كتب: بشير خلف
وصلتْني هديّةٌ جميلةٌ، ماتعة من الكاتبة الكبيرة، والروائية المُبدعة القديرة، والإعلامية الثقافية المُتميّزة، والناشطة الثقافية المُتألّقة: جميلة طلباوي..وصلتني روايتها التي صدرت أخيرا، الموسومة بــ :" كــنزة"
نصٌّ روائيٌّ من الحجم المتوسّط في: 126 صفحة. صدر عن دار " خيال، المرافقة، والرفيقة للأدباء الجزائريين.
رواية بقـدْر ما هي ماتعةٌ لروائية قديرة لها من النصوص الروائية الصادرة قــبْــلُ؛ فإن الرواية الجديدة صادمةٌ للقارئ الـنّـبِه، الباحث عن الأحداث، والوقائع التاريخية لتاريخ الجزائر المعاصر، خاصّة ما ارتكبه الاستعمار الفرنسي من إبادات جماعية، ومجازر، وتجارب كيميائية، في صحرائنا الجزائرية، قضت على الأخضر، واليابس، وعلى كل المخلوقات: إنسانٍ، حيوانٍ، نباتاتٍ.. ولا يزال الضحايا من الأبناء، والأحفاد يعانون إلى أيامنا هذه.
النصّ الذي بين أيدينا وثيقة تاريخية تُشخّص بشاعة سلوك الاستعمار الفرنسي، قبل الثورة التحريرية، وأثناءها في منطقة الساورة، خاصّة حينذاك في وادي الناموس،وبلدتي: "بني ونّيف.. والقنادسة."
النصّ الروائي فــنِّــيًّا وجماليا قدّمته الروائية جميلة طلباوي للمتلقّي، في: عشْر رسائل من خلالها تُحادث عبْر هذه الرسائل ولدها، فتكشف له عمّا يجهله من تاريخ بلاده الجزائر: تارات تُقدّم له معارف ومعلومات عن تاريخ منطقته، وبلاده، وما قام به الاستعمار الفرنسي في قالب حميميّ، مُشوّقٍ، وتارات أخرى تتساءل بحْثًا عن إجابات تُؤرقها:
« ــ تسألني يا ولدي:
ـــ لِمَ تغيبُ الشمسُ؟ ولِمَ يحُلُّ الظلام؟
..وأنا واجمةٌ أمامك لا أملك إجابة.. فأغرقُ في ظلام السؤال، والإجابة في شمسٍ تسطعُ من فكركَ، تتوهّجُ في عيّنيّك الواسعتيّن، كأنّي بهما تعيدان السؤال بشكْلٍ مُختلف:
ــ لماذا يحُلّ الظلام بعالمنا، لماذا يُقتل الصغار؟ ص: 15»
ـــ « روت لي كنزة كيف قتل جنودُ الاحتلال الفرنسي زوجها أمام عــيْـنيْها، وكيف سحبوها من شعْـرها، وأخذوها بعيدًا عن خيمتها ، اغتصبوها، ثمّ رموْها في حمادة لا يحُدُّها البصر. ص: 15 »
تراجيديا الإبادة الجماعية:
ورد في نصٍّ كتبه جنديٌّ فرنسيٌّ حارب في الجزائر في خمسينيات الفرن الماضي، ما يلي:
«كان أكبر مركزٍ للاختبار للأسلحة الكيميائية في العالم، باستثناء روسيا: اختبار المضلع كما يقول الخبراء 100كم طولًا يسيطر عليها الجيش الفرنسي، وكان في الصحراء الشمالية للجزائر بالقرب من مدينة "بني ونيف"، هذه القاعدة فائقة السرّيّة. ص: 07»
«كان يُسمّى" عام الشكاير" لأنّ الأموات كانوا بالمئات، فكانوا يوضعون في أكياس لدفـنهم، كلّ هذا نتيجة التجربة الكيميائية التي قامت بها فرنسا الاستعمارية في مدينة الأغواط عام 1852 فأبادت ثلاثة أرباع السكّان، وهي الأولى في العالم قبل هيروشيما، ونغازاكي. ص: 07 »
تـتحدّث الرواية عن الضحايا الأبناء، والأحفاد الذين يعانون من الإصابات الجسدية، والمعاناة المتواصلة محرومين من الحياة الطبيعية حتى الآن في بيئة صحراوية نتيجة التجارب على أرض يبابٍ فقدت فيها التربةُ مُسبّبات الحياة للإنسان، والحيوان، والنبات:
« أفتحُ النوافذ لتصفعنا زوابع الرمل ملتهبة ببقايا تجارب أسلحة كيميائية لا يتحدّث عنها العالَمُ، سكنت رحِم وادي الناموس في بلدتنا الصغيرة بني ونيف الواقعة في الجنوب الغربي الجزائري، ونفايات سموم خلّفها الاحتلال الفرنسي، وطواها النسيان كما طوى ذكريات أجدادنا، كانوا هنا ينصبون الخِـيَم من حولهم، قطعان الأغنام تجعل لحياتهم معنى آخر، وفي البراري كانت الغزلان الشاردة تصنع جمال المكان، لكنها لا يمكنها أن تطوي ذكرى" كنزة لالّة البنات" أجمل بنات القبيلة، وغصّة في حلْق التاريخ. ص:12»
« كما حزن سكانُ القرية للثعبان الكيميائي الذي استوطن أرضهم، وراح ينخرها في صمْتٍ. مات الزّرعُ، ماتت الغزلان وحتّى الثعالبُ، لم يبق لها أثرٌ في تلك الربوع؛ وما هي إلّا سنواتٌ قليلة حتى ظهرت أعراض السرطان عند خالتي الخادم، وعند زوجة أخيها، وعند ابنتها الصغرى؛ تساءل سكّان البلدة:
ـــ هل يكون الثعبان الكيميائي ينفثُ سُمّه ؟. ص:32 »
{شرَفُ جهاد ومُقاومة الكـنزات، والشُّرفاء}:
ــ كنزة الأمّ: الشهيدة، كنزة بنت الشهيد عمار المجذوبي.
ــ كنزة الابنة، كنزة بنت المجاهد السي عبد السلام.
ــ كنزة الحفيدة، كنزة بنت قـدّور البيّاع، الخائن العميل لفرنسا.
لئن حـفرت الروائية جميلة طلباوي عميقًا في الذاكرة التاريخية، وعرّت بشاعة الاستعمار الفرنسي، وتجرّده من الشعور الإنساني في منطقة وادي الناموس، ومدينتي بني ونيف، والقنادسة فـفي نصّها تحـدّثت بحماسٍ عن بطولات خارقة للمجاهدين، والمجاهدات أثناء الثورة التحريرية، والوقوف في وجْه الفساد، والفاسدين بعد الثورة.
(جمالية السّرد، وتقنية الأسلوب):
الاشتغال في الإبداع السّردي يُحتّم في بعض الحالات على الكاتب المبدع الخوض في دقائقَ حياتية إنسانية عميقة، ومواضيع راهنة حارقة، أو ماضية فــلـتت من أصابع الزمان غابت، وتغيب عن عيني الإنسان العادي في وعاء لغوي جذّاب.. في شعرية لغوية مُمتعة، وأداء تشكيلي جمالي.. فيعيد لها الكاتبُ المبدع ألقها، وحياتها، وقد تـتماهى هذه المنفلتة بما هو راهنٌ في النصّ.. فلكي نبدع سرديا، وشعريا، فإننا نُـنشئُ حدثًا أسلوبيا يتخطّى المعيار الكلاميّ السائد.
وهذا ما يلمسه القارئ في هذا النصّ السردي الروائي للمبدعة جميلة طلباوي الموسوم بــ " كنزة"
القارئ الخبير بفن السرد يتّضح له منذ بداية هذا النص، أن الفضاء الشعري الرّحْب للكاتبة جميلة لغةٌ، وأسلوبٌ، وبناءٌ فنيٌّ، كان مُتمدّدًا في النصّ.. صحيح أن الرواية لم تُكْـتب بتقنيات الشعر؛ لكنها في بعض المواقـف سُردت بلغة شعرية كـثيفة، جميلة، وبمفردات مثيرة تُحيل إلى أحداث جسيمة مُرعبة ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، لا يزال الشعب الجزائري الضحية يعاني منها، خاصة ضحايا التجارب الكيميائية.
كما أن التخـييل الخصب في رواية" كنزة" يجعل القارئ ينزاح إلى فـضاءات أخرى مُهمة لم تقُـلها الرواية مباشرة، وهي فضاءات حرية الإنسان المُقـدّسة أينما تواجد، ومتى تواجد.
وقد نجحت الكاتبة في سرْد الأحداث المأساوية، وجهاد، ومقاومة الشعب الجزائري أثناء الثورة التحريرية في مدينتي:" بني ونيف، والقنادسة، وبناء مشهدية روائية درامية تُحفّـزُ خيال المتلقّي ليستدعي كل مقومات الصمود، والتحدي، والمواجهة من خلال اللغة الرقراقة، والأسلوب المُشوّق، والعبارات التصويرية المُحفـِّزة للخيال.
{من جمالية الحكي في الرواية}:
«من قـصْر الطين العتيق العبق بالذكريات تلوح لك مدينة بني ونيف مُلْتفّة بهدوء يبعـث في النفس الطمأنينة، تبدو كما عجوزٌ متكـتّمة على أسرار، وحكايات يُـدمى لها الفؤادُ. في أحد أزقّته يقع بيتُ جدّكَ القديم، ألوذ إليه في لحظات انكساري، أو كُلّما غلبني الحنينُ. يتعالى صياحُ الدّيك، فتدُبّ الحياة في الأزقّة، والدُّروب، تفوحُ رائحة الخبز الشّهيّ من فُرْن الطين، ينضج مع الصباح.» ص:11
« وتسألني يا ولدي: ما الوطن؟ ما الوجع؟ ما الفجر؟ وما الشهيد؟
تنفجرُ الأسئلة في أزقّة الدبدابة، في الشعبة، وفي القنادسة نضالُ شعْبٍ يتوق للحرية، تقفز ذكرى شهيد المقصلة قيصري جيلالي.
{من شعرية النصّ}:
« وتسألني يا ولدي: لماذا الفراشاتُ أعمارهُنّ قصيرة، ولماذا لا تذوب ألوانهنّ على يدك الصغيرة حين تُمسكُ قبضتك عليها، وأنت تضحكُ ضحكتك البريئة.
الفراشات يا ولدي كائنات جميلة، تُـزيّنُ عالمنا، ولا تنتبه لعمرها وهي تحلِّقُ. تقترب من النور، وتبتعد، وقد تحترق. تُحلّقُ في الفضاء عاليا، تكون في كامل أناقتها، وهي تُداعب الأزهار، تنافسها عرش الرياض البديعة، ثم ترحلُ قبل أن يفتُر جمالُها.» ص:35
«الموْجُ يتلوّى يفلُتُ من قلْب البحر، يُعانِقُ الغيْمة المُتعبة من قيظ الوجع، يركل يومًا آخر، يفلُتُ من حلمي، ويُبْقي الغصّة تتدحرج في فنجان قهوتي، تُذيبُ السّكّر، وتُبقي لي بِضْعَ وهْمٍ يُربّتُ على خيْبتي.» ص: 09
«الموْجُ صاعِقٌ، يصعقُ لذّة الانتظار في قلبي، يصعق الدقائق في ساعةٍ فضّية توهِمُ مِعْصمي بامتلاك الزمن.
الموجُ يُوشْوِشُ لي بأُهْزوجةٍ قديمة، أمتطي الكلمات، وأجتاحُ اللّحْن الجسور، تــتْرى، تـتْبعُني أسرابُ النوتات، تسْتحِمُّ في شمس الصوت المحموم.. لا صوْتَ للموْجِ حين تُغـنّي الشمسُ .»ص: 09
المُحصِّلة
نصٌّ جميل ينضاف إلى مسار جميلة طلباوي الإبداعي المتشح بالإبداعية والجمال الفـنّي، الذي تألّقت فيه في مجموعة من الإصدارات الشعرية، والقصصية، والروائية.. مسارٌ نيّـرٌ في المشهد الثقافي الجزائري، والعربي؛ كما الإعلام الثقافي في إذاعة بشار منذ عقود.. ليباركها ربُّنا، ويوفّقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق