحصل على ما
يريد.. لكن ظاهرة اللهفة بقيت وقد تتضاعف في بعض المناسبات كشهر رمضان الكريم.
أتذكّر في الثمانينات كان لي صديق رحمه
الله في كل شهر رمضان من كل سنة يُــصرّ على أن أرافقه في سيارته في جولة بعد صلاة
العصر حتى قُـــرب آذان المغرب إلى القرى المجاورة حرصًا على اقتناء الخبز وغيره،
فيتوقف في مخبزة هذه القرية ويبتاع منها أربع خبزات لأن خبزها محفوف بالكمّون
الأسود، ثم ينتقل إلى القرية التي تليها، ويبتاع منها نفس العدد لأن خبزها مدهون
بزيت الزيتون، وهكذا إلى أن ندخل مدينة الوادي، نحطّ الرّحال في سوقها العتيق حيث
يُباع الفول والحمص المطبوخان، والمخلوطان بالفلفل الحار، والطماطم الطازجة ، فيبتاع
صديقي من هذا وذاك، ثم نعرّج صوب بيّاعي دوبارة الفول، ودوبارة الحمص فيقتني منهما
لنختم جولتنا في هذه السوق بابتياع صديقي لقارورتيْن من " اللاقمي "
عصير النخيل، ثم الزلابية وقلب اللوز.
في هذه الجولة التي لم أجار فيها صديقي
في لهفه ، ولم أشتر أيّ شيء ؛ لا يهدأ له بالٌ حتى يُـــورّطني أثناء عودتنا إلى
مقرّ إقامتنا بالوقوف أمام منزلي، وُيقسم أن نتقاسم ما اشتراه، فأدخل بيتي محمّلاً
بعشر خبزات، أو ما ينيف، فضلا عن مرقة الفول، والحمص، والدوبارة، واللاقمي،
والزلابية لأدخل في خصام يومي مع الزوجة طوال شهر رمضان، وأنا أبرّئ نفسي من هذا
التبذير.. لكن هيهات.
صديقي رحل عن دنيانا رحمه الله، ومنْ في
عمره أغلبهم كفّوا عن هذه السلوكات الرمضانية المشينة، إنما هذه الأجيال الجديدة
التي لم تعش قحط الأسواق في تلكم السنوات ما لها وقد ترسّخ لديها سلوك اللهفة؛ بل
تضاعف ..؟
شيء غريب وقد عايشت في الأيام الأخيرة
لحلول الشهر الفضيل كيف تهافت الناس رجالا ونساء على نقاط البيع، والأسواق من أجل
شراء كل شيء، وكأننا في حرب؛ بل الأغرب هذه السنة وهي ظاهرة اشتركت فيها أغلب
ولايات الوطن أن يقع اللهف على اقتناء أدوات الطبخ والأكل إلى حدّ أن وقعت حروب
داحس والغبراء في أكثر من نقطة بيْع.
وأنا ألاحظ يوميا أين أقيم عشرات
الصائمين بعد صلاة العصر حتى موعد آذان المغرب متوجهين إلى السوق المسائي، ثم
يعودون وكل منهم يحتضن ما طالته يداه: خبز، زلابية، شربات معبأة في أكياس نيلونية،
دوبارة، كيس من الفول، أو الحمص، أيّ شيء يؤكل، حتى وإن كان ــــ خبزًا يابسًا
ــــ، وقد يحمل أحدهم هذه كلها، وعندما تتحدث معه، بأن هذا تبذير ويتناقض مع فضائل
الشهر الكريم، وهو مُضرٌّ بميزانية العائلة والعيد له مصاريفه يجيبك بكبرياء،
وأنفة: " رمضان كريم وجاب خيرو معاه ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للتعليق: اضغط على الرابط " ليست
هناك تعليقات، هناك تعليق..." ثم اكتب تعليقك داخل المستطيل وانشره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق