الخميس، 28 فبراير 2013

نبذة تاريخية عن وادي سوف


نبذة تاريخية عن وادي سوف
المرحوم الدكتور إبراهيم ميّاسي
التقديم:
       سوف إقليم متميز بخصائصه الجغرافية والبشرية ، ضمن الأقاليم الصحراوية،وقبل الغـوص في عرض تاريخ إقليم سوف، يجدر بنا أن نـُعَـرِّف بهذا الإقليم ونحدد مصطلح  "وادي سـوف " أي التعرف على "الإيتيمـولوجي" (Etymologie) لهذه الكلمة.  فمن خلال الأساطير القديمة و التي تقول : إن العهد الأول للمسيحية بالمنطقة قد واكب جريان نـهـر غزير ، يجتاز الإقليم من الشمال إلى الجنوب ، يطلق عليه "واد ـ إزوف" التي تعني خـرير المياه أو هديره وبعد الفتح الإسلامي للمنطقة ، وانحسار المسيحية ، غارت مياه النهر إلى باطن الأرض(1) أو بعبارة أخـرى غـاص النهر بكامله بحيث يمكن مشاهدته اليوم عن طريق الوسائل العلمية العصرية المتمثلة في صور الأقمار الإسطناعية للأرض بالأشعة ـ وبـمرور الزمـن تغيـر الاسـم من"واد ـ إزوف" إلى وادي ســوف.
      وهناك من يقول أيضًا: إن كلمة سـوف مشتقة من الاسم الأمازيغي"أسـوف" وبالقبائلية العصرية "أسـيـف" وتعني الأرض المنخفضة على ضـفـاف الـوادي ، لهذا أدغمت كلمة الوادي مع سوف وأصبحت وادي سـوف كذلك إن علم اللسانيات يشير بأن كلمة الوادي بالعربية ترادفها بالأمازيغية كلمة سـوف (2).
      بينما يرجع البعض الآخر التسمية إلى أصلها العربي ، حيث أن طـرود ، وهي قبائل أصلها عربي قـُحّ ، حينما أتت إلى هذه النواحي قالت :" نـسكن تلك السـيـوف"  وهي الأحقاف أي الكثبان الرملية التي حـُرفُها حاد ، وفي القاموس العربي السـُوفة وجمعها سُــوْف تعني الأرض بين  الرمل و الجـلـد، و السـائفة هي الرمل الدقيقة الناعمة، ومن هنا اشتق اسم سوف ،لأنها أرض رملية.
      كما جاء في كتاب تغريبة بـنـي هلال :" قيل أن أهل سوف حين دخلت العرب إفريقية دخلوها…وسـوف التي ذكرها هي المكان المعروف الآن بسوف البصرة قـرب مدينة حـلب الشـام، فلعلهم أتــوا إلى هذه الأرض فسميت بهم".(3)
      وهناك قـول آخـر يشير إلى أن هناك فـرقة الملثمين البرابرة سميت  بـ"مـسـوفـة" وهم قبائل صنهاجة الجنوب أو الطوارق ، فعند ابن خـلدون ما يفيد أنهم مـروا بهذه الأرض ، فلعلهم سكنوها زمنًا أو  فعـلوا فيها شيئًا فسميت بهم .(4)
      وتذكر كذلك بعض المصادر التاريخية بـأن سـوف كان لها الفضل في توحيد زناتة شمالا والطوارق جنوبا ، حيث أن "تيـكسـي" الملكة العرجاء ، أُمّ قبائل الجـيـتـو،لمّا مات زوجها،أعادت الزواج مع أحـد رجال  زناتة فأنجبت  السـوافـة ولعلها قبائل "ماسـوفا" التي عاشت في هذه المناطق ، فـأطـلـق اسـم سـوف على الإقليم.
      ومهما يكن من أمـر فإن  أغـلب السكان تـقـرّ بـعـراقـة المنطقة وبالأصل العربي القح لها؛ وبقي أن نشير إلى أن وادي سـوف تعني مدينة الوادي عاصمة الإقليم كما تعني أيضًا إقليم سوف بكامله.
      ** الخصائص الجغرافية للمنطقة:**
      تقع سـوف في الجنوب الشرقي من القطر الجزائري ، ما بين خطي عرض 31° و 34° شمالا، ومابين خطي طول 6° و8° شرق خط غـرينيتش تقريبًا، ويحـدها من الشمال جبال الأوراس النمامشة الممتدة على خـط نقـرين ـ الزاب الشرقي، ومن الشرق الحدود الجزائريـة ـ التونسية ، ومن الجنوب الصحراء الليبية ـ الجزائرية ، ومن الغرب واحـات وادي ريـغ، فهي إذن تـقـع في منطقة منعزلة على شكل مثلث بين الأقطار الثلاث :الجزائر ـ تونس ـ ليبيا.
      و سـوف عبـارة عن مسطح تغطيه كثبان رملية يتواجد على التخوم الشمالية للعرق الشرقي الكبير و محـاط بثلاثـة شـطـوط أو سبخات ،هي شط وادي ريغ من الغرب وشط مـروانـة وشـط مـلغيغ وشط الغرسة من الشمال وشط الجـريد من الشـرق.
      وبذلك فإن منطقة سـوف تتشكل في نصف دائرة ، وتتجمع حول عاصمة الإقليم مدينة الوادي على مساحـة إجمالية تـقـدر بـ82000 كيلومتر مربع - حسب دراسة الاستاذ "فوازان"(Voisin) - (5) وبأبعاد تـمتـد من الحـدّ التونسي شرقا إلى واحات وادي ريـغ غربا على مسـافـة  تقـدر بـ 160 كيلومتر ، ومن إستطيل ـ الحمراية شمالا  إلى غـدامـس جـنـوبا على مسـافة 600 كيلو متر تقريبا. أمـّا ارتفاع سـطح الأرض بـســوف فهي حـوالي 80 مترا فوق سـطح البحر ، بينما تنخفض في وسـط شـط ملغيغ إلى ما يقرب 24 مترا تحت مستوى سـطح البحر ــ وهو أكبر انخفاض في الجزائر ــ وبذلك فإن المنطقة تتميز بطابع المناخ القاري  الذي ترتفع فيه درجة الحـرارة في النهار صيفًا إلى أكثر من خمسين درجة مئوية وتنخفض ليلاً في فصل الشتاء إلى ما تحت درجـة الصفر ؛ ومن الرياح التي تـهـب عليها ما يعرف بالزوابع الرملية (العـجـاج) ،وهي رياح عاتية مـثيـرة للرمال عصفت ومازالت تعصف منذ آلاف السنين ، نتج عنها ترسب وتراكم هائلات للرمال على شكل كثبان كأنها أمـواج تتـلاطم في بحر هائج  موجة تقلب موجة إلى آخر الأفق  كما تـهـب عليها أيضًا  ريـح حارة تسمى "الشهيلي" وهي من الرياح المحلية التي تهب في فصل الحــرِّ ،فهي جافة ومحرقة تضايق السكان ، عكس ريـح البحري التي تهب من الشرق فهي نسيم  الصبا يتلذذ بها الناس في الصيف        ويطيب النوم فيها بالأسحار في الهـواء الطلق المنعش ليلاً ،تحت سماء صافية هادئة بنجومها البراقة وقمرها الفائض بضيائه في كل الأرجاء أحيانا ،وعلى العموم فإن الـجــوّ بوادي سوف من أحـسـن الأجـواء ،فـهـواؤه نـقـيٌّ و طيّبٌ وخفيف  يساعد على الراحة والهضم.
      أمـا الأمطار فهي نادرة بسوف لبعدها عن المسطحات المائية ورغم  ذلك فإن نزولها يكثر خلال فصل الأمطار و يتجاوز في بعض الأحيان 100ميليمتر سنويًا. 
      هذه الظروف المناخية  سمحت لأنـواع عـديدة من النباتات والأعشاب       والحشائش بالنمـو الكثيف  بالمنطقة ، فمن الحشائش العلفية التي سـاعدت الرحل من البـدو على ممارسة الرعي و تربية المواشي  أصناف  كثيرة منها: البشنة ، و العرجف والخبيز، وبوقريبة، والنمص ، و اللّـبـيـن ، والغبيشاء ، والحميض ، و النجم ، و الشيـح وغير ذلك . كما تنتشر بأرض سوف أنواع  عديدة من النباتات للــرعي و التـداوي منها : شجيرة عنب الذئب، و الحرمل، والفجل، والترثوث ؛ أما شجر الحطب فهي : الرتم ،و الأرطي ، و الزيتاء ، و العـلنـدي ، والأزال وغير ذلك .
      أما النباتات المسقية من خضـر وفواكه فهي أنـواع عـديدة تشتهر بها سـوف منها : الكابو والفقوس ، والدلاع الأبيض،وأنواع الفلافل،والحلبة ،والحناء ،والتبغ.
      وأهم شجرة على الإطلاق  في سوف هي النخلة ،لأنها شجرة مباركة ، كانت مصـدر رزق لأغلبية السكان ؛ وأنواع النخيل بالمنطقة كثيرة و متباينة من حيث الطول والقصر، والغلظة والرقّة، والملوسة و التجعيد ، واتساع الأعلى و الأسفل أو ضيقهما ، والرائحة الطيبة والمتوسطة والكريهة ، والطعم الحلو  و الحرّيف والمتوسط ، و اللـيـن و اليـبـس ، والتعجيل في النضج والتأخير فيه، وغير ذلك من الأمور .
      و من أهم أسماء النخيل بـسـوف ما يلي : دقلة نور، الغرس ، تمرجرت ، قندي ، فاخت،  رشتي ، تاشلويت ، تانسليت ، كسباية ، تاوراخت ، تمرزيط ، تنسين ، تافزوين ، تفرزايت ، تكرمست ، فزاني، فطيمي ،كبول فطيمي ،مسوحية، دقلة بيضاء،دقلة حج،دقلة عش،الهتيلة،كنتبشي،أصباع عروس،بزول خادم،علي أوراشت،أم الفطوشة، الذكار (6)…الخ .
      إن النخلة وثمارها التمر قد ارتبطتا بتاريخ العرب و المسلمين ، ولقيتا كل الاحترام والتقدير منهم لأن النخلة شجرة مباركة و التمر من ثمار الجنّة و شفاء من السّمّ، وقد ذكر القرآن العظيم النخل والنخيل عشرين مرة منها: { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَّخِيلٍ     وَ أَعْنَابٍ }(يس/ 34) { يَنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيتْوُنَ وَالنَّخِيلَ}(النحل/11){وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى ِبماءٍ وَاحِدٍ}(الرعد/4){وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلةِ تُسَاقِط عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِي عَيْنًا}(مريم/25/26) ،ولم يأت ذكر القرآن الكريم للنخل هباء ولكن لما لهذا النوع من التمر من فوائد عديدة ، غذاء ودواء؛كذلك كان للتمر نصيب في السنّة المباركة، ففي الحديث الشريف،يقول الرسول الكريم عليه أبهى الصلاة وأزكى السلام :"من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم و لا سحر." رواه مسلم ، وعن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله (ص) قال:" إن في عجوة العالية شفاء أو أنها ترياق أول البكرة".  و عــن هشام بن  عروة  عن أبيه عن عائشة أن النبي (ص)  قال :" لا يجوع أهل بيت عندهم التمر".(7)
      ولهذا نلاحظ أن أهل سوف يتشبثون بالنخلة وغراسها والاعتناء بها برفع الرمل لفكّها وعَزْقِ الأرض وتسميدها بـ"الجلة" وهي أبعار الإبل لتعطي أجود التمور،    ويتفاخرون بامتلاكها، كما يحبون التمور ويخزنونها في "الخابية" كعولة أساسية في معاشهم.
      أما الحياة الحيوانية ، فقد عاشت في وادي سوف حيوانات وحشرات عديدة منها الوحشية التي انقرضت  ومنها الأليفة التي مازلت تربى وتعيش إلى اليوم ، ففضلا عن الغزال والفنك والإبل والدواجن والطيور فإن سوف تتميز بنوع خاص من الحشرات وهو: " الشرشمان " الذي يلقب بسمك الرمل لأن هيكله العظمي يشبه الذي في السمك ، والشرشمان من الزواحف ، لكنه يسبح ويغوص في الرمل كما يفعل السمك في الماء ،فالرمل للشرشمان كالبحر للسمك ، وهناك من يتناول لحمه للتداوي ، و توجد أنواع أخرى  كـالورل  والوزغة ،واليربوع ، والدخاس …الخ .
      يحتوي إقليم سـوف على مجموعة كبيرة من القـرى والمداشـر على شكل واحات منتظمة حسب جريان النهر الباطني في صورة قاطع و مقطوع مائل (X) ، وتتـميـز هذه المجموعة بتماسكها وانسجامها ، وخصوصيتها و استقلالها، ولاشـك أن أهـل سوف ينحدرون من أصل واحـد لأنّ جـذورهم واحدة جعلتهم مترابطين و متآخين عبر الزمن ، رغم اختلاف المضارب المنتشرة هنا وهناك والمتمحورة حول قاعدتها مدينة الـوادي ، ففي الشمال الغـربي نجـد بلدة تيكسبت، وكوينين ، ووُرماس ، و تاغزوت ، وقمار، وغمـرة، والرقيبة ،وهبة ،و الحمراية ، أما في الشمال الشرقي فتتواجد مجموعة أخرى من القرى المتناثرة على امتداد خط الوادي ـ نفطة منها : الطريفاوي ، والخبنة ،ولزيرق ،والزقم ،والبهيمة والدبيلة والمقرن ،وسيدي عون، وسويهلة ، والجديدة ، والدريمني ، والصحين ، وحاسي خليفة ثم بلدة الطالب العربي الحدودية؛  أما الجنوب الشرقي فيشتمل على البياضة ، والنخلة ، والرباح ، والعقلة ، بينما الجنوب الغربي فيحتوي على مجموعة من القرى أهمّها وادي العلندة ، وادي الترك ، ميه ونسه سحبان وغيرها.
     ** الإطار التاريخي للمنطقة :**
      قبل معالجة صميم الموضوع لابد لنا أن نعرج على وادي سوف في الذاكرة القديمة ، ويمكن تقسيمها إلى قسمين أساسين هما:
 ـ سوف قبل الإسلام .           ـ العصر الإسلامي في المنطقة .
        **أ- سوف قبل الإسلام :**
      إن التجمعات البشرية قد انتقلت إلى وادي سوف عبر القرون الغابرة بسبب توافر الكلاء والماء والصيـد ، لهذا تواجد الإنسان القديم منذ زمن سحيق وانجذب إليها كباقي مناطق الصحراء ، وتدل الشواهد التاريخية المتوفرة لدينا على وجود الحياة الغابرة بالمنطقة ، ذلك أن الحيوانات المحلية والنباتات الصحراوية كانت غزيرة ، حيث حفظت لنا الأرض البقايا الأثرية واللقى العظيمة ، وأظهرت بعض الاكتشافات معلومات هامة ، منها أنه في سنة 1957 م عثر على هيكل عظمي لفيل عظيم  منقرض من نوع " الماموث " في حالة جـيّدة كان مدفونا شرق بلدة حاسي خليفة ، وهو الآن محفوظ في متحف  بـاردو  بالجزائر العاصمة ، كما عثر أيضًا على عـدة صـدف رخـوية ، ومحار بيض النعام بالعرق الشرقي الكبير، وقد عثر على بيضة كاملة للنعام على عمق ستّة أمتار في واحة هُـبّـة وهي معروضة بـمتحف الـوادي .كما أن المحطات الأثـرية لفترة ما قبل التاريخمنتشرة بكثرة في سـوف ،وتحتوي على الصـوان المنحوت  من أدوات كثيرة ، بحيث يمكننا أن نلتقط في أي  مكان السهام  المنحوتة ، وبأحجام مختلفة    و لعـهـود عـديـدة  و التي تـشـهـد على  التاريخ الحجـري بـسـوف ؛ ذلك أن العصر الحجري المصقول " النيو ليتيك " (Néolithique) و القـفـصـي الأعلى ممثل في سـوف(8) فالشفرات بوجهين ، والمكاشط و المجرفات و الخـرز و الفؤوس و السـهـام المسنّنة تتـواجـد في عـدّ ة أماكن ، فقد  اكتشفت مـراكز  عديدة في الأراضـي البكر التي لم تستغل في الميدان الزراعي والعمراني ، وتحتوي على بقايا و شظايا أثـرية تكتسي أهمية كبرى ؛ ويمكن تقسيم هذه البقايا إلى قسمين أساسيين هما :
 أ) ـ العصر الحجري المصقول ومعالمه واضحة في الجنوب و العـرق .
 ب) ـ العصر القـفـصـي و يغطي القسم الشمالي .
      ذلك أن العصر الحجري الأخير و لفترة تمتـد على أكثر من سـتـّـمائة ألف سنة ،قد جعل من منطقة وادي سـوف حــاضرة لـعـهـد ما قبل التاريخ بحيث تدلّ الشـواهد الأثرية على ازدهارها و تطـورها.(9)
      أمّا التاريخ القديم للمنطقة ،فمن خلال تحليلات كتابات هيرودوت و هـانون نـَتَـبـيَّـنُ على أن هذه الجـهات الصحـراوية قد سـكـنـها الليبيـون و الإثيوبيون ثمّ الجـيـتـوليون(10) وكانوا يـرعـون  بـمـواشيهم بـحثـًا عن الكلاء والمـاء، ويـضـيـف إليهم بعض المـؤرخـيـن قبائل  "زيــفـون " (ZIPHONES) و إفـوراس  و مـاسـُـوفَـا، كذلك  تـواجـد شعب "الغرامانت"(GARAMANTE) الذي عـاش شمال شرق الصحـراء حتى الحـدود الـطـرابلـسـية، وأسـس ممـلكة غــرامـا. ويمتاز شـعـب الغرامانت  بالشـجـاعـة و الإقــدام والقـدرة القـتـاليـة الفائقة، فهو من الشـعـوب المـحـاربة، حيث خـاض عــدّة حـروب طاحنة من أجل بـسـط سـيـطرته على المنطقة التي مارس فيها الرّعي و الصيـد وبعض  الفـلاحة ، تـمـاشيـا مع طبيعته البدوية ، والجدير بالذكر أن هذه الشعوب سـادت وبــادت بالمنطقة وربما لم يبق منها  إلاّ بعض  الآثـار المتمثلة في أسماء بعض القـرى منها: تـاغزوت وتيكسيبت و زقم ؛ أو بعض أسماء التمور، مثل  تاكرمست ، تفازوين، تانـسـليت ، تافرزايت …الخ .
      كما برز في القرون العتيقة الشعب الفينيقي العظيم ، المنحدر من الكـنـعانيين، والذي شـيـّد حضـارة زاهية يـشـهـد لها التاريخ ، ذلك أن أراضيهم ممتدّة على السـاحل الـسـوري، لهذا احترفوا الـبـحـارة و التـجـارة، فــيـعيشون الأيام و الشهـور في الأسفار و ركـوب البحـار لبيع مصنوعاتهم في البلاد القـريبة والبعيـدة بالقارات الثلاث ( آسيا ـ أوروبا ـ إفريقيا ) ؛ ومنذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد بـدأ الفينيقيون يـفــدون على الحـوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط، ويتصـلون بأرض المغرب  فيـبـيـعون  إلى أهـلـه ما يحمـلونه من سـلع عـديدة ، ثمّ ما لبـثـوا  أن أسسـوا مدنا لهم  على السـواحل أهـمـهـا مـدينة قـرطاج .
      و تـشـيـر بعض  كتب  تاريخ المغرب القديم إلى قضيـة اتصال نـسـب الأمـازيغ بالكنعانيين بـأنهم أخـوة و أبـنـاء عـمـومة و أن أصـل الأمازيغ ينحدر من مازيغ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السـلام ، لذلك فـإن الروابط     والعلاقات  سرعان ما توطدت بين الوافدين  و أهل البلاد ، فـشـيـدوا  مـعـًا  فيما بعد حـضـارة راقية هي الحضـارة القـرطاجية.
      والذي تـرجـحـه الأخـبـار  عن جـمـهـور المؤرخين أن الكنعانيين قد بلـغـوا أرض  سـوف، وكانت مساكنهم  في  وادي الجـردانية ، المـدينة التي شـيـّـدها برابرة زناتة حين قـدمـوا إلى سـوف ، وموقعها شـمال الـــوادي على طريق نقرين، وعلى مسافة خمسين كيلومتر(11)  ، وكانت لهم عـلاقات تجـارية مع بـلاد الـسـودان عن  طـريـق الـبـَـرّ.
      ورغم أن القـرطاجيين لم يتوغلوا  بالداخل و لم يتجاوزوا الخـط الرابط ما بين تبسة وطرابلس إلاّ أنهم ربـطـوا  عـلاقات تجـارية بـريـة مع الـسـودان عـبـر الـعرق الشـرقي الكبير بطريقة مباشرة، فكانت القوافل الليبية تحمل سـلعًا إفريقية كالعاج والذهب ، والزمرد، وريش النعام ، والعبيد ،وتـقـطع بها أرض سـوف لتبيعها في الشمال ، وكانت هذه التجـارة تحت مـراقبة قبائل الغرامانت لأنهم يـقتـطعون منها الضـرائب و المـكوس العالية ، كما كان للقرطاجيين ممثلون ووكلاء عن تجارتهم بغـدامس و سـوف.
      و بعد انتصـار الرومان على القرطاجيين ، والقـضـاء على  قـرطاج عام 146 قبل الميلاد بـدأت سياسة التوسـع الروماني تظهر بالمنطقة ، فاكتفوا في المرحلة الأولى بتأسيس إقليم ولاية إفريقية (PROVINCIA - AFRICA) التي تضم تراب الدولة القرطاجية التي تقدر مساحتها بحوالي خمسة وعشرين ألف كيلو متر مربع ، وتمتد من طبرقة غربا إلى خليج قابس جنوبا ، و فصلوا هذا الإقليم عن المملكة النوميدية بخندق يعرف "فوسا ـ ريجييا" (FOSSA - REGIA  ) وهو يأخذ شكل هلال مفتوح أكثر في نهايته ، مارا بالحدود الغربية للولاية (12).
      و بعد حروب ضارية خاضها الرومان ضد سكان المغرب عرفت في التاريخ بالحروب الإفريقية (BELLUM - AFRICUM ) قضت على الملك يوبا الأول وألغت المملكة النوميدية نهائيا ، و أعلنت عن قيام ولاية رومانية جديدة على أنقاضها سميت بإفريقيا الجديدة(AFRICA - NOVA ) أما المنطقة التي ورثها الرومان عن القرطاجيين فأصبحت تعرف بإفريقيا البروقنصلية نظرا للنظام المدني الخاص الذي وضعه المحتل لها عكس النظام العسكري السائد في باقي بلاد المغرب (13) .
      وبذلك هدأت الأمور وانتشر السلم والأمن المعروف تاريخيا بـ"السلام الروماني" (PAX - ROMANA ) والذي عم العالم القديم تحت قيادة الإمبراطور أوغست ، لكن إقـلـيـم سوف قد خرج عن هذا السلام لأنها تقع على الحدود الجنوبية للنفوذ الروماني الممتد من جيميلا (GEMELLAE) جنوب أورال (MATORES) إلى نقــــريــــن و تهودة أو تابودوس (THABUDEOS) ثم توزوروس (TUSOROS) أي مدينة توزر الجميلة بالجريد ،  وتوريس- طامالوني(TURRIS - TAMALLENI) وهي قبيلي. وبعد احتلال ماريوس(MARIUS) لقفصة ، حاول الرومان اكتشاف سوف والمناطق الجنوبية فقام الحاكم الروماني " كورنيلوس ـ بلبوس"
 (CORNELLIUS - BALBUS)بغزوة علىغدامس (CYDAMES) خلال سنة 21 قبل الميلاد ، ونصب بها حامية مكثت بعض الوقت ، ثم توغل حتى واحات غراما.وبعد ذلك جاء كل من سبتيموس ـ فلاكوس (SEPTIMUS - FLACCUS) وجيليوس ماترنوس(JULIUS-MATERNUS) على رأس عدة طوابير لشن الحملات العسكرية ضد الغرامات استغرقت ما بين ثلاثة أو أربعة شهور احتل على إثرها غراما وضواحيها ، وقد خلدت هذه الحملات على منقوشات عثر عليها بغدامس تؤرخ ، تواجد هذه الحاميات بصفة دائمة لهذه الواحات خلال عهد الإسكندر الصارم.(14) لذلك فإن الرومان قد جابوا أرجاء الجنوب الشرقي للجزائر في كل الاتجاهات واكتشفوا سوف وحلوا بها و سكنوا بالجردانية والبليدة( وهما قريتان تقعان شمال شـرق مدينة الـوادي ،ولم يبق منهما إلاّ بعض الأطلال  ) بعدما  قتلوا من فيها وأخرجوهم منها فتفرقوا  في إفريقيا.ولم يكتف الرومان بذلك بل تعمقوا في أرض سوف وبنوا قرى أخرى من مختلف أرض سوف ويوجد أثار ذلك في " سندورس" (SENDROUS) التي تقع بجنوب شرق الوادي على بعد حوالي عشر كيلومتر والمعروفة " زملات ـ سندورس" وكذلك في قمار و الرقيبة وغرد الوصيف الذي يقع جنوب غرب الوادي على بعد أربعين كلم.
      ومن الشواهد التي تبرهن على الآثار الرومانية بالمنطقة ، هي قطع النقود الرومانية         و النوميدية التي عثر عليها بسوف وهي معروضة اليوم بمتحف الوادي ، منها قطعة في حالة جيّدة تزن ثلاثين غراما ، ضرب عليها صورة قيصر أوغست وتخلد السنة الثامنة عشر من تنصيبه على العرش ، كما عثر على نقود أخرى للعهد الجمهوري "نيرون" (NERON) ومعها نقود نوميدية لعهد يوغرطة وكذلك عهد الملك يوبا الثاني . أما في عهد الوندال ، الذين جاءوا إلى إفريقية في بداية القرن الخامس الميلادي لطرد الرومان منها و إحلالهم محلهم لاغتصاب خيراتها الوفيرة ، فقد حاصروا قرطاج ثم قاموا بهجوم كاسح عليها قتلوا على إثره كل من وجدوه من الرومان  وهدموا الصوامع والكنائس و فرّ الرهبان  أتباع الأسقف القرطاجي  "دونا"(DONA).وبذلك سميّ أتباعه بالدوناتيين ـ والتجأ الكثير منهم إلى الجنوب فاحتموا في قفصة والجريد وذهب البعض منهم إلى سوف واستقروا في بلدة سحبان جنوب شرق الوادي وكذلك بلدة جلهمة قرب قمار(15).ولهذا فإن الرومان قد سجلوا حضورهم بوادي سوف رغم بعده عن مناطق تنافسهم.
     **ب- العصر الإسلامي في المنطقة :**
      توقفت الفتوحات الإسلامية عند برقة و الجزء الشرقي من ليبيا في عهد الخليفة عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه ) ، ولما تولى الخلافة عثمان بن عفان (رضي الله عنه) سمح للجيوش الإسلامية بالتوجه نحو المغرب ، فأرسل حملة لفتح إفريقية في حدود سنة 24 هـ الموافق لسنة 646م ، بقيادة أخيه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح  على  رأس جيش من عشرين ألف جندي ، ساروا إلى أن وصلوا سبيطلة التي هي دار ملك جرجير البطريق البيزنطي وملك الروم بإفريقيا وكان سلطانه من برقة إلى طنجة ، كانت بينه وبين عبد الله بن أبي سرح مراسلات من أجل السلم ، لكن جرجير أبى وتأهب للحرب والتحم الجيشان في قتال عنيف ، تغلب فيه جيش المسلمين بعد مصرع جرجير ، ودخل المسلمون المدينة و كان ذلك هو عام فتح إفريقية. (16). لما ولي عقبة بن نافع على إفريقية ، اختط مدينة القيروان كقاعدة ارتكاز ليواصل الفتح فاجتاح المغرب كله حتى وصل مياه المحيط الأطلسي ،وأدخل قدمي فرسه في ماء المحيط وقال قولته المشهورة:" والله لو كنت أعرف أن وراء هذا البحر يابسة لأقتحمتها لأرفع فيها كلمة الله …"، وفي العودة استشهد مع بعض أصحابه في موقع " تهودة " بالزيبان على يد قائد البرانس كسيلة .
      والجدير بالذكر هو أن وادي سوف قد فتحت في عهد عقبة ، وأنه قد عين حسانا على رأس جيش ليفتح به المنطقة الممتدة ما بين بسكرة و ورقلة، بما فيها إقليم سوف ، وكان ضمن سرايا المسلمين التي تلقن تعاليم الإسلام بالمنطقة البعض من بني عدوان استقروا  بأرض سوف.و بعد استشهاد عقبة واصل حسان بن النعمان الفتح بالأراضي الإفريقية ، واصطدم حينئذ بالكاهنة المدعمة بعسكر عظيم من البربر   ( الأمازيغ )  والروم ، فالتقى الجمعان و اقتتلا قتالا شديدا ، فرّ على إثره حسان مغلوبا و قُتِلَ من جيشه عدد كبير و أسرت الكاهنة عددا آخر ، ولحقت بالقائد حسان حتى خرج من قابس ونزل في برقة .
      ولما سبرت الكاهنة أحوال المسلمين ، أمرت قومها بتخريب البلاد حتى تقطع أطماع المسلمين ، فأرسلتهم إلى كل ناحية فخربوا ديارهم ، وعضدوا أشجارها ومحوا جمالها ، وجالوا بالفساد خلالها ، وكانت كلها قرى متصلة . وبلغت سياسة التخريب منطقة وادي سوف ، ومن ذلك الوقت بقيت كغيرها خرابا و هو ما يطلق في التاريخ بخراب إفريقية الثاني ، بعد الخراب الذي أحدثه البيزنطيون بالمنطقة حين اجتاحوا المنطقة قديما.
      عاود حسان الهجوم على الكاهنة بعد أن أطلقت سراح الأسرى إلا واحدًا اسمه خالد بن يزيد العبسي أُعْجِبَتْ به الكاهنة فعمدت إلى المؤاخاة بينه وبين ولديها الاثنين،  ثم أمرتهم أن يمضوا إلى حسان و ينخرطوا في صفوف الجيش الإسلامي ، وبعدها تقدم حسان حتى التقى بالكاهنة وهزمها في معركة ضارية ، ثم تبعها وقتلها ببئر الكاهنة ( أو بئر العاتر الآن ) وبعث برأسها إلى الخليفة الأموي عبد الملك بالمشرق (17).
      ثم تجدد عمران قسطيلة الجريد و الزاب وغيرهما و بقيت أغلب أماكن سوف على حالتها من الخراب و الاضمحلال حتى دخل بنو هلال و سليم إلى إفريقية ، فانحاز كثير من قبائل زناتة إلى تراب وادي سوف لبعده في ذلك الوقت عن القلاقل ، فعمروه ـ وزناتة هم بنو جانا بن بربر بن تمصيت بن ضريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر بن بربر بن كسلوجيم أو مزيغ بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام ـ وقد أتى إلى سوف قوم من البربر بأهاليهم واستوطنوا الموضع المسمى الآن ضواي روحه (لأنه كان يرى فيه ضوء من غير فعل فاعل ) ، كان وقت نزولهم تقريبا عام 522هـ/1129م.
      ومن المعروف أن أغلبية نزوح الزناتيين إلى الصحراء و وادي سوف كان في  عهد انحطاط دولة المرابطين ( الملثمين ) ، فيما بين 1120م ـ 1160م ، عندما انتشرت بها الإقطاعية و تفاقمت المظالم الاجتماعية بالمدن والقرى ، وكان أكثرهم ينتقل من محل إلى آخر مثل البدو الرحل ببيوت من الشعر أو أعشاش من الحطب و حلفاء ثم أقروا القرى .وكان في أولئك القوم امرأة صالحة أصيلة النسب ، سديدة الرأي تســمى تِكْ بِنْت سبت ، (18)لقد كان الوافدون على أرض وادي سوف  من قسطيلة (الجريد)  والزاب و وادي ريغ و ورقلة ، فاجتمع رأي جماعة من البربر على بناء قرية بالجردانية عند رأس الماء ، فاكثروا فيها الزرع والضرع والأشجار ، وشاع أمرها في تلك الجهات وتسابق إليها الناس من كل فج لحسن مائها وهوائها وكثرة خيراتها وأمنها.ومن ذلك أن آل عدوان وبني سليم بنواحي الكاف والقيروان ، فضاقت بهم المجالات لكثرة عددهم فانتقل بعضهم يجول في الأرض ، حتى وصلوا الجردانية فأعجبتهم فأرادوا سكناها مع من فيها من البربر فمانعوهم  ووقع بين الفريقين عدّة مناوشات ، ومشادات كان النصر فيها حليف عدوان في حدود مستهل القرن السابع الهجري الموافق لبدايـات القرن الثالث عـشـر الميلادي فأخرجوهم منها و  نـزلـوا مـنـازلهم(19).
      كما انتقلت قبيلة طـرود الى وادي سـوف بقيادة مـسـروق بعد أن  حـصـلت لها بعض المشاكل في نـواحي طـرابلس فـاستقـرت أول الأمـر بقابس و صفاقس وقـفـطـة ثمّ سـاروا  حتّى وصـلوا عقـلة الـطـرودي والتي  تـمـتدّ ما بين نـفـطة و الجـردانية ـ وقد سميت كذلك نسبة إلى شـداد بن  حارث الذي تـوفي بهذا  الموقع ،وهو من طـرود إفريقية  ـ و نـزلوا بهـا و نـستشـهد  في هذا الـصدد بمخــطوط الشيخ العـدواني الذي يـبـيـّـن كـيـفـيـة و تاريخ  امتلاك قبيـلة طـرود  لأرض ســوف ، حيث يذكر مايلي :" …كان لـطرود سـطوة عظيمة (كذا) حاسم فـأخـذ  عمارة بن سالم  و  الأسـود  بن  سـاوية  يلوجون في  الأوطان  حتّى لـقـوا قـصـور عـدوان  فلم يجـدوا فيها أحـدًا إلاّ  آمـة اسـمـها شَحْمَة      و عـَبْـدًا  اسمه شـُكر   و  شيخـًا كبيرا قد علم ما يأتيهم بالأخبار الغريـبة …"(20) . ثمّ يروي أن الأمـة كان بين يـديها طبل من النحـاس  فإذا رأت خـيـرًا ضـربته للضـيافة ضـربة واحدة  و إن رأت  ما  تكره ضـربته  ضـربتين وكان من عادة عـدوان يـرعون بمواشيهم أول  يوم من الربيع …ثمّ يخبرنا العدواني أيضًا :
      "…فلما وصل الرجـلان إلى القـصـر لم يجـدا فيه أحدًا  فأجابهما شكر : ما فيهم أحد إن كنتم تريدون الضيافة فـقـفوا موضعكم حتى نخرج لكم الخبز و الماء ،وإن أردتم الأخبار و الكلام هلموا إلى ذلك القصر المعروف بالمدينة ، قالا :" لابـد " فحملهما شكر إلى  الشيخ الساكن بالقصر البعيد إلى أن دخلا عليه فردّ عليهم السلام ، قال لهما :" من أيـن أنتما من القبائل  و ما تريدان" ، قالا  له :"نحن من أخلاط إفريقية  أتـيـنا نلوج في الأوطان."  قال لهما الشيخ :" كذبتما فعندي كما في التاريخ إن هذا الوقت خروج طرود وسيملكون هذه الأرض"  قال له الرجلان :" وما هذا العلم عندك " قال لهما الشيخ : " لأن ســوف من وراء ظهري ، وهذه تسمى بقصور عدوان و إن شئت قلت لهم قصور الرهبان … " فعرف الرجلان أنه صاحب أخبار…"(21).
      لذلك نزلت قبيلة الطرود بالناحية الجنوبية الشرقية لمـدينة الـوادي، و استقرّت قبيلة عــدوان بالناحية الشمالية منها. وتشير المصادر التاريخية أن طرود حينما نـزلوا بـســوف ، قد تنازعوا مع زناتة تكسبت بسبب قلّة الماء ، وأن بعض طرود ـ وهم أولاد حمد الحاليين ـ أتــوا إلى الــوادي و نـزلـوا قـرب سـيدي مسطور ، ذلك أن هذا الولي الصالح سيدي مسطور قد سبق وأتى من المغرب ، وفي رواية أخرى أتى من القيروان (وهي الأرجح) ، ونزل بقرب أهل تكسبت وكان صاحب علم وتقوى الله ، غير أنه لم يحظ بقبول  الناس ، فانقطع للعبادة بزاويته المشهورة بالـوادي التي تبعد عن تكسبت بنحو ميل  من الجهة الجنوبية ، ثمّ بعد زمن قليل تلاحق الناس ونزلوا قرب أولاد حمد الآن ، فـفرح بهم سيدي مسطور غاية الفرح وأكرمهم ، وكان صاحب ماشية كثيرة  قـلَّ من كان لـه مثلها  في ذلك الحين ، وكان وقت دخولهم إلى الوادي عام 800هـ/1398م ، وانتشـرت طرود قـطعًا قطعًا من الـوادي إلى سـنـدروس و وادي العلندة ونواحي أخرى .. (22).
      وهكذا ، بعد أن أرهقت وأدمت الحروب قبيلة طرود ، وضاقت بها  الأرض  بما  رحبت،لم تجد إلاّ أرض ســوف  لتستـقـر  بها و تنشر مــواشيها و إبلها، فاستـتـب الأمـن و عاد الهـدوء والسلام ، فلما تــمَّ عشـرون سنة بالنازية توفي طرد ، و حين قاربت وفاته اجتمع بكبار أعيان قبيلة طرود و أوصـاهم قائلا : أوصيكم  إذا مات أحدكم فلا تضجعوه كالنائم ، فإذا فعلتم ذلك نقصت حرمتكم ، وإذا حكمتم هذه البقعة فانزلوا  سوف فهي  داركم ، وإذا تخالفتم في الرأي  فخذوه من رجل كان أبوه صاحب رأي، ولا تجعلوا أمراء واد ريغ عليكم فيفسد رأيكم وتنقص حرمتكم و يأخذكم الغرض، و أحسنوا إلى  بقية  عدوان ليكونوا  لكم عونًا، وإذا خرجتم من النازية فيأخذ كل أهل قصر وحده لـئَلا تقع بينكم الفتنة،وإذا وقعت الفتنة بينكم فسد رأيكم.(23)
      والجدير بالذكر  هو أن الخصام و النزاع بقي قائما و مستمرا بين قبائل سوف ، فوقع خلاف حاد ما بين طرود و زناتة تكسبت من أجل الماء ، و اشـتـدّ  ذلك حتى وصـل  إلى التقاتل والتناحر ، مما أدى إلى خـراب تكسبت  وفـرار  أهـلهـا إلى نفطة و تقرت و ورقلة ، فخـلا  الجو لقبيلة طرود بعد جـلاء زناتة عن أرض سـوف ، فجالوا  فيها من  غير معترض  وانتشرت أحياؤها و اتسعت  مراعيهم(24) حتى أصبحـوا قـوة هائلة في المنطقة ، لها سطـوة وهيبة ، وقد ربطوا علاقات وديــة و تجارية مع أهل القيروان و منهم  عـرفة بن أحمد بن مخلوف الشابي زعيم الشابية ـ و هي طريقة دينية صوفية بالقيروان ـ  و كان الشابي يتخوف من مكائد الوالي ، لهذا كان يبحث عن أنصار ليواجهه وقت الحاجة ، وقد وجـد ذلك في قبيلة  طرود حيث  قال  لهم:" يا طرود من نصرتموه انتصر ومن كسرتموه انكسر ، قليلكم كثير وكثيركم  لا حدّ له .." لهذا دخلوا معه المنافسة       و ناصروه ، غير أنه لم ينصفهم في الغنائم ، فانصرفوا بغيظهم إلى سـوف عازمين على عـدم نـصـرته مرّة أخـرى.(25)
      أما بني عـدوان  فقد تكاثـر عـددهم أيضا بـسـوف ، وازدادوا بفضل هجـراتهم المتتالية ، خاصة منذ القـرنين الحادي عشر و الثاني عشر الميلاديين ،و كان أغلبهم من الـسكان الحضـر، فاختلفوا مع قبيلة طرود و قامت بينهما نزاعات وصـراعات مـريرة و عنيفة ؛  أدى كل ذلك إلى انقسـام أهل سـوف إلى قسمين بارزين هما: بني طرود و بني عدوان.
      غير أن  الخصومات قد استمرت بين الطرفين لعدة سنوات ،ففي حوالي القرن السابع عشر الميلادي وقع انقسام كبير بين الفريقين تابعه تحالف سياسي جديد ؛ذلك أن أحد الرعاة البدو من طرود هرب بخمسة وعشرين جملا مسروقة لبني طرود إلى قرية تاغزوت ،وقد آجره شيخ يدعى سـعـود و منحه حق اللجوء هناك،واستطاع سـعـود أن يحميه ويقاوم ضغط طرود عليه بفضل التحالف الذي عقده مع قرى الزقم وكويـنـين و سيدي عـون و ورماس. ومنذ ذلك الحين فإن المشـتـركين في هذا التحالف  أصبح يطلق عليهم  أولاد سـعـود ،والمعروف هو أن قريتا الزقم وسيدي عون هم من بني عدوان، ولكن قرى تاغزوت و كويـنـين و ورماس كانت تضـمّ عـددا كبيرا من بني طرود المستقرين بين سكانها ،لهذا فإن تشكيل حلف أولاد سعود يمثل جبهة الدفاع ضـد هيمنة الطرود فيها ودعم من الخارج وعلى مسافة بعيدة ضـد الجيران المنافسين بحيث أصبحت المواجهة وجها لوجه،فــالزقم ضد البُهَيْمَة وكوينين ضد الـوادي وتاغزوت ضد قـمـار وسيدي عون ضد الدبيلة(أنظرالخريطة)، وأصبح النزاع والشقاق بين الصفوف(طرود ـ سـعود) ينشب لأتفه الأسباب فتقوم صراعات تافهة و هامشية تثير العداوة و البغضاء  حتىكادت أن تقضي على المبادئ النبيلة الإنسانية وعلى التعاليم الإسلامية السمحـة كالأخـوة و التسـامح و التضـامن …الخ.   لهذا جاء إلى وادي سـوف العلامة الشيخ الجليل سيدي المسعود الشابي ليرشد النّاس إلى الطريق الصواب و يصلح أمرهم ، وقال الراوي في نسبه: " هو المسعود بن محمد ( بن ؟) الشابي بن عبد   اللطيف بن أبي المكرم (بكر) بن أحمد بن مخلوف بن علي بن محمد بن مساعد بن سليمان بن مروان بن عبد الغني بن  حسن بن أحيد بن حميد بن  ليث بن عبد الله بن عبد الرحمان بن عبد العزيز بن سهم بن هنين بن تانير بن داود بن هذيل بن عبد الرحمان بن عبد الله بن مسعود (صاحب رسول الله ،  )  بن الحارث بن شملخ بن مخزوم بن صـلة بن كاهل بن الحارث بن ايم بن سعد بن هذيل (بن) مدركة ، وفيه يجتمع نسبه و نسب النبي ـ ـ وفيه كفاية عن من صـافحه لأن شهرته تغنيك (26).     
      نـزل الشيخ المسعود باللـجـة في الناحية الشرقية الشمالية من سـوف التي هي بلدة الزقم وبلدة البُهَيْمة وما يليهما من المداشر ، ليعلم أهلها دين الله و شريعته في الأرض من القرآن وسنّة رسول الله (عليه أبهى الصلوات وأزكى التسليمات) لأنّ إيمـانهم قد فـتـر و إسلامهم ضعف وأهتزّ وحصل عندهم تـردّد كبير في أداء فـرائضهم الدينية ،فعمل على تنـويرهم وتبصيـرهم إلى الطريق الإسلامي الصحيح .ثم رحل ونزل على أهل الوادي ،بموقع تكسيبت فـاستضـافه العـش بن عمر بن سليمان بن محمد اليربوعي ، ومكث مـدّة يعلم النّاس ثمّ دعاهم إلى بناء مسـجـد ،فبـنوا المسجد الجامع بوسط سـوق الــوادي ، المعروف اليوم باسم "جامع سيدي المسعود" وهو من أجمل مساجد ســوف ومن معالمها البارزة إلى حد الآن؛ وكان نــواة لنشر العلم و التعاليم الإسلامية السمحة على يـد الشيخ سيدي المسعود و تلامذته من بعده منهم أولاد دربال وغيرهم .                 
      كما انتقل سيدي المسعود إلى قرية غنام بن مبارك بن فارح و هي الهنشير الشرقي الذي منه عمرت بلدة كوينين الآن ، فـدعاهم للهداية و تقوى الله قائلا لهم :" إنني ما جئت أسـألكم عن ذلك أجـرًا ، إن أجري إلاّ على الله." وطلب منهم أن يتبعـوا  هـدي نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ و يعرفوا  ربــّهم  و يوحدوه؛ ثمّ أرتحل  سيدي المسعود إلى بلدة تاغزوت ، وأقام فيها مـدّة يعلّم النّاس أمـور دينهم و دنياهم ، وما لبث أن رجع إلى اللّجّـة  فأ قام بها زمنـًا و من هناك  انتقل إلى الجـريد بعد أن أقـلع جـذور الفساد و حمية الجاهلية ، ونزع تعصب المتعصبين، ثمّ أصبح يتردد على  وادي سـوف من حين  لآخـر  علّه يصلح ما قد فـسـد ويرشد النّاس إلى السبيل الصحيح ، فرضي الله عنه وجزاه عن ذلك خير الجزاء  . وكان كل ذلك في المنتصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري الموافق لمنتصف القرن السابع عشر الميلادي.
      لم يخضع إقليم ســوف للحكم المركزي في عهد الجزائر العثمانية (1518 ـ 1830) إلاّ في بعض الفترات الأخيرة منه ، ذلك أن أغلب المناطق الصحراوية  في هذا العهد تكاد تكون في عزلة تامة عن الأتراك العثمانيين بالجزائر ، حيث كانت تعيش شبه مسـتـقـلة وتخضع لنفوذ  ما يعرف بـ"الجماعة" ـ وهم العقلاء الذين يقع عليهم الاختيار من طرف الأهالي ـ و لم تخرج منطقة وادي سـوف عن هذا النظام ، غير أنّها أصبحت تابعة اسميًا وصوريًا لنفوذ شـيـخ العرب الممثل لباي قسنطينة في الصحراء من جهة ، وكذلك ممثل سلاطين بني جـلاب بتقرت من جهة أخرى، وهذا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر الميلادي .
      والجدير بالذكر ، هو أن بعض قـرى سـوف رفضت الخضوع لسلطة بني جـلاب، في حين انقاد إليهم البعض الآخـر، الأمر الذي جعل بعض سـلاطين تقرت يحاولون إخضاع قـرى سـوف لسلطتهم بالقوة وجمع الضـرائب و الإتاوات منها عـنـوة ؛ ففي سنة 1787م كان الشيخ فرحات بن جلاب سلطانًا على تقرت و نواحيها ، وكان مستقلا عن الحكم العثماني ، أو بالأحرى عن باي قسنطينة ،حيث يرفض الانضواء تحت نفوذه ، بل كان ينافـسـه في السيطرة على سـوف و يريد الاستحواذ على ضرائب جميع قرى سـوف ، مما جعل أهل الإقليم في موضع حرج أمام هذا الانقسام في السلطة .فبينما كان سلطان تقرت يطالبهم بالاعتراف بسلطته   و تسليم الجبايات إليه،كان شيخ العرب ببسكرة ،يـبـعث إلى منطقة ســوف من حين لآخر بعض جنوده  من الأتراك العثمانيين لجمع الجبايات ، وبذلك انقسم أهل ســوف ما بين الخاضعين لسلطان تقرت والرافضين له ، لهذا عزم الشيخ فرحات على محاربتهم ومعاقبتهم وذلك مثل ما فعله سابقًا مع القسم الغربي من الدبيلة ، فبعد اقتتال ضاري انهزم الدبيليون بعدما قتل منهم الكثير ،وخربت مساكنهم ونُـهـبت أمتـعـتهم وخـضـعـوا أخيرًا لنفوذه.   وفي عام 1789م عاقب الشيخ فرحات أهل بلدة قمار بـســوف أيضًا، فـنـزل عليهم بجيش عرمرم يقوده محمد بن الحاج بن قانة و فـرض  عليهم دفع خمسة وعشرين ألف ريال سوفي(صرفه يساوي فرنك واحد وخمسة وعشرون سنتيما) وأمرهم أيضًا أن يقدموا ما يكفي المحلّـة من القمح والسمن والزيت ، وما يكفي دوابهم من الشعير والحلفاء ، وما يكفي لاخبيتهم من الخشب؛وأقام عندهم نحو الخمسة عشر يومًا على هذا الحال (27)  و ارتحل راجعًا.
      في سنة 1791م قـدم صـالح باي حاكم بايليك الشرق من قسنطينة إلى تقرت ومعه ستّة آلاف فارس من العرب الشجعان و ألف فارس من الأتراك  حاصـر بهم الشيخ فرحات لمدّة أربعين يومًا،غير أنـّه لم يستطع فـتـح تقرت ،مما جعله يتركها و يستعمل الحـيلة للقبض عليه بأن يخرجه من حصنـه ويبعـده عنه ، وهذا بإشعال نار الفتن والثورات ضـده بمنطقة سـوف ؛ و لهذا أرغم الشيخ فرحات فيما بعد على مغادرة تقرت قاصدًا منطقة سـوف للانتقام من أهله واسترجاع نفوذه مع بسط الهدوء والأمن فيه ، لكنّه لقي مصرعه أثناء هذه الحملة ، وبذلك تــمَّ  الاعتراف بسلطة صــالح بـاي على ســوف و تقرت ، وعيـّن الشيخ محمد بن الشيخ الحاج أحمد  واليًا على كل المنطقة(وادي ريغ و سوف) مكان الشيخ فرحات ، ورغم ذلك بقيت بعض نواحي ســوف كالــوادي وعميش والطريفاوي مناهضة لسلطة بني جــلاب .(28)
      وقد واكبت هذه الأحـداث حـركة فكرية وأدبية وتجارية مزدهرة في ســوف خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، حيث اشتهر أهلها بحب العلم والعلماء، وحب المغامرة والأسفار والهجرة والتجارة، فكانوا يقودون القوافل التجارية بين أهم المحطات و الأسواق الصحراوية؛ فنجدهم يتاجرون ما بين وادي ســوف وغدامس وفزان وطرابلس والجريد وتونس من جهة و وادي ســوف  والهقار وتـوات  من جهة أخرى.
      ومن رجالات وادي ســوف المصلحين البارزين ،والذين أثـروا  في تاريخ المنطقة ، الشيخ سيدي  ســالم الأعرج الســوفي ،شـيـخ الطريقة الرحمانية  (29) و مؤسسها بإقليم وادي ســوف،والمقبور بـزاويته الشهيرة بمدينة الــوادي، و هـو ابن محمد بن محمد بن سيدي محمد بن نصر بن عطية الشريف ، من نـسـل  الزائر بن سـيـدي المحجـوب دفـيـن القـيـروان ، وقـبـره بها يـزار إلى الآن، ويشهـد له كل النّاس بالصـلاح و النّـجـاح والكمال.
      أمّـا طريقته فقد أخـذها سـيـدي ســالم عن الشيخ سيدي علي بن عـمـر الطولقي الشريف الملقب  بـ " شيخ الزهاد وفخر العباد سراج الطريقة ومعدن الحقيقة " ، وهو أخـذها عن الشيخ سيدي محمد بن عزوز البرجي الملقب أيضًـا بـ"ـأ بي البركات القدوم الهمام ذي النـفـع و الفيض على جميع الأنام " وهو أخـذها من "كهف الأنام و حجـة الإسـلام ذي الحجج الباهر و الكرامات الظاهرة ،وحيد الأولياء و رئيس النبـلاء " العالم  العامل الشيخ سيدي محمد بن عبد الرحمان باش تارزي (30)؛ وتستمر سلسلة الشيوخ في الأخـذ عن بعضهم الى سـبـطي الـنّبي ( صلى الله عليه وسلم ) سـيّـدا شباب أهـل  الجنّة الشيخين الفاضـلين الحسن و الحسين،و هما أخذاها عن باب مدينة العلم ابن عـمّ سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم)،والدهما سيدنا عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وهو أخـذها عن سـيد المرسلين وحبيب ربّ العالمين محمد الصـادق الآمين ( صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين )، وهو عن جـبـريل عليه السـلام ،وهو عن الحـق جـلّ وعلا.  تــرك سيدي ســالم ولدين فاضلين هما: الشيخ سيدي مصباح وهو الأكبر سـنـًّا ، والآخر سيدي محمد الصالح ، فالأول جـرى على طريقة الأشياخ الذين يكـتمون أمرهم، أمّا الثاني جرى على طريق من يذيع ذلك، لهذا فقد لازمـه طـلاب العلم والشيوخ، و منهم الشيخ إبراهيم ابن محمد الساسي بن عامر السوفي الوادي ،حيث كتب فيه رسـالة سماها :  " البحر الطافح في بعض فضائل شيخ الطريق سيدي محمد الصالح " نـشـرها أبو القاسم محمد الحفناوي في كتابه، تعريف الخلف برجال السلف، يظهر فيه خصال ومناقب آل سيدي ســالم، وما قدموه من أعمال جليلة لـنـشر العلم و إرشـاد النّـاس و إصلاح المفاسد عن طريق زاو يتهم بالوادي،و التي أصبحت عبارة عن خلية تضمّ   العـديد من الطلاب  لحفظ القرآن الكريم و دراسة العلوم المختلفة ، كما تضمّ أيضا الأخوان   و المريدين و تعقد بها حلقات الذّكر والمدائح  وبهذا النشاط الحثيث استقطبت الزاوية الكثير من الطلاب ،وخاصة من منطقة النّمامشة لأنّها تضمن لهم الإيواء و الغذاء والتعليم، حيث تخرج منها العديد من المعلمين و الأساتذة الذين خدموا الدين الإسلامي واللغة العربية في الجزائر، وجـزاهم الله جميعًا عن ذلك خـيـر الـجـزاء .
** حقبة الاحتلال الفرنسي لإقليم سوف :**      
      بدأت فرنسا تفكر في احتلال إقليم ســـوف منذ الأيام الأولى من سقوط مدينة قسنطينة في شهر أكتوبر 1837م، حيث برهنت الأحداث على أن ســوف ـ أو ما يعرف في ذلك الوقت بصحراء قسنطينة ـ هي القاعدة الخلفية للمجاهدين والزعماء.
      وبعد احتلال القوات الفرنسية لمدينة بسكرة سنة 1844م ،التجأ خليفة الأمير عبد القادر وقائد الجهاد بالمنطقة ، محمد الصغير بن أحمد بلحاج إلى وادي ســوف ليعتصم بها .لهذا عملت السلطات الاستعمارية الفرنسية في الجزائر جـدّيـًا على مـدّ احتلالها إلى ســوف ،فـأرادت جـسّ نبض سكان المنطقة قبل الإقـدام على تنفيذ مشروعها فبعثت بإحد شيوخ أولاد عمر ليخـبر أهل ســوف البلاغات و الإعلانات  التي أصدرها الوالي العام لسنة 1845م، وقد تقبل سكان المنطقة هذه الإعلانات بقبول حسن لأنّها تراعي مصالحهم ، وما دامت أيضاً لا تضـايق قوافلهم نحو الشمال، لهذا أسرعت القـوات الفرنسية بتجهيز  الطوابير الـعـسـكرية للسـيـر نحو إقليم وادي سوف ويقول الضابط "لورونت شارل فيرو" في كتابه: "صحراء قسنطينة" و المنشور في أعداد متتالية من المجلة الإفريقية، مايلي:" ..خلال السنوات الأولى لاحتلالنا للصحـراء ، ومن أجل تثبيت مؤسسـاتنا اقتضت الضـرورة إخضـاع أولاد نائل ثمّ الأوراس     والنمامشة، حتى نتفرغ و نـهـتمّ بكل جـدّيـة لعملية احتلال ســوف المضطرب جـدًّا بتأثير  من ابن أحمد بلحاج الذي طـرد من الأوراس من طـرف الجنـرال " بـيـدو" (BEDEAU) فالتجأ إلى الــوادي …".(31)
      ومن هنا بـدأ الاهتمام الفرنسي يـزداد بمنطقة وادي ســوف ، ففي سنة 1848م شـرعت الإرساليات الاستكشافية في التوافد على ســوف، حيث وصـل الضـابط "بـراكس" (PRAX) للإقليم قـادمًا إليه من الجنوب التونسي ومن المعلوم أن الضابط "براكس" هو من قدماء ضباط البحرية ، غير أنّه هذه المرة أراد أن يتعرف على بحار الرمال بالصحراء ، فقـام بهذه الجولة عبر الجنوب الشـرقي الجزائري ، فزار وادي سوف ووادي ريغ وبسكرة ، ثُّمَ أصدر دراسة هامة استفادت منها المصالح الاستعمارية وهي تحت عنوان :" تقرت وسوف " (32) ثُّمَ أعقبها بدراسة أخرى  حول التجارة الصحراوية والتجارة العـابرة للصحراء عَنْوَنَها بـ:" تجارة الجزائر مع مكة والسودان" وأصدرها بباريس سنة 1849م. وفي سنة 1850م زار سوف الباحث المعروف " أندريان بربروجار " (ADRIEN  BERBRUGGER)(1801-1869) - محافظ المكتبة والمتحف بالجزائر  ورئيــس الجمعية التاريخية الجزائرية- حينما عقد العزم على استكشاف الواحات الجزائرية؛ فانتقل  إلى تـونس عن طريق مدينة سـوق أهـراس،  فزار واحات الجريد (الجنوب الغربي التونسي) و منه  انتقل إلى سـوف وتجول في أرجائه، ثمّ زار وادي ريغ ومدينة ورقلة و وادي ميزاب و المنيعة وتــوات (33)؛ وقد تحصل من كلّ المناطق التي اجتازها عن معلومات غزيرة جغرافية و أثـرية جمعها      وأصدرها في دراسة قيّـمـة تحت عـنـوان " النتائج المتحصل عليها من الاستكشافات المنجزة للتوغل في السـودان" نشرت بالنشرة الخاصة للجمعية الجغرافية بباريس سنة 1862م،و قد أعطت هذه الدراسة معلومات هامة عن ســوف للمصالح الاستعمارية الفرنسية سـاعدتها فيما بعد ،للتـوغل في المنطقة.
      كذلك قـام الملازم "روز" (ROSE) ،نائب رئيس المكتب العربي، بـرحلة إلى سـوف سنة 1852م، برفقة فـرقـة من "القـوم" ،والتي وصلت إلى بلدة قـمــار ، قادمة من الفـيـض بالزاب الشرقي، فـراقبت أمور وشؤون المنطقة عن كثب     و قـدمت معلومات دقيقة ساعدت القوات الفرنسية في زحفها على سوف .
      وبعد أن مـهـّـدت هذه البعثات الطريق للقـوات الفرنسية لاحتلال ســوف، فإنّ الوضعية السياسية و الاجتماعية بالمنطقة كانت متدهورة زادت في تسهيل مهمة الاستعمار، ذلك أن وادي ســوف قد تــأثــر  بالأحـداث المحلية القريبة منه، كاحتلال بسكرة ، وثورة الزعاطشة ،و الصراع الذي صاحب هذه الوقائع و المنافسات الشديدة التي دارت بين عائلتي بوعكاز (أوالدواودة) و ابن قـانة من جهة وخصومات ونزاعات سلاطين بني جــلاب بتقرت فيما بينهم حول الحكم من جهة أخـرى.
      وفي جانفي 1852م توفي سلطان تقرت الشيخ عبد الرحمان(الملقب بـ"بوليفة") ،تاركا إبنا  و وريثا وهو عبد القادر الذي لم يتجاوز عمره ست سنوات، لهذا تولى الحكم تحت وصـاية جـدّته لاله عيشوش والتي كانت لها خبرة في هذا الميدان، وهي من عائلة ابن قانة.غير أنه كان هناك منافس للخلافة وهو سلمان بن علي الكبير، الذي هو ابن عـمّ الحاكم المتوفى (34)،وكان عمره ثماني عشرة سنة؛ وقدتلقى الدعم من تماسين المركز الأساسي للطريقة التيجانية بالمنطقة؛ كما آزره و وقف معه الشريف محمد بن عبدالله،سلطان ورقلة، و لهذا عارض الوالي العام للجزائر هذا الإجراء وكان يفضل تعيين واحد من أولاد ابن قانة حاكما على تقرت ،لكن السكان قاوموا هذه الفكرةحينذاك ،لهذالم يبق أمام فرنسا الا التـدخل العسكري المباشر لتحقيق هدفها.وفي نفس الوقت حصل سلمان على دعم أولاد سـعود من سـوف وقـدموا له ثلاثمائة جندي من المشاة.وبمساعدة هـؤلاء استطاع أن يسـتولي على تقـرت بطريقة مفاجئة في أول أفريل 1852 م وبمباركة زاوية تماسين .
      أَقْنعَ القادة الفرنسيون في شرق الجزائر الوالي العام للجزائر المتردد بالاعتراف بسلمان حاكما على تقرت ، ولكن يعترف به على شرط أن ياتي شخصيا إلى بسكرة ، أو باتنة لإبداء خضوعه بنفسه للسيادة الفرنسية . ويبدو أن سلمان قد رأى في ذلك حيلة لإبعاده عن توقرت حتى يقع فيها  إنقلاب موال لإبن قانة في غيابه ، ولذلك رفض أن يلبي الشرط ؛ونتيجة لذلك قام الفرنسيون بقطع طريق قوافل تجار القمح من بسكرة إلى تقرت، كما سمحوا للفرسان الإحتياطيين من بسكرة أن يـغـيروا على قافلتين تجاريتين من سوف(35).
      أرسل الفرنسيون  احمد باي بن شنوف إلى سـوف كقائد عليها و لمحاولة إبعاد الـسـوافة عن سلمان، ولكنه فشل في مهمته. غير أن سلمان بدأ في مداهمة بعض الـسـوافة ،ففي أفريل 1853م خسـر كثيرا من الدعم الباقي له في سـوف عندما أغار على كوينين على رأس ثمانين رجلا لقتل بعض السياسيين الخصوم الذين لجأوا  إلى هناك،وهم من قدماء خدم عبد الرحمان ؛ وقد استطاع عدد من هـؤلاء الخـصـوم أن يـفـروا  إلى  قمار التي وفضت تسليمهم، ولأن قوات سلمان كانت من الضعف بمكان حيث لاتقدر على مهاجمة قمار التي صـدت الأبـواب في وجهه،فانه اكتفى بالرجوع إلى تقرت(36).
      وفي ماي 1853م أمـر الوالي العام للجزائر بحصـار اقتصادي جديد على وادي ريغ وسـوف(37)،ثمّ أظهرت  بعض مقاطعات سـوف كالـزُّقم والبُهـَيـْة و قمـار وتاغزوت  وكـويـنـيـن  علاقاتهم الحسنة ونـواياهم الطيبة مع فرنسا وأرسلوا وفدا الى بسكرة ليعرض دفع الضرائب المعهودة عليهم ،لهذا سمح لهم بالدخول إلى أسواق بسكرة . ولما عرض الـوادي وبعض القرى الأخرى نفس العرض رفض لهم، (38) وتعطلت قوافلهم التجارية.    
      وفي نفس الوقت  أعلن سلمان نفسه خليفة لشريف ورقلة ليعاونه في تجنيد أهل سـوف،كما طلب من باي تونس دعمه ضد الفرنسيين(39) ،لإن الحاكم العام بـدأ يخطط لعمل  عسكري مباشر لاحتلال تقرت وسـوف،وهذا بعد ما اقترح أن يجعل واحد من أولاد شـنـوف حاكما جديدا على تقرت ، غير أنه قبل باقتراح تقدم به القائد العسكري للإقليم العقيد"ديفو"(DESVAUX) بتعيين بوعكاز تبعا لقاعدة سياسة "فرق تسـد" لتعميق الخلاف ، وفي اكتوبر 1854م أعلنت بلدتا كوينين وتاغزوت اذعنهما في بسكرة، وبذلك  فإن المصالح المتضادة و المتصـارع  عليها في الصحراء  أثـرت على أهــل ســوف فأنقسم السكان إلى صـفـيـن حـسـب مواقـفـهـما:
      **الصـف الأول من الطـرود ، ويتكـون من أهل الـــوادي و قمار والبهيمة والدبيلة،وانحازوا إلى عائلة بوعكاز ،بعد إعـلانهم عن تحالفهم مع تـمـاسين ومناصـرته ضـد تقرت ،وكذلك تحالفهم مع قبائل سـعيـد ولد عامر، وأولاد السـايح و الـشـعـانبة و المخـادمـة بـورقلة .
      **الصـف الثّاني :ويتكون من أولاد سـعـود ،وهم سـكان الزقم وكـويـنـيـن وتاغزوت ، الذين مـالوا إلى عائلة ابن قـانة ودعمـوا تقرت  و وادي ريغ و انـضـووا تحت سلطة بني جـلاب.
      وهكذا نـلاحظ أن الصـراع الذي حدث في الزيبان بين الأخـوة  الأعـداء ـ قد أمتد لهيبه إلى وادي سـوف ، وادي ريغ ، وللأسـف لم يخـدم إلاّ المـصـالح الاستعمارية، حيث سـاعدها في مدّ نفـوذها بعد تكريس الشقاق ليسهل عليها قهر مقاومة المجاهدين البواسل في هذه المضارب البعيدة والصـعبة  و الشـاسعة.
      ** التوغل الاستعماري في ســوف **
      وفي خريف عام 1854م ، راجت أخبار  ببـسـكرة داخل  الأوساط الاستعمارية مفادها أن القـوات الفرنسية تتأهب للقيام بعمليات عسكرية هائلة  ، للهجوم على إقلـيم ســوف لتغزوه، لأنـه ،حسب زعمهم، مـوطن للثـوار والمشاغبين يجب القضاء عليه ، و هو الآن يـأوي ويسـاعد الثائر سلطان ورقلة الشـريف محمد بن عبد الله، ففي سنة 1854م.
      التجأ الشـريف محمد بن عبد الله إلى ســوف(40) ،بعدما فَقَدَ مركز قيادته بورقلةو أغلب أنصاره بها ،حيث تشيرالتقارير العسكرية  أن أعيان ورقلة  - وهم عبد القادر بن كرميا (كبير بني سيسين)،والحاج بن الحاج معيزة(كبير بني أوجين)،والحاج محمد (كبير بني ابراهيم)،والحاج بوقلة(كبير العرش لبني ابراهيم) ـ  قد خضعوا للسلطة الفرنسية  و جاءوا الى البيض يوم 11 سبتمبر 1854م لدفع ماعليهم من ضرائب إلى سي حمزة ـ  زعيم أولاد سيدي الشيخ،والخليفة بالصحراء ـ   ؛ لذلك تركهم  الشريف محمد بن عبد الله وخيّم بقوته تحت أسوار تقرت وهذا من أجل أن يجمع حوله أهل سـوف ليعاود بهم الثورة ومقاومة الاحتلال الفرنسي،و بعد مـلاحقـة الـقـوات الفـرنسية له ومحـاصرته مـا بين مدينة الـــوادي و بلدة الطيبـات القبلي ، تمكّـن القائد سي بن هـنـي من مطاردته وطرده من المنطقة الممتدّ ما بين وادي ريغ ووادي سوف  فأضطرّ إلى الـفـرار نحو الجـريد (41) ليجمع شـتـاته لمواصلة الجهاد ضد المحتلين.
      وصـلت القـوات الفـرنسية الأمامية المتكونة من مائتي وخمسين جنديا نظاميا وألفي وأربعمائة إحتياطيين إلى تقـرت أواخر شهر نوفمبر من سنة 1854م، وكان صـاحب أمـرها في ذلك الوقت الشيخ سـلـمـان آخـر الجـلابـيـّة، الذي استنجد بـأهـل ســوف و بـعـث لهم يـطلب منهم الإعانة والمؤازرة ضـد الـغـزاة ، عن طريق الشريف محمد بن عبد الله و وعـدوه بذلك ، وحينما وصلت القـوات الـفـرنسية يوم 26 نوفمبر إلى موقع" المقارين" ـ وهو الموقع الذي تـقـتـرن فيه مختلف الطرق ـ  استنفر الشيخ سـلـمـان قـواتـه         وأخـبر أهـل وادي سـوف، ففـزع منهم جـمع غـفيـر،  ففـرح بمقـدمهم وأكرمهم وفـرق في رؤسـائهم العطايا ووعـدهم بأكثر من ذلك عنـد الظـفـر ، حيث اعتبر هذا الإجراء كحافز لهم للإقـدام يوم الواجهة و الكـرّ في المعركة الحاسمة؛ ودخلت هذه الوحدات العسكرية بقيادة الشريف محمد بن عبد الله إلى مدينة تقرت يوم 28 نوفمبر، وبذلك أصبحت قـوات الشيخ سـلـمـان تقدر بأكثر من أربعة مائة فارس وألفين من  المشاة وهذا حسب تقرير قائد الجيش الفرنسي(42) الرائد  "مارمييه"(MARMIER).التحم الجيشـان في معـركة ضـارية بالـمقارين، يوم 29 نوفمبر ، بعد  أن استفاد الجيش الفرنسي من خبرته وتجربته في معركة الزعاطشة، فاستدرجت قوات المجاهدين من حصونها بتقرت والطيبات إلى ميدان المعركة الفسيح . وحينما تقدم سلمان مع الشريف على رأس فرسانهم، تسرب المشاة من المجاهدين تدريجيا إلى الأراضي المحيطة بالسبخة للوصول إلى مايعرف بـ " كـراع " مقارين ـ وهو شريط طويل من النخيل بربط مابين الواحات ـ حتى يتسنى لهم الولوج إلى القرى، وبذلك يتمكنوا من الإحاطة بمخيم القوات الفرنسية والهجوم الكاسح عليهم؛ غير أن قائد الجيش الفرنسي تفطن لهذه الخطة وأعطى أوامره للمشاة لتشديد الحراسة على المخيم  والإحاطة بالواحة، ثمّ تقدم بكل أفراد "القوم" إلى الأمام مع سـرايا الصبايحية لكتيبة القناصة الإحتياطي؛ وبمجرد ظهور فرسان المجاهدين حتى أسرع القائد الفرنسي بإرسال إليهم "قـوم" سي احمد بلحاج ليمهدوا للميدان،إلاّ أنّهم أُرْغِموا على الرجـوع ، وهذا ما شـجـع المجاهدين على الإقـدام و الإنـدفاع جماعات لاحتلال المواقع والدخول إلى القرية ، وحكي ان من جملة جماعة سـوف رجلا يقال له "كرباع" صـال في القوم  ـ وكانوا في وقت الاســتـراحة ـ قائلا لهم: >>  كيف  تصبرون على القتال  إلى الآن ،فقام الـنّـاس من غير استعداد و لا نظام وهاجموا المحلة و كانوا ينتظرونهم واقفين على قدم وساق…<< (43)،رغم أن هذا الهجوم أربك صـفوف الجيش الفرنسي وأصبحت هزيمته قاب قوسين أو أدنى؛غير أنه بعد تردد القوات الفرنسية لبضعة دقائق ، أمر القائد الفرنسي كتيبة القناصة بإتباعه إلى قُـبّـة الولي سيدي علي بن كنون والتي تشرف على القرية للسيطرة عليها و صَـدِّي الهجوم،لأنها النـقطة التي يحاول منها الثوار التوغل ،لهذا انقضت كتيبة القناصة للاهالي على قـبـّة الولي لإيقاف المهاجمين عن طريق نيران مسددة بـدقة نحوهم،كما أنّها تقوم بالردّ على طلقات سكان القرية من خلف الجدران؛ وفي نفس الوقت أعطيت الأوامر لدفع  سـرية الملازم عمار من الصبايحية الثالثة المنخرطين في الجيش الفرنسي والمتكونة من الصحراويين و أولاد  سـاولة(فرع أشراف الدواودة المنتسبين إلى عرب بني هلال) لـصـدّ الهجوم من الجناح الأيسر،ثمّ توقف عن الرمي من بعيد ووجـد نفسـه في لحظة وحيدا وسط المجاهدين،لهذا نقل رآياته بكل عناد إلى الأمام.
      في هذه الأثناء تقدم نـسـق الهجوم الثاني من اليمين عن طريق كوكبة النقيب "كورتيفران"(COURTIVRON)، وعلى اليسار "قـوم" سي مختار  و سي بوضياف ، فاندفع النقيب "كورتيفران" بكامل جموعه حتى وصل إلى وسط الفرسان ومشاة المجاهدين، الذين كانوا يعتقدون بل وجازمين بنصـرهم،لذلك اغتنم القائد الفرنسي هذه اللحظة لأخـذ مبادرة الهجوم بكل عزم وحزم ،وأمر النقيب "فاندريواز"(VINDRIOIS) بالتقدم إلى الأمام بفصيلة من كتـيـبة قناصة الاهالي، بينما تسلق الملازم "جوهانو"(JOUHANNEAU) القرية بكل بسالة وإقـدام بفصيلة أخرى ؛ ومن هنا بـدأت علامات النصر تظهر للقوات الفرنسية ،لهذا واصلت القتال بكل شجاعة وإقـدام و ملاحقة المجاهدين و بعض السكان في مقارين وخارجها؛ وهـذا ماجعل  كل من سلمان والشريف محمد بن عبد الله يغادران الميدان بكل سـرعة ،تاركين وراءهما جنودهم يبحثون عن طريق النجاة في كل الاتجاهات ،ولهذا تمكن الملازم "رابوت"(RABOTTE) ـ من فصيلة النقيب "كافل"(Cavel) ـ من دفعهم الى ما بعد السبخة.
      وفي هذه الأثناء أخبر النقيب "سيروكا"(SEROKA) قائده"مارمييه" بأنّ هناك تجمعا كبيرا للمشاة برآياتهم ودفوفهم، قد التحقوا  بغابة "كراع" مقارين وهم يظهـرون استعدادهم للتضحية وتقديم حياتهم بأغلى الأثمان من أجل النصـر أو الاستشهاد،وهم ملتفون حول مقدم النزلة(حي بتقرت)الذي هو من الأنصار المتحمسين لسلمان ،وقد قدم حياته واستشهد في هذه الواقعة  مع العديد من أنصاره.
      حاصرا كل من سي مختار وسي بوضياف هذا الجزء من الواحـة، من بعـيـد،  بشكل لا يترك لأي أحـد أي منفذ للهروب ،ثمّ تقـدم القائد الفرنسي مع فصيلة قناصة النقيب "كافل" ليدير الحصار،و هكذا  بكل جسارة و انجذاب  القادة سارع  الصبايحية والقناصة الى اقتحام الجدران تحت وابل رصاص المجاهدين،الذين أيقنوا من هزيمتهم، ولهذالم يتمكن من الفرار  إلاّ  عـدد قليل منهم،أما الباقي فقد استشهدوا فوق الميدان(44)، وبذلك انتهت أخر حلقة من حلقات هذا  اليوم العـسـير ،واعتبرت السلطات العسكرية أن هذه المعركة تعتبر نـصرا باهرا لها  كلّفها إلا عشرة قتلى و ثمانية وثلاثين جريحا.
       إذن انهزم جـنـد الشيخ سـلـمان ، بعد أن ترك على الميدان حوالي خمس مائة شهيد وأعلام وكثير من البنادق والسيوف ، وتفرق النّـاس في الشـطوط وغابات النخيل والشـعـاب، و فــرّ سـلطان تقرت مع الشريف إلى بلدة تماسين،فاختفى بها أيامًا، ثمّ انتقل إلى سوف صحبة محمد بن عبد الله ،  فنزل بمدينة الــوادي و مكث فيها مـدّة  ومنها دخل إلى القطر التونسي ، بعد أن استأذن من محمد باي حاكم تونس، ليستقـرّ في إقليم نفـزاوة بالجنوب التونسي مع عائلته المطـرودة من قبل الفـرنسيين(45).
      تغلبت القـوات الفـرنسية على المجاهدين الجزائريين بفضل التنظيم والأسلحة الحديثة وخيانة اخوانهم المنضمين للجيش الفرنسي، وأيضا براعـة قائدهم الرائد"مارمييه" ؛لذلك اسـتـطاعت أن تحـتـلّ مدينة تـقـرت و تـخـضع أهـلــهـا إلى السيطرة الفرنسية.والجدير بالذكر هو أن معركة "مقارين"  قد تركت وقعا كبيرا في نفوس الناس ،و لهذا كان هَوْلُها عظيما في جميع أنحاء البلاد ومن ضمنها دائرة تبسة التي استعدت لأرسال جيش من النمامشة لمؤازرة الشريف وسلمان في جهادهما ، غير أن السلطات العسكرية الفرنسية كانت تراقب هذه التحركات ،ومنعتهم من أي عمل عسكري ’وأرجعت الهدوء إلى دائرة تبسة.(46)
      وفي 05 ديسمبر وصل العقيد "ديفـو " (DESVAUX) إلى تقرت على رأس الطوابير المحشودة من باتنة و الأغـواط وبوسعادة   ليلتحم مع بقية الفرق العسكرية المحتلة في عين المكان، وبعد الاستراحة ومراقبة الأوضاع، تـرك القائد المحنك "ديفو"  فـرقة عسكرية صغيرة  لتراقب المكان وتقوم بحراسة السكان؛ ثمّ ارتحلت  بجيشه القوي ليـتـفقّد ويختـبـر أحوال ســوف تمهيدًا لإخضاعه للنـفـوذ الفرنسي. وبعد ثـلاثة أيام من السيـر وصلت المحـلّـة(الجيش الفرنسي) إلى إقليم ســوف عبر الطيبـات القبلية، بعد قتال عنيف بين المجاهـدين و الفرنسيين في غابات النخيل و السيوف وبعد مسيرة شاقة فوق الكثبان الرملية  ، دخلت يوم 13 ديسمبر 1854م (47) إلى أول بلدة من إقليم ســوف  و هي بلدة تاغزوت ، وقد اختار القائد الفرنسي "ديفو" الدخول إلى تاغزوت ، نظرَا لمعرفته المسبقة بموقف السكان المعادي لخصوم الفرنسيين في تقرت(48) ، لهذا لم يقاوم السكان هذه الحملة في بداية الأمر،وتركوا الطابور الفرنسي يتجول داخل بعض القرى بكل حرية ، لكن تحركاته كانت تحت مراقبة وأنظار ما يعرف في المنطقة بالمتاريس،وهم الرجال الشجعان المسلحون للدفاع عن المنطقة وقت الضرورة.
      استراحت القـوات الفرنسية بعض الوقت ، ثمّ توجهت إلى بلدة كـويـنـيـن ،أيـن تفقد "ديفو" أحوالها،ويبحث عن أسرار المنطقة بحيث  يقال أنّه عثر فيها على النسخة الأصلية لمخطوط تاريخالعدواني التي ترجمها فيما بعد "شارل فيرو" (Ch. FERAUD) ونشرها باسم: " كتابالعدواني" ـ صحراء قسنطينة وتونس ـ .و بعدها قامت الطوابير بزيارة خاطفة إلى مدينة الــوادي  ومنها رجعت القوات الفرنسية إلى تقرت التي وصلتها يوم 23 ديسمبر.لقد اعتبرت  الأوساط الاستعمارية هذه  الزيارة، نجـاحَا بـاهـرًا  للـتـوسـع الاستعماري ونتيجة هامة حقّقـها  الاحتلال الفرنسي بالجزائر، لأنّ هذا الإقليم الهام و المتفاخر بنفسـه  و المعتزّ بأنفتـه، كما أنّه صعب المراس وبعيد المنال ، لهذا  ظنّ أهله أنهم في مـأمـن من ضـربات العدو الخارجي ،و في حماية تـامة من هجـمــات القــوات الفرنسية ، نــظــرًا لبعد الإقليم  و صـعـوبة مـســالكه الـغـاصـة في الرمال، فــضــلاً عن عــدم تــأقلم القــوات الأجنبية على  المسيرات الـطـويلة     و الـعـسيرة في هذا  القـفـار، ورغم ذلك فقد استطاعت هذه الطوابير أن تـتغـلّـب على كلّ هذه الصـعـاب وتصـل إلى وادي ســوف.
      وفي حـفل بـسـاحـة قـصـبة تـقـرت قـدم العقيد "ديفـو"  برنس التولي إلى السيد علي باي ابن فرحات يوم 26 ديسمبر 1854م و أعـلن عن تنـصيبـه كـقـائد على تقـرت و وادي ريغ وإقليم ســوف ، بحـضـور كل أعيان البـلاد ؛ ذلك أنّ القائد الجديد  علي باي  يحظى بتأييد كافة الأعيان و احـتـرام الـنـّاس ، لأنـّه ابـن البطل الشهيد فرحات بن سـعـيـد بوعكاز ، خليفة الأمير عبد القادر بالزيبان ،لهذا فـإن توليته على ســوف يـضـمن ولاء عائلة بوعكاز، و بالتالي ولاء أهل ســوف ، رغم أنـّـه سيحكمهم باسم فـرنسا.
      وبعد حـفـل التولي تـوجه علي باي مع الأعيان إلى المسجـد للمبايعة من طرف الشيوخ والقادة،والتي ختمت بقراءة سورة الفاتحة. وبعد المبايعة  ألقى العقيد "ديفو" كلمة ذكر فيها أهل ســوف ووادي ريغ بالمصـائب التي لحـقت بهم من جــراء حكم سـلاطين بني جــلاب ، لهذا يجب نسيـان الماضي الأليم و النظـر إلى المستقبل المشرق، والالتفاف حول القائد الجـديد الذي نـصّـبته الـسـلـطات الفـرنسية لـينشـر الـسلم والازدهار في ربـوع الصـحراء.
      وعندما استـتـب الأمـر إلى سي علي باي بوعكاز  التحق الشيخ محمد العيد شيخ الطريقة التيجانية بتماسين بالقادة الفـرنسيين ليظهر لهم خضـوعه بنشـر  رآيـاته ، مع  وعـده للعقيد "ديفو"  بأنّــه سـيسـاعد  القائد الـشــاب علي باي و يـقدم له النـّصــح والإرشاد ، ويتكفل بحضانـة أطفال وعائلة سـلـمــان (49).
      وفي16 فيفري 1855م أخبر قائد الشعبة العسكرية لـباتنة السلطات العسكرية بقسنطينة بأن الشريف محمد بن عبد الله و سلمان يبحثان على أنصار جدد عند بـدو الصحراء بجنوب نفزاوة(تونس) وأن الشريف يقوم بإحراءات لدى قائد قابس ليستقر بتلك الجهة ،ويظهر أن هذا القائد قد وافق له على ذلك   بشرط أن يتخلى عن كل دور تحريضي.أما الأرباع والحرازلية الثائرون فلا يوجد أي جـديد حولهم. غير أن سالمي البوهالي قد غادر سلمان وخيّـم بجانب أحمد بلحاج(خليفة الأمير السابق).(50)   
      لقد  توالت أحـداث كـثـيرة على ســوف ،بعد هـذا الإجـراء ، ولم تـهـدأ الأمـور،ولم تستقـرعلى حالة واحـدة، ففي خـريف 1855م قام طابور الجنوب لمقاطعة قسنطينة بمسيرة إلى ســوف تحت قيادة الضابط "ديفـو" ـ الذي رقّي إلى رتبة جنرال ـ(51) لترسيخ النفوذ الفرنسي بالإقليم .
      انـطلق طابور بسـكرة تحت القيادة المباشرة للجنرال "ديفو" القائد الأعلى للفرق العسـكرية بالجـنـوب،كما انطلق قبله طابور بوسعادة تحت قيادة العقيد "بـان" (PEIN) نحو الواحات الجنوبية؛ وقد كان طابور بسكرة يـضـمّ أربع مائة وخمسين جـنـديا من النخبة ، بها سـرية من خمسة أجناد الخيالة وسـرية من ثـلاثة قناصة إفريقيا و سريتان للصبايحية و فصـيـلـتان لـسـلاح الـمدفعية،ويحتوي أيضـًا على مـفـرزة للـهـنـدسة العسكرية مع العمال وفرقة خاصة للمـاء والمؤن لـفترة عـشـرين يومًا؛و تـجـمّـع كل ذلك يـومي 25 و 26 نوفمبر 1855م في بسـكرة لـيـتـحـرك يــوم 27 نوفمبر نحـو بلدة سـيـدي عـقـبـة ليـقـضـي بها ليلة كاملة ، و في الصـبـاح سـارت القوة الـعـسـكرية الفرنسية بـاتـجـاه ســوف ، وقد كلّفت السلطات الفرنسية بعض الأفراد من قمار وتاغزوت، متخصصين في حفر الآبار،  بجهـر  وتطهير حوالي خمسة وثـلاثين بـئـرًا ،لـتـسهيل مـهمّة الطابور الفرنسي على امـتـداد مـسـالك الـقـوافل ، وذلك قبل قـدوم الجيش الفرنسي إلى المنطقة.
      وصـلـت القــوات الفرنسية إلى ســوف يوم 05 ديسمبر ، واجتمع أفـرادها بقرية سيدي عـون مابين يومي 05 و06 ديسمبر، ثمّ نــصـّبـت  مخيـّمـها ببلدة الــدبـيــلة القريبة منه والمتواجدة   في الشمال الشرقي ، لأنّها تتمتع بموقع استـراتيجي  على مـفـتـرق الـطـرق ، لهذا اختارها الجنرال "ديفو" كمركز لعملياته العسكرية.
      بـعـد الاسـتـراحـة من المـسيـرة الطـويلة و الشـاقة شـرعت البعثة العسكرية في تنفيذ برنامجها المتمثل في مراقبة و معاينة أحـوال المنطقة  و جـمع ما أمـكـن من المعلومات التي تـفـيـد المـصـالح الاستعمارية في توسعها لإحكام سيطرتها على سوف و أحوازها.(52)
      وفي الـدبيلة تــلفى الجنرال عـدّة مـعـلومات هـامة منها أنّ الـثائر محمد بن عبد الله قد انـفـصـل عن أعـرابه و خـيـّـم بـجـبل مـطماطة ، وأن ابنه بوسماحة وصهره محمد بن داود  ـ الذي هـو  من بين أحسن فرسانه ـ قـد تـوفيا مع المصابين بالوباء المنتشر في المنطقة الجنوبية وتفيد المعلومات أيضا أن السيد محمد بن علي السنوسي قد بعث إلى الشـريف محمد بن عبد الله بثـلاثة مبعوثين من جبل درنة(ليبيا) ليحثوه على الاتـصـال بمؤسس الحركة السنوسية المناهضة للتوسع الفرنسي في الصحراء الكبرى لمواصلة الجهاد؛(53) كما تـحـصـل الضـابط الفرنسي على معلومات أخـرى هي أن  ابن نـاصر بن شـهرة ما زال رابضـًا بنفـزاوة، وهو في انتظار رسـالة " الأمــان " من السلطات الفرنسية ليدخل إلى الأراضي الجزائرية، وبما أنّـه يعرف شـروط "الأمــان" المتمثلة أساسًا في الإحجام عن العمل الثوري، فإنّـه رفـض إتباع مجموعة الهمامة المتكونة من ثمانين فارسًا لأولاد عـزّي و الذين قـدموا من أجل أن ينضـمّ إليهم ؛ كما  علم أيضًا أن أولاد أمّ العقونة  و الحرازلية الذين اتبعوا [ منذ البداية] محمد بن عبد الله و ابن ناصر بن شهرة ينتظرون الفرصة الأولى للانفصال عنهما.
     هـكذا تحصل الجـنرال "ديفـو" على هذه المعلومات والتي تمكّن من جمعها من الدبيلة نـظرًا لقربها من الحـدود التونسية من ناحية، ولموقعها الهام الذي هو ملتقى الاتجاهات من ناحية أخرى، و المـلاحظة  البارزة هي أنـّـه لم يجمع إلاّ المعلومات المثبطة للمجاهدين و المشجعة للقوات الفرنسية حتى تمضي في زحفها و توغلها بالمنطقة.
      غـادرت القـوات الفـرنسية الدبيلة يوم 08 ديسمبر لتتوقف بـبـلدة البـهـيمة لتسقي بها دوابها و تنـاول بعض من التـمـر، وأثناء ذلك  قام الجنرال  " ديفو" بزيارة خـاطفة إلى قرية الـزقـم المتاخمة للبهيمة من  الناحية الشـرقية ، ليتعرف على أحـوالها  و يـزور  مـسـجـدها العـتيـق ،مسجدالعدواني ؛وبعد ذلك تـحـرك المـوكب إلى قـمــار ليخـيّم بها في الهـواء الطلق  يوم 09 ديسمبر ، وهناك وصـلت إلى الجنرال أخبار سـارة بالنسبة له مفادها أن الطوابير الأخـرى تتـحرك في الجـنوب لتحميه وتـسـيّـجـه من بـعـيـد ، لهذا اطمأن الجنرال و تـفـرغ لـتـنـظيم الإدارة المحلية، ولاحـظ أنّ الـقماريين يحـتـرمون القائد سي علي باي جـدًّا ، غير أنهم يـبـغـضـون خليفته بــوادي ســوف سي الـصـغـير بن ابـراهم ، لهذا عـزله الجنرال مع بعض الشـخـصيات الأخـرى منهم كبير الدبيلة وكبير قـمـار الذي فـرض عليه أيضـا عـقـوبة مالية ، لكنّ الشيخ المـرابط بالـزاوية [التجانية] سي الـعـيـد تدخل لصالح هذا الأخيرر(54).
      وبعد أن رتّب الجنرال أوضـاع قـمـار  ـ  حسب ما تقتضيه المصلحة الاستعمارية ـ غادرت القـوات الفرنسية المكان يوم 10 ديسمبر متوجهة إلى بلدة كـوينين ، التي اجتازتها بسرعة لتواصل سيرها إلى الــوادي ،الذي قضت به يوم 11 ديسمبر لتسوية بعض المسائل العالقة؛ و الجدير بالذكر هو أنّ سقوط الأمـطار الغـزيرة  بـســوف يومي 09 و 10 ديسمبر قد  لـبـّـدت الرمال بالطريق ، مما ساعد أفراد الجيش الفرنسي على السير بـسـرعة والوصول إلى مدينة الــوادي في أقـصـر مدّة ممكنة.
      وخـلال وجـود الجنرال بالـوادي ، تـلقى بعض الأخـبار تفيد أنّ سـلـمان بن جـلاب قد  سـُجـن بتـونس، لذلك فإن إشـاعات عـودته إلى تقرت واسترداد ملكه قد بطلت  ، غير أنّ الوثائق التاريخية  تـكـذب كلّ ذلك ، وتخـبـرنا بأنّ سـلمـان بن جــلاب قد حُـظي بحماية الباي ، من خلال الرسائل الـعديدة التي بعثها  إلى الباي محمد  الصادق وإلى الأمير الأول ووزير العمالة سيدي مصطفى خزن دار، يطلب فيها الحماية و الرعاية له ولأسـرته، والتي نـسـتشـفّ منها الود والتقارب بين الطرفين (55).
      كما علم الجنرال أيضا أنّ طوابير الأغـواط و البيـض تسير في الاتجاه المرسوم لها، وهي تحقق في أهـدافها التوسعية على أحسن ما يـرام،و تـدعم إنجازه بســوف، مما جعله يرتاح لضمّ هذا الإقليم إلى النفوذ الفرنسي في الجنوب .
      أخيرًا غــادر الطابور الفرنسي الــوادي يوم 13 ديسمبر ، بعد أنّ تـيـقّن " ديفو " من أهمية الإقليم في عملية التوسع الاستعماري بالجنوب ؛ وقد ارتاح لما لاحظه من  اسـتـتـبـاب الأمـن وكذلك الاستقرار الحاصل في سـوف، بعد مـرور سـنـة كاملة من بـسـط نفوذهم ،أي منذ ديسمبر 1854م؛ لهذا اتجه الطابور نحو تقرت ليـدخلها يوم 22 ديسمبر، و يلتحم مع طابور بوسعادة .
      ومن الأحـداث التاريخية البارزة في هذه الفترة هو لـجـوء الثائر اللـيـبـي غـومـة الـمـحمودي إلى وادي ســوف خـلال شهر ربيع الآخر 1274هـ خـريف 1857م ، لأنـّه ثار على الحكم العثماني في إيالة طرابلس الغرب ؛غير أنه فـقـد  معظم أنـصـاره في كل من لـيـبـيـا وتـونس ،وبـعـدما حاصرته السلطات العثمانية من كل مكان (56)، لم يجـد  الحمايـة والرعاية والـعون والدعم إلاّ من أهل ســوف الذين ناصروه و عـزّزوه وأكرموا مثـواه وعظمـوا منزلته وبقي مستتـرًا عندهم زمنـًا، لهذا أعـجـب  غـومة المحمودي بهذا الـمـوقف الـنـبـيل والـشـجاع ، فخـلّد تـواجـده بـســوف بتسمية أحـد أحـفاده  الذي ولد له  في ســوف من ابـنـتـه فـجـرة باسم " سـوف"  او" محمد سـوف"  الذي أصبح من أبطال لـيـبـيـا وفـحــولها الذين قاوموا الاحتلال الإيطالي لـبـلاده الشهيدة.
      و لم يطمئن الجنرال "ديفو" بوجود  غـومة المحمودي في سـوف ، فـأسـرع إلى الالتقاء به في مدينة الــوادي ، فرحب به شـريطة أن يلقي سـلاحه ، هو ومن مـعـه، والهدف من ذلك هو الحيلولة دون تقديم المساعدة إلى اخـوانهم الجزائريين الذين مازالوا ثائرين ضد التوسع الاستعماري، فاسـتـثـار هذا الطلب الشيخ غـومـة و رفاقه و رأوا  فيه  إهانة لهم ، وأبـت شـهـامتهم  القبول بهذا الطلب  فآثروا  الـعـودة    إلى بـلادهم .(57)
      ومن أجل مراقبة حـدود الجزائر الشرقية أراد الجنرال "راندون" (RANDON) الحاكم العام للجزائر تحديد هذه الحـدود ، حفاظا على العلاقة الطيبة التي تربطه بباي تونس (58)،فوضعت لها خريطة أولية في بـداية سنة 1857م لمعرفة المواقع وإيقاف الـمـدّ المستمر بين شعوب المنطقةو وضع حـدّ للتواصل والتكافل فيما بينهم، غير أنّ هذا المشروع لم ينفذ، ولم تضع أي معلم من معالم الحدود ،لأنّ تعديلات التحديد لم تتوقف، بل استمرت حتى بعد القرار المشيخي الذي يشتهر بإسم (SENATUS - CONSULTE) لسنة 1863م ،و تواصلت هذه التعديلات فيما بين سنـوات 1867 ـ1870م ،لأن حـدود العرق الشرقي بقيّت بدون تحديد واضح، خاصة جنوب شط الجريد.
      ومن أجل تهدئة الأوضاع بإقليم ســوف ، شـيـّـدت المصالح الاستعمارية على الاتجاهات الأربع  أبراجـًا للمراقبة، تـحـرس الـطرق والمسالك ،لحماية الـقـوافل و نـشـر السـلام والأمـن في ربوع ســوف، ومن أهم هـذه الأبـراج بـرج الحاج قـدور، وبرج مـولى الـقائـد ،وبرج فـرجـان وبرج بوشحمة .(59)
      وعلى إثـر مشـادات و مخاصمات بين صـفّ قمار و صـفّ تاغزوت ، قـدمت قـوات الـجنرال " لاكروا ـ فانبوا " (LACROIX - VANBOIS) إلى ســوف لـتـراقب  أهلـه وتـضـغـط عليه ليمتثل لأوامـر السـلطات الفرنسية من  جهة ، ثمّ إبعاد النّاس عن المشاركة في ثـورة 1871م للشيخين المقراني والحداد من جهة أخرى ، لأنها نشرت روح الكفاح وشجعت على الثورة المعادية للفرنسيين في الجزائر، لهذا أمرت السلطات العسكرية الفرنسية عائلتي ابن قانة وبوعكاز بتجنيد المقاتلين في صفوفهم،وأن يضعوهم حول الواحات لـصـدّ أي هجوم مفاجيء قد يقع. وفي نفس الوقت غادر علي باي تقرت نظرا لما يشعر به من خطر يهدده من جراء الأحداث والإضطرابات التي تعيشها ناحية ورقلة، بفعل ثورة  الثّائر و المجاهد الشريف بوشـوشـة(60)؛ وهذا ما جعله يضع عائلته تحت حماية الزاوية التجانية في قمار لأنّها تحظى باحترام  الجميع وحماية كلّ السـوافة ؛غير أن بوشوشة لاحق  عائلة علي باي و احتلّ سوف في شهر مارس 1871م لأخذ ها من قمار ،فقام بهجوم مباغت على قمار، في الرابع من ماي، أدى إلى مقتل ستين فردا من السكان المحليين وجرح مائة، ثمّ عاود الهجوم من الغد على الزاوية لكنه لم يفلح و ردّ على عقبيه، و رغم ذلك لم يـفـكّ عنهم الحصار،واستغاثت قمار بالحلفاء من القرى المجاورة، فواجه بوشوشة قوات كبيرة  من السوافة يوم السادس من ماي ، تراجع على اثرها عن الحرب ،مقابل عرض  عرضه عليه السوافة وهو تعويضه عن الخيول التي قتلت له خلال المحاربة،  فقـدّمـوا  له بعض الآلاف من الفرنكات ؛وغادر سـوف  فـاتّجـه  حينذاك إلى مدينة تـقـرت ، مع جماعته الفرسان
      وفي 13 ماي 1871م قدموا إلى تقرت أيـن استقبلهم السكان بكل حفاوة ،فبادروا بسجن الحـامية الـفـرنسية المتكونة من قنـاصة أهليين( القومية ) ،وكذلك أقارب  علي بـاي ثمّ قتلوهم بعد عدة أيام .(61)  وفي 24 جوان وصل علي باي إلى تقرت قادما من بسكرة مع بعض جنوده   لكنه ما لبث قليلا حتى تعرضت المدينة لهجوم مباغت من طرف قوات بوشوشة في 8 جويلية فردته قوات علي باي ،وعندما وصل بوشوشة على رأس عدد من محاربيه إلى المدينة المحاصرة في العاشر من جويلية، تفرقت قوات علي باي بسرعة ورجعت إلى منطقة بسكرة.
      وفي آخر ذلك الصيف استعمل فريق ابن قانة في سـوف (وهو تاغزوت وكوينين والزقم) علاقاتهم مع فروع الرحمانية في الجنوب التونسي للحصول على كمية كبيرة من البارود وعرضوها للبيع إلى بوشوشة؛ ولكن صف بوعكاز( وهو الـوادي وقـمـار و الدبيلة ) قاوم هذه الصفقة على أمل كسر احتكار الصف الآخـر لتجارة البـارود المربحة.وبعد منازعات في شـوارع تاغزوت أدت إلى جـرح أربعة وعشرين شخصا،أجـبـر باعة البارود على دفع خمسة وعشرين ألف فرنك إلى قمار وحلفائها، وهو المبلغ الذي دفع إلى بوشوشة في شهرماي وكتعويض على النهب وقتلى قمـار الذين مـاتوا في هذه المناسبة.(62)
      أعـادت السلطات العسكرية الفرنسية احتلال تقرت في آواخرشهر ديسمبر 1871م ، وقد اتهـم علي باي عائلة ابن قانة بانها كانت هي السبب في ضياع حكمه في تقرت  لأنها كانت على علاقة مع بوشوشة وساعدته في هجوماته على المنطقة ؛لكن السلطات الفرنسية فضلت تجاهل ذلك، وأبعدت علي باي إلى منطقة أخـرى.
      هكذا بدأت الأمور تسير نحو الحكم الفرنسي المباشر ،ففي شهر مارس 1872م دخل سـوف طابور فرنسي بقيادة الجنرال الفرنسي  " قاليفي " (CALLIFAT) وفرض غرامة من ألفي وأربعمائة رأس غنم وألف وسبع مائة جمل . وكان في رفقة الطابور الفرنسي أحد أبناء عائلة ابن قانة كمترجم ،وهو يأمل أن تؤول السلطة على تقرت إليهم بعد أن فقد علي باي ثـقـة الفرنسيين؛ولكن الجنرال " قاليفي " والسلطات العليا أصبحوا يفضلون الحكم  الـمـبـاشــر وأبعدوا العائلات الأرستقراطية الجزائرية،فأنشـأت السلطات الاستعمارية مـلـحقة بـتـقرت وأوكلت قـيـادة وادي ســوف إلى مـلازم الصـبايحية ، الـعـربي ممـلوك ، وهو إيطالي الأصـل ، اعتنق الدين الإسـلامي و أخـلص لدينه الجديد في البداية ، غير أنــّه طـغى    و تـجـبـّر وأزداد ظـلـمه للنـّاس بعد تـعـيـيـنـه في هذا المنصب  يوم 22 مـاي 1872م ، وتقول بعض الروايات :   " .. أنـّه سـار في النـّاس سـيـرة سـيـئـة  لا يرحم صـغـيرا و لا يـوقر كبيرا سـليط اللـسـان يـسـب الرفـيـع و الوضـيـع ، وقـصـد كبراء القبائل بالسـجـن من غير ذنب حتى أفـضـت النـوبة إلى المسمى حميد بن عبد الله بن حميد الجامعي،فربطه بـحـبـل في الإسطبل بين الخيل  و في عـشـيـة الـيوم ألـبسـه لـباس امرأة و أمـره بـرحي القمح مع الإمـاء السـودانيات ففعل…"(63)  فاغتاظ لهذا الصنيع وقد أضمر له الـشـر، وبعد زمن  يـسـير خـرج القائد الـعربي ممـلوك ومعه رجل من الــوادي يقال له الحاج عبد القادر و عَـبْـدٌ  أســود  و طفـلان ، وكان قد حـمـل معه مال الإتاوة ليوصلها إلى  بسـكرة ، فلما نـزل بمحل البليـدة القديمة بقرب سيف المنادي ، أتـاه حميد بن عبد الله مع أربعة  من  أصحابه ، فقـتـلوا الحاج عبد القادر أولا ـ لكي لا يفعل بهم شـيـئا ـ و منه ذهب حـميـد بنفسـه  إلى القائد العربي وهو نائم فـوقف  على صـدره فـأيـقـظه من نـومه ثمّ ذكّره بكل ما فعله معه  وبعد ذلك قـتـلـه ، و هــذا في شـهر نـوفمبر من سـنـة 1873م(64).           
      وفي هذه الأثـنـاء ، قـام الجنرال " لييبير" (LIEBERT) ـ الذي عوض الجنرال "لاكروا" على قسنطينة ـ بجولة بعد هذه الحادثة إلى وادي ريغ  و وادي ســوف الذي أراد أن يعـيـّـن به مكان الهالك العربي مملوك، خليفتين ، خليفة على الطرود وآخـر على أولاد ســعـود.
     لقد كان العربي المملوك جاهلا بنظام الحكم القبلي في سـوف،و لهذا عارضه أغلب أعيان  الإقليم،كما عارض هوأيضا تأثير الزاوية التيجانية في تماسين وقـمـار، واعترفت السلطات الفرنسية بأن تعسفات العربي المملوك في سـوف كانت أسوأ من المعدل  لهذا تجاهلت الخلفيات العميقة للقضية وعينت مكانه سي العقبي ،وهو صهر المملوك(أخو زوجته)،بلقب خليفة على سـوف،ولكن تأثيره كان ضعيفا،فقد كان معتمداً اعتمادا كليا على حمـو مـوسى الذي هو الرجل الإداري المحلي المحترف و الذي عيّـن كخليفة على الطرود كلهم. وكان حمو موسي أحد الزعماء السياسيين القلائل الذين بيدو أنهم لم يكونوا متورطين في المؤامرة ضـد العربي مملوك؛ وكان على علاقة طيبة مع زعماء التيجانية،ورغم أنّه لم يكن هو شخصياً تيجانياً، أما منافسه أحمد بن تـواتي فقد كان في هذه الظروف لايتمتع بثقة الفرنسيين باعتباره مشتبها في اغتيال المملوك.
      لم تمض إلاّ  سـنـة تقريبا حتى انقلبت الحظوظ السياسية ؛ ذلك أن سـعـيـد بن إدريـس أحد ضباط الصبايحية والذي عـيـّنـه الفرنسيون آغا على تقرت  وورقلة، قد ارتفعت مكانته السياسية عند الفرنسيين لما ألقى القبض على الثائر الشريف بوشوشة سنة 1874م ،وقدمه هدية للفرنسيين ؛ولذلك فعندما وضعت منطقة ورقلة الهائجة تحت الإدارة الفرنسية المباشرة، أعـطـي ابن إدريس منطقة سوف أيضا جزاء له،وكان معارضا للتأثير السياسي المـتـنـامي للتيجانية فسـارع بإحلال أحمد بن تـواتي محل حمو موسى ؛وكان ابن تـواتي قد عانى كثيرا بسبب إتـهـام زعماء التيجانية له باغتيال المملوك.
      ولكن احمد بن تواتي و زعماء التيجانية ـ عندئذ ـ رأوا  أنّه لا فائدة من الصراع المشترك،وخلال هذه السنوات استطاعوا أن يصـلوا إلى اتفاق صـامت يـحدد مجالات التأثير بينهما.
      وعندما  بـدأ حـمـو موسى ينشـط ضـد ابن إدريس قام هذا الاخير بضربة  مزدوجة ضـد كل من حمو موسى والتيجانية،و ذلك في شهرجويلية 1875م ،فقد اكتشفت كمية كبيرة من البارود  المهرب في الزاوية التيجانية بـقـمـار واعتقل حمو موسى لتورطه في التهريب؛ لكن احمد بن تـواتي  كان غير متحمس لهذا الحـدث ،وكان لا يريد الدخول في نزاع مع   حمو موسـى  والتيجانية في نفس الوقت ،لهذا عزله ابن إدريس من منصبه ، وعيّـن حمو موسى من جـديـد خليفة على الطرود (65).
      وفي مارس 1876م زار القائد  العسكري الفرنسي  لقطاع قسنطينة منطقة سـوف فاستقبلته عائلة ابن تـواتي بحفاوة، فأصـدر  هذا القائد  أوامره إلى ابن إدريس بأن يـتـبـع نصيحة احمد ابن تـواتي في كل المسائل الادارية.
      وفي هذه الأثناء كان العقيد الفرنسي في بسكرة مع ابن إدريس منزعجين كثيرا لتوصل القيادة العليا إلى إتفاق في شهر جويلية 1876م يجعل ضابطا أجنبيا على سـوف خليفة على الطرود، لكنه كان غير قادر على فعل أي شـيء بدون مساعدة حمو موسى أو من أحمد بن تـواتي ؛وفي نوفمبر 1876م اشـتـكـى ابن إدريس من تقارب حـدث بين هذين المتنافسين القديمين؛ وكان ابن إدريس عندئذ قد وصل إلى وضع جعله معزرلا عن كل الأشـخـاص المؤثرين والأعـراش في سـوف. وقد أعـلن الطرود عن نـيـتـهم في الهجرة إلى تـونس ، وظهرت اشـاعـات تقول أن بـاي تـونس سـيـعـيّن ممثلا عنه ليحكم سـوف بـاسمه مادامت  السلطة الفرنسية أصبحت كأنّها غـيـر موجودة؛ وكان الفرنسيون ما يزالون مترددين ،ولكنّهم عزلوا ابن إدريس بصفة نهائية بعد ذلك بسنة واجدة.
      ومنذ هذا العهد وضعت منطقة سـوف تحت الرقابة المباشرة للضباط الفرنسيين، يـسـاعدهم ثلاثة من الخلفاء المحليين ، لكنهم كانوا في الواقع لا  يفعلون  شيئـاً بـدون رضـى ومسـاعدة أحمد بن تـواتي أو حمـو موسى ، وبمرور الوقت تفطن الضباط الفرنسيون بالمنطقة بأنه لايمكن الاستغناء عن الزعماء المحليين. فبعد تـردد عاد الفرنسيون وعينوا أحمد بن تواتي وحمو موسى   بلقب قائدين على العرشين الرئيسيين للطرود ، وهي الوظيفة التي بقيا فيها إلى وفاتهما.
      في سنة 1881م اضطرب الأمـن في المنطقة بسبب العـدوان الفرنسي على تونس ،حيث عـزمت فـرنسا على احـتـلال القطر الشقيق تونس ، فكلّفت فيلق صغير بالحـراسة والمرابطة بالـوادي تحت قـيـادة العقيد "لونوبل" (LENOBLE) من الفرقة الثالثة للصـبـايحية ، ثمّ أمرته بالتوجه إلى الجـريد  فزار نـفـطـة و تـوزر ، وبعدها رجع الفيلق عن طريق  قفـصـة ونقـرين وخنشـلة ؛ وفي السنة الموالية (1882م) تمركز طابور آخـر مماثل بقيادة الـرائد   "فونتوبريد " (FONTEBRIDE) بالدبيلة، لجعلها نقطة للمراقبة متصـلة بنقرين ، و شـيّـد بها بـرجا للـحـراسـة بفـرقة ثـابتة حتى سنـة 1887م.(66)
      لم تـستقـر الـقـوات الفرنسية بالدبيلة  لأنّ  احـتـلال ســوف يقـتـضي  السيطرة على عاصمـة الإقليم وهي مدينة الـوادي ، فأُصْـدر قرار حـكومي ليوم 17 جانفي 1885م بإنـشـاء مـلـحـقـة بالوادي، فـانتقلت بعد ذلك الفـرق العسكرية لتتمركز بالــوادي ابتداء من 31 ماي 1887م؛وكان أول قائـد على طابور 1881م هو الملازم "ديبورتي" (DEPORTER) من المكتب العربي بـسـكـرة انتدب إلى سـوف ،وبطلب منه تحول إلى مصلحة الاستخبارات بتونس وتمّ تعيينه بالجـريد، فـعوضه الملازم "سشيري" (Schérer) الذي هو أول قائد لمركز الــوادى ؛ وقد خلفه النقيب "جانين" (JANIN) الذي يــعـدّ أول قائد  لملحقة الــوادي ، ثمّ عـوضـه النقيب " آبال فرجاس" (ABEL  FARGES) الذي شـيـّد ثكنة الوادي بجانب مكاتب الملحقة  ـ اللذين مازالا  قائمين إلى حـدّ الآن ـ وجمع بها ما تبقى من عساكر بالدبيلة.
