منْ أرْوع ما قرأْتُ اليوم
#إيدوغ العظيم#
بقلم: عبد العزيز غرمول
في قمة جبل إيدوغ، حيث مدينة سرايدي،
المدينة التي كانت تحفة، يمكنك أن تمد يدك وتقبض على ندف الغيوم المتصاعدة من
البحر فجرا، أو تتمدد تحت الشمس القريبة منك لاكتساب سمرة الجبال في فترة وجيزة…
هنا تفصح الطبيعة عن معجزتها الأبدية، معجزة التنوع الحيوي، لكنه التنوع الذي أضاف
له الإنسان بعضا من عبقريته، فحولها إلى شهقة إعجاب يفترُّ عنها ثغر عنابة الوضيء.
إيدوغ هو القمة الوحيدة في عنابة
التي ترتفع ألف متر على سطح البحر، ولكن ياللغرابة كي تصل إليها عليك أن تتسلق
إثنى عشرة كلم في طريق وعر وشرس…لكنك لن تندم أبدا لأنك تصعد إلى احتفال صيفي في
فندق المنتزه، حيث الحركة والألوان وصخب المصطافين، وموسيقى كي ني جي الحالمة،
وصفحة المسبح التي لا تعرف إن كانت امتدادا للزرقة السماء أم لزرقة البحر المسفوحة
تحت شرفتها… إنه احتفال جميل تضيئه ضحكات ناعمة وخدمات لطيفة وشرفات تطلّ على زرقة
الأبد.
دعوني أحدثكم عن هذا الجوهرة التي علاها
القدم، وتركت عليها الأعوام تجاعيد مرئية، الفندق من بقايا آثار سبعينيات القرن
الماضي المجيدة، بناه الرئيس الراحل هواري بومدين، وخصص له فيه جناح مطل على إبداع
طبيعي رائع، متوالية هضبات غابية تطل على المتوسط، استضاف فيه بعض كبار زواره من
الرؤساء العرب، ياسر عرفات وصدام حسين ومعمر القذافي وفيدال كاسترو… وآخرون.
لا يزال الفندق يحافظ على شخصيته
الرصينة، معمار موريسكي ممزوج بحداثة سخية، أثاث على موضة السبعينيات الصلبة المليّنة
بالانحناءات والأقواس، فضاءات خارجية مزدانة بالحدائق، وداخلية متميزة بالضوء
والرحابة… وهو في ذلك منسجم مع محيطه المديني الذي أصبح امتدادا جميلا له…
الفندق الذي هو عبارة عن مركب
سياحي، نصفه محفور في الجبل، ونصفه الآخر مواد مستلهمة من الطبيعة، تضيء ممراته
الطويلة فتحات كلسية زادته ألقا، به أكثر من مائة غرفة لا تشبه غرفة غرفة أخرى،
كلها واسعة وتطل على مناظر بحرية بديعة، بما في ذلك صالونات فخمة، وقاعات عديدة
للمحاضرات والحفلات، وأجنحة VIP مثيرة للاهتمام، وكثيرا ما
تجد على جدرانه صور مشاهير أو لوحات مشاهير أو حتى أشياء أثرية تزيده روعة وجلالا…
عندما وقفت في شرفة الجناح فكرت من في نهاية الأمر أعلى قامة جبل إيدوغ أم هواري بومدين، ونظرت بعيني الرئيس لأمجاده التي لا تزال بعد خمسين سنة تشهد على تحليقه في هذه الأعالي… ولا يزال الناس يذكرون اصطيافه بينهم وهو يصعد بمهابة تلك المائة متر الى ساحة القرية تحت دهشة الناس وخشيتهم وحين يصل المقهى يقول ضاحكا: واشكون يخلص قهوة… فيهبّ جميع من في المقهى لدعوته… لا يزال الرجل محبوبا حتى اليوم…
هناك ألف شهادة على جمال وعراقة هذه المدينة
الموضوعة كتاج على رأس إيدوغ. صفوف الأشجار الضخمة تنبئ عن مئات الأجيال التي مرت
تحت ظلالها، بيوتها التقليدية العامرة دوما بالكرم العنابي تحدثك عن معايشتها
لأجيال وأجيال، شوارعها التي تضوع فيها روائح الخبز والتوابل تكشف عن تاريخ عريق
لفنون الطبخ، ثم هذا الإنسان السرايدي الذي تسبقه ابتسامته هو الدليل القوي على أن
"المدنية" يمكن أن تولد على قمم الجبال.
في شوارع القيلولة تصطبغ المدينة
بلون الظلال، وتسدل سكينة صيفية على منازلها. لقد دخل الناس فترة الغداء وتركوا
لغتهم الخافتة على الأرصفة، هنا حذاء منسي على العتبة، وهناك سطل ماء معلق على غصن
شجرة متروك للطيور، وعلى مقبض الباب الخارجي تركت إحداهن شمسيتها البيضاء، وتمتد
يد في قيظ الظهيرة بصحن من بقايا طعام للحيوانات غير الأليفة، وعلى باب حانوت وضع
صاحبه ماء بارد للمارة كتب فوقه "صدقة جارية"، وهناك كرسي دائم في الظل
صالح لاستراحة العابرين… إنها لغة مسفوحة في أرجاء هذه المدينة الصغيرة من أناس
مباركين يلتقط المارة رموزها ومعانيها وهم يجوبون مثلي قيلولة المدينة فضولا
واستمتاعاً، المدينة التي كانت تحفة، المدينة الجوهرة…
غير أن أروع المناظر يفاجئك بها البحر، ذلك
البحر الذي يقع وراء هضبات غابية كثيفة من شجر الزان والفلين، حيث يمكنك أن تسبح
في أجمل الشواطئ الفيروزية، لا تسبح جسديا فحسب وإنما روحيا من فرط صفائه
وشفافيته… هذاالبحر نفسه وأنت تتأمله مساء من علو ألف متر ستشاهد بخاره الصاعد
باتجاه الأفق كدخان غليون عظيم ينفثه رُبان سفينة اكتشف الشواطئ الآمنة للتو…
سيكون الليل شتويا في هذا الصيف القائظ وانت
على كتف إيدوغ، وعلى الأرواح الشاعرة التي تجوب غاباته في ذلك الوقت المتأخر أن لا
تنسى البطانية كي لا تتجمد بردا.
نصٌّ
للكاتب الروائي عبد العزيز غرمول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق