الأحد، 14 سبتمبر 2025

 

غزلُ النساء في الأدب العربي

     لا يجادل أحدٌ في وفرة الأبيات، والقصائد التي يتغزل فيها الرجل بالمرأة عبر العصور، وفي مختلف الأمكنة، وتعاقب الدهور، وقد شمل هذا النوع من الغزل فيما شمل تغني الشاعر بمحبوبته، وبما اتصفت به من صفات جميلة.

     لكن يكاد يُـجمع الكثيرون على قلة أبيات غزل النساء بالرجال، فدعنا ندلي بدلونا في هذا المجال، وندفع بفرسنا إلى هذا المضمار.

     في الجاهلية، والإسلام كان الشعر ذكورياً بامتياز، حتى ادعى بعض النقاد العرب أن إبداع الشاعرة العربية ظل طوال تاريخه متشحاً بالسواد، ومجللاً بالدموع والأحزان , منذ أن وقفت (نائحة بني سليم) سيدة الشعر النسائي العربي تـرثي أخاها في سوق عـكاظ.

     ويذكر الدكتور أحمد الحوفي في كتابه (المرأة في الشعر الجاهلي):

«أن الشواعر كن يحاكين الرجال الشعراء، ولكن أجنحتهن قعدت بهن عن التحليق في أجوائهم، حتى ليخيل إلى القارئ أن حواء العرب تظل معقودة اللسان، معطلة الحس، صماء الوجدان، إلى أن تقوم مناحة فتحل عقدة لسانها، وتتفجر ينابيع الحس في وجدانها.»

     كسرت ليلى الأخيلية شاعرة بني (عامر) هذا المنوال، فكانت من أهم شاعرات العرب المتقدمات في الإسلام. عاشت في الجاهلية والإسلام وشهدت العصر الذهبي للشعر في العهد الأموي، ولم يتقدمها أحد من النساء سوى الخنساء. توفيت سنة (85) للهجرة في منطقة (ساوة) في محافظة (ذي قار) في العراق, وهي في طريقها إلى (الري) في إيران. كانت فارعة الطول، أخاذة الجمال، دعجاء العينين، حسنة المشي، مبسومة الثغر. فاقت أكثر الفحول من الشعراء، وشهدوا لها بالفصاحة والإبداع، ومنهم (الفرزدق) الذي فضلها على نفسه، و(أبو نواس) الذي حفظ الكثير من قصائدها، و(أبو تمـام) الذي ضرب بشعرها المثل، و(أبو العلاء المعري) الذي وصف شعرها بأنه (حسـن ظاهره).

     نشأت منذ صغرها مع ابن عمها (توبة بن الحميـر) فعشقها وعشقته، ورفض أبوها تزويجها منه. أما قصة إنقاذها له بعد أن هـدر دمه فمعروفة: زارها يوماً فظهرت إليه من خيامها حاسرة الرأس، سافرة الوجه على غير عادتها ففطن لغرابة ذلك فهرب ونجا من الموت.

      مدحته وأشادت في خصاله حتى قال لها (معاوية بن أبي سفيان): ويحك، لقد جـزت بتوبة قدره. فأجابته بأنها مقصـرة بحقه ونعته، وقالت:

«أتـتـه المنايـــا حيــن تم تمــــامه

وأقصر عن كل قرن يطاوله

وكان كليث الغاب يحمي عرينه

وترضـــى به أشبالــه وحلائلـه

غصوب، حليم حين يـطلب حلمـه

وسـم زعاف لا تصاب مقاتله

       ناجزها أحد جلساء الحجاج بن يوسف الثقفي يوماً، وهو أسماء بن خارجة الفزاري، قصد إحراجها فقال بأنها تصف هذا الرجل (توبة) بشيء لا تعرفه العرب عنه، فردت ليلى: والله لو رأيته لوددت كل فتاة شابة في بيتك حاملاً منه، فكأنما فـقيء في وجهه حب الرمان لخجله.

     ولما كانت في سفر، مرت على قبر (توبة) وأبت إلا أن تسلـم عليه راكبة، وكانت بجانب القبر بومة، فزعت فطارت في وجه الجمل فجـفـل ورماها من فوقه على رأسها فماتت ودفنت جنبه.

 

شاعرات أمويات

      امتاز العهد الأموي بكونه العصر الذهبي للشعر عموماً والغزل خصوصاً، والعوامل التي دعت له، دعت أيضاً إلى قيام الغناء والموسيقى.

     وممن برعن في شعر الغزل في هذا العصر، أم الكرام بنت المعتصم بن صمادح، وهي من شاعرات القرن الخامس الهجري، فكانت تقول في حبيبها الذي كان أحد فتيان قصر أبيها:

ألا ليت شعري هل من سبيل لخلوة

ينزه عنــها سمـع كل مراقــــــب

ويا عجباً أشتاق خـلوة مـن غـدا

ومثواه ما بين الحشا والترائب

 

       ومنهن: بثينة بنت حبا بن ثعلبة العذرية, شاعرة اشتهرت بأخبارها مع جميل بن معمر وهو من قومها، توفي قبلها فرثته ولم تعش بعده طويلاً.