      وبمقتضى القـرار الحكومي بتاريخ أول جانفي 1893م والقاضي بـإنشاء دائرة تقرت ، ارتبطت ملحقة الــوادي بها ، بعد أن كانت تابعة مباشرة ببسكرة ؛ورغم خلق إقليم الجنوب، حسب قانون 24 ديسمبر 1902م ،فإن ملحقة الــوادي لم يحدث بها أي تـغـيـير.
      تُكوّن ســوف بلدية أهلية مستقلة عن البلدية المختلطة بـتــقـرت ، ويقـوم بمهام جميع مصالح الملحقة القائد العسكري بالملحقة ونوابه الضباط ومترجم (67).
      وهـكذا توسع الاستعمار الفرنسي إلى سـوف ، بعد رحلة شـاقة وعسيرة دامت حوالي نصف قـرن ’ غير أنـه لم يهنأ لهم بها العيش   ولو لحظة واحدة في تلك الديار، حيث قاوم أهـل سـوف هذا الدخيل المحتل مقاومات باسلة وبطولية بدءًا بالفرق الأولىلمحمد الصغير بن أحمد بلحاج ،خليفة الأمير عبد القادر لرد العدوان على المنطقة،إلى متاريس السـوافة ، ثمّ رجال الإصـلاح الذين تصـدّوا  للفساد،ومن أهمهمّ الشيخ العلامة إبراهيم العوامر، الذي وقف في وجه مخطط الإدارة الاستعمارية بالجزائر، ضمن إرهاصات الحركة الوطنية الجزائرية في بداية هذا القرن ،حيت برز الشيخ العوامر على ساحة الـوادي كمصلح و مرشـد يـدافع عن حمى الدين واللغة العربية والفضيلة.
      ثمّ كانت ثـورة شيخ الزاوية القادرية بسـوف الهاشمي الشريف ،بسبب صدور القوانين الاستثنائية خلال الحرب العالمية الأولى، ومنها فرض التجنيد الاجباري على شباب المنطقة في شهر جويلية  1917م ، وكذلك فرض المراقبة المشددة على كل التحركات بالمناطق الحدودية الجزائرية الليبية. فانتقل الشيخ الهاشمي هنا وهناك بين القبائل الصحراوية يحرضها ضد الوجود الفرنسي، فكانت ثورة خلال خريف 1918م تعرف في سـوف بـ "هـدّة عميش "  ثم الهـدّة الثانية بقيادة ابنه عبد الـعـزيز الشريف  فنشاط الحركة الوطنية ،وتكوين خلايا الأحزاب ، وإنشاء فرع المنظمة الخاصة وشـراء السـلاح للثورة الكبرى، وأخيرًا مشـاركة المنطقة مشاركة فعالة في الثورة منذ الرصاصة الأولى، حتى تخلصت كل البلاد من الوجود الفرنسي في المنطقة بالاستقلال التاّم في جويلية 1962م.
 
 
الهوامش:
(1) H. JUS ,« Les Oasis du Souf du Département  de Constantine », in  Bulletin de l’Académie - d’Hippone, n° 22 -23,(1886 -88), p:70.                                                                                        
(2)- Ahmed  NAJAH , Le Souf des Oasis  ,ALGER, La maison des livres, 1971, p.32.
(3)- إبراهيم بن محمد الساسي العوامر ، الصـروف في تاريخ الصحراء وسـوف، تعليق جيلالي العوامر، الجزائر،الدار التونسية للنشر و الشركة الوطنية للنشر  والتوزيع  ، 1977، ص 38.
 (4)- عبد الرحمن بن خلدون،كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر،بيروت، دار الكتاب اللبناني للطباعة و النشر، 1959، ص:245.
 (5)-  André VOISIN , LE  SOUF , Monographie , Manuscrit , EL-OUED , 1965,p.4.
   (6)- دراسة ميدانية ، وممارسة يومية من خلال النخيل و التمور.
   (7)-صـحيح مـسـلم ، الجزء الثاني ، دار الفكر، بدون تاريخ، ص218 -219..
 (8)-NAJAH , Le  Souf des Oasis , p.27.                                                        
(9)-VOISIN, Le  Souf , p.25.
  (10)- Najah , op.  cit. , p.27.
 (11)- ZOUBEIDI (Hocine); (caïd des services civils à El-Oued), « Les Berbères Zénètes dans le
 Souf »  , in  Bulletin de liaison saharienne , n° 40(Décembre 1960 ) , p 334.
 (12)- محمد البشير الشنيتي ، سـياسة الرومنـة في بـلاد المـغـرب ، (146ق م ـ 40م)،الجزائر،1982،ص55.
(13)-الشنيتي، سياسة الرومنة ، المرجع السابق، ص:55.
 (14)- ESCARD (Médecin Major),   » Etude sur le pays du Souf » , in   Bulletin de l’ académie d’Hippone, (1888 - 1890), BONE, n° 24 -25 (1891), p.10 7
 (15) ـ العوامر ، الصروف، ص:114.
   (16)- نفسه ، ص:116 ـ 117.
 (17)ـ موسى لقبال ، المـغـرب الإسـلامـي، الطبعة الأولى، قسنطينة، مطبعة البعث ، 1969، ص: 84 -85.
 (18) ـ فاتفقوا على أن يجعلوها ملكة عليهم تحكم بينهم لما رأوا من رشدها وصلاحها ، فرضيت بذلك .وشيدوا بلدة على الجانب الشمالي الغربي من الوادي ، فغلب اسم الملكة على تلك القرية فصارت تسمى تَكسْبت وما زالت كذلك إلى اليوم و الجدير بالذكر هو أن هذه الرواية تختلف عن الـتــي ذكرت في البداية عن الملكة العرجاء "تيكسِي".ـ أنظر:   العوامر ، الصروف ، ص. 137.
(19) ـ نفسه ، ص .138 ـ 140.
 (20)- كتاب العدواني ، مخطوط: محمد بن محمد القسنطيني المسمى بالشيخ العدواني ،المكتبة الوطنية الجزائرية ، رقم :م/06 ، ورقة 3 ، كذلك نسخة أخـرى في ميـكرو فيلم ، عنوانها:كتاب محمد بن محمد بن عمر القسطيلي من عمالة الجريد المسمى الـعـدواني في التاريخ  ، م م 5072.
(21)-مخطوط ،تاريخ العدواني ، ورقة 8.
 (22) ـ العوامر ، الصـروف ، ص 160.
(23) ـ  محمد بن محمد بن عمر الـعدواني ، تـاريـخ الـعـدواني ، تقديم وتحقيق وتعليق أبو القاسم سـعد الله ، الطبعة الأولى ، دار  الغرب الإسلامي ، بيروت ، 1996،  ص:108.
(24)- الـعـوامر ،الصـروف ، ص 172.
 (25) ـ نفسـه ، ص181.
(26) ـ العدواني ، تاريخ العدواني ، ص: 110.
 (27) ـ العوامر ، الصروف ، ص217.
(28)- - Le Commandant CAUVET, «  Notes sur le Souf et les Souafa »  ,in  B.S.G. d’Alger, n° 137 (1934),p15.
(29) ـ عرف إقليم سـوف ثلاث طرائق صوفية هي : الزاوية الرحمانية بمدينة الوادي ،والزاوية التيجانية ببلدة قمار،والزاوية القادرية بالبياضة وعميش. ولكل هذه الزوايا فروع أخرى في بقية قرى سوف،تعمل كلّها على نشرالتعليم وحفظ القرآن الكريم.
 (30)- أبو القاسم محمد الحفناوي ، تعريف الخلف برجال السلف ، الجزء الثاني ، الجزائر، موفم للنشر(سلسلة الأنيس)، 1991،ص:231.
 (31)-Charles FERAUD,    » Les Ben - Djellab sultans de Tougourt, Notes historiques sur la province de Constantine », in Revue Africaine, n°26 (1882) ,pp.109 -110.
 (32) - PRAX,<< Touggourt,Le Souf >>, in Revue de l’orient et de l’Algérie,1848, TomeIV,p.129.
    (33)- A . BERBRUGGER, «  Projet d‘ Exploration  »- in  Extrait à la Bibliothèque Nationale , Alger, S.D.,8p. ا
 (34) ـ MAGALI - BOISNARD, Sultans de Touggourt, Paris,Libraire Orientaliste Paul Geuthner,1933,p.128.
 (35) ـ Nico Kielstra,   << The dicline of  tribal organization in the Souf (S.E.Algéria) >>, in Revue de l’Occident musulman et de la méditerranée,n° 45 -3eme trimestre, 1987,p.15.
(36) ـ Charles FERAUD, << Les Ben - Djellab… >> op. cit., p.113.
(37) - Nico Kielstra, << The dicline of tribal… >> ,op. cit., p.16.
(38) ـ Lettre de la division de Constantine(Cabinet n° 275) à monsieur le Gouverneur Général de l’Algérie,Constantine ,le 26 Juillet 1854. A.O.M.,1H.11.
(39) ـNico Kielstra, op. cit.,p.16.
 (40) ـArmée d’Afrique - Province d’Oran -  A M. le Gouverneur Général, Oran,le 23 septembre 1854, doc. n° 611, A.O.M. ,1H.11.
 (41) ـ Feraud , » Les Ben - Djellab… » op. cit. , p.115.
(42)- العوامر ، الصروف ، ص 247. أنظر أيضا:
MANGIN, « Histoire de Laghouat » , in  Revue Africaine ,n° 39(1895),(APPENDICE  III,Rapport sur le combat de Meggarin) ,p155. Voir aussi ,     
 MAC MAHON,MEMOIRES du Maréchal DE  MAC  MAHON ,Paris,Plon;1932.,   pp 256 - 257.
 (44) ـ Rapport sur le combat de Maggarin, livré le 29 novembre 1854 ,aux contingents réunis du Cheikh de Touggourt et de Chérif Mohammed ben Abdallah, in Revue Africaine,n° 39 (1895), pp.155 -159.
 (43) - العوامر ، الـصـروف ،ص. 247 ـ 248..
 (45) ـ رسالة من سلمان بن جلاب الى صاحب الجـلالة محمد باي ،الذي ورث احمد باي يوم 30 ماي 1855م ـ الارشيف الوطني التونسي ، السلسلة التاريخية، الملف 930،صندوق 78، خزانة 7.
ـأنظر أيضا: ـ MAGALI – BOISNARD , Sultans de Touggourt , pp.116-117.
(46) ـ Division de Constantine – Direction des affaires arabes – n°296, à M.le Gouverneur Général de l’Algérie, Constantine,le 16 Décembre 1854, A.O.M. , 1H.11.
 (47)-  CAUVET ,  << Notes sur le Souf…>>, op. cit. , p. 65.
(48)-   Rapport  sur  le  district - oasis  de  l’Oued - Souf ,S.D., A.M.G., H 227 .
 (49) ـ .FERAUD , op. - cit. , p.116
(50) ـDivision de Constantine - Direction des affaires arabes ,n° 46, à M. leGouverneur Général de l’Agérie, Constantine, le16 Février 1855,  A.O.M. , 1H.12.
 (51) Journal  de  marche et  des opérations militaires  de la colonne  du  sud dans la province de Constantine  pendant l ‘automne 1855. , Constantine , le 12  Janvier 1856.A.M.G.,H.227.    
(52) ـ      Journal de Marche et des opérations militaires…,  A.M.G. , H. 227 .
 (53) ـ  Journal de Marche …, A.M.G., H.227.
 (54)- Ibidem.
(55) ـ رسالة من سلـمان بن علي بن جلاب إلى صاحب الجلالة باي تونس محمد باي ، الأرشيف الوطني التونسي ، ملف 930 صندوق 78 خزانة 7.
 (56)- محمد امحمد الطوير ، مقاومة الشيخ غومة المحمودي للحكم العثماني في إيالة طرابلس الغرب ،(1835 ـ 1858)، طرابلس، منشورات مركز دراسة جهاد اللـيبيين ضد الغزو الإيطالي، 1988، ص.280.
(57)- نفس المرجع،ص.284.
(58) ـ رسالة من المارشال راندون والي العمالات الجزائرية إلى الحضرة العلية محمد بلشا صاحب المملكة التونسية،الأرشيف الوطني التونسي، اضمامة 384 ـ صندوق 223 ـخزانة 23 ـوثيقة رقم43.
 (59) ـVOISIN, op. cit. , p. 48.
(60) ـظهر بوشوشة ضمن جماعة المداقنة التي تأسست في إقليم تيديكالت عام 1869م ، ومعظمهم من الشعانبة الثائرين الذين دأبوا على اختراق الصحراء من وادي درعا غربا إلى نفزاوة شرقا ومن أدرار جنوبا إلى جبال عمور شمالا لممارسة القوة واظهار العضلات ضد الفرنسيين و على بعض القبائل المواليةالإستعمار الفرنسي وهذا منذ أن عرفت الجزائر مجاعة 1867/1868م فأطلق عليهم اسم " المداقنات"
والفارس الشريف  هو محمد بن التومي بن ابراهيم، ولد في بداية القرن التاسع عشر بقرية " الغيشة " بجبال عمور ، مارس الرعي في صغره فأكسبته الشجاعة والفروسية ،وتذكر الدراسات الفرنسية أنه دخل السجن بسبب السطو وأنه وقف أمام محكمة تأديبية بمدينة معسكر يوم 22 ديسمبر 1862م، وبعد سنة تقريبا فـرّ بوشوشة من سجنه ببوخنفيس واتجه إلى فيقيق ثم إلى تـوات حيث أخذ يجمع حوله الأنصار والأحلاف بعدما أعلن نفسه كشريف (مولى الساعة)فبايعه شعانبة المواضي في عين صالح عام 1869م وفي العام الموالي بايعه شعانبة ورقلة ،فتقوى أمره  وتشجع الأتباع لمبايعته في الواحات فانتشرت حركته واحتلى المنيعة ومتليلي وتقرت و حاصر الزاوية التيجانية المعارضة له في تماسين ولم يصل إلى أي نتيجة ، فرحل عنها إلى بلدة اعمر،وبقي في حركته الثورية ضد الفرنسيين والقبائل الموالية لهم ، ينتصر مرّة وينكسر أخرى  وقد أزره الثائر ابن ناصر بن شهرة وصاهره سي الزوبير بن بوبكر من أولادسيدي الشيخ وشخصيات أخرى كثيرة .وأخيرا وبعد معارك كثيرة جهز له الجنرال" لييبير" (LIEBERT)قوات كبيرة ومسلحة أحسن تسليح تحت قيادة السعيد بن ادريس وشرعت في ملاحقته ابتداء امن يوم 4 مارس 1874م حتى وقع بوشوشة أسيرا في يد بعج بن قدور أحد رجال القائد السعيد في معركة الميلوك جنوب عين صالح يوم 13 مارس ، وأقتيد هو ومن معه من المجاهدين إلى ورقلة ومنها إلى قسنطينة ثم قدم إلى المحاكمة وصدر ضده الحكم بالاعدام ونـفـذ فيه يوم 29 جوان 1875م بمعسكر الزيتون في ضواحي مدينة قسنطينة. أنظر:
LE  CHATELIER ,<< Les Medganat >> , in Revue Africaine ,n° 30 (1886),pp.39 -51. voir aussi:
Louis RINN,Histoire de l’insurrection de 1871 en Algérie,Alger,Jourdan,1891,pp.611 -643.
 (61)- Cauvet , op. - cit. , p.64
(62) ـNico - Kielstra,<< The dicline  of  tribal…>>, op. cit., p. 16.
(63)- العوامر، الصـروف في تاريخ الصحراء وسـوف، ص:249..
(64)- Cauvet , op. - cit. , p.64.  ـ أنظرأيضا:محمد المرزوقي ،صـراع مع الحماية،تونس،دار الكتب الشرقية،1973،ص.243.
 (65) ـ Nico Kiestra, << The dicline of tribal…>> ,op. cit. ,p. 16.
 (66)- Ibid., p.65.
(67)- Ibidem

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...