ومما قالته فيه:

«توعدني قومي بقتلي وقتله

فقلت: اقتلوني وأخرجوه من الذنب

ولا تتبعوه بعد قتلي أذيةً

كفـى بالـذي يلقـاه مـن شــدة الحــب

      ومما ينسب كذلك إلى ليلى العامرية صاحبة قيس التي عاشت في فترة خلافة مروان بن الحكم وعبدالملك بن مروان في القرن الأول من الهجرة في بادية العرب قولها:

«لم يكن المجنون في حالة

إلا وقد كنت كمـا كانـا

لكنه باح بسر الهوى

وإنني قد ذبت كتمانا

      ولها في المعنى نفسه:

باح مجنون عامر بهواه

وكتمت الهوى فمت بوجدي

فإذا كان في القيامة نودي:

من قتيل الهوى؟ تقدمت وحدي

 

شاعرات عباسيات

     وفي العصر العباسي الذي امتاز بازدهار الدولة وسمو شأنها ظهر لعـلية ابنة المهدي العباسي -أخت هارون الرشيد– ديوان شعر متعدد الأغراض. وكانت من أحسن نساء زمانها وجهاً وأظرفهن خلقاً وأوفرهن عقلاً وأدباً، ومن أشعارها:

ليس خطب الهوى بخطب يسير

ليس ينبيك عنه مثل خبير

  ليس أمر الهوى يدبر

بالرأي ولا بالقياس والتفكير

ونلاحظ هنا أن علية لم يمنعها حياؤها من البوح بمشاعرها، مع أنه كان يروى عنها أنها كانت أزهد الناس.

      أما الخنساء بنت التيحان فقد أحبت جحوش الخفاجي حباً عذرياً، وهي العاشقة القائلة:

إن لنا بالشام لو نستطيعه

خليلاً لنا يا تيحان مصافيـــــــا

نعد له الأيام من حب ذكره

ونحصي له يا تيحان اللياليــــا

فليت المطايا قد رفعنك مصعداً

تجوب بأيديها الحزون الفيافيا

      ومن شاعرات هذا العصر اللاتي اندفعن في تصوير الحب والشوق إلى مدى لم يبلغ كثير من الشعراء جرأته، الشاعرة عشرقة المحاربية التي جاهرت بحبها مع عفة الألفاظ حين قالت:

جريت مع العشاق في حلبة الهوى

ففقتهم سبقاً وجئت على رسلي

فما لبس العشاق من حلل الهوى

ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلي

ولا شربوا كأساً من الحب مرةً

ولا حلوةً إلا شرابهم فضلي

أما ابنة قبيلتها أم الضحاك المحاربية فكانت أجرأ, حيث كانت

 

     تحب زوجها حباً جماً ولكنه طلقها فأسرفت في تولهها فيه فقالت:

سألت المحبين الذين تحملوا

تباريح هذا الحب في سالف الدهر

فقالوا: شفاء الحب حب يزيله

لآخر، أو نأي طويل على هجر

      وهذه شاعرة عاشقة أخرى تدعى خيرة بنت أبي ضيغم البلوية، عشقت ابن عم لها، فعلم أهلها بذلك فحجبوها عنه، فقالت شعراً تصف فيه مرارة الهجر وشماتة العـذال وسـهد الهوى، وتدعو ربها وتلوذ به (سبحانه) كلما أحست ضعفاً، فهي عفيفة تـحب، وتـحب أن تبقى على عفتها والتزامها، فها هي تقول:

وبتنا خلاف الحي لا نحن منهم

ولا نحن بالأعداء مختلطان

نرجي يقيناً ساقط الطل والندى

من الليل بردا ليلةٍ عطران

نلوذ بذكر الله عنا من الصبا

إذا كان قلبانا به يجفان

ونصدر عن أمر العفاف وربما

نقعنا غليل النفس بالرشفان

 

      وهذه شاعرة عاشقة اسمها ضاحية الهلالية شعرها من أرق شعر الغزل، حيث تقول:

وإني لأنوي القصد ثم يردنــــي

عن القصد ميلات الهوى فأميل

وما وجد مسجون بصنعاء موثق

بساقية من حبس الأمير كبـــول

وما ليل مولى مسلم بجريــــــرة

له بعدما نام العيون عويـــــــــل

بأكثر مني لوعةً يوم راعني

فراق حبيب ما إليه سبيــــــــــل

 

غزل الشاعرات الأندلسيات

     ازدهر الغزل في العصر الأندلسي ازدهاراً قل نظيره، وقد ساعد على إذكاء جذوته عناصر مختلفة منها جمال الطبيعة، وغناها، والتحضر، والتقدم العمراني، والترف الاجتماعي والمادي، وكثرة مجالس اللهو، والشراب، والغناء، والسبي الدائم، الذي أرخص اقتناء الجواري والغلمان في أسواق نخاسة ورقيق ذلك الزمان.

      أما أهم أعلام الغزل في هذا العصر فالشاعرة حمدون بن زياد، ونزهون الغرناطية، وولادة بنت المستكفي، هذا وإن كان شعر ابن زيدون في (ولادة) أروع من أن يـحجب إلا أن اختيارنا من غزل (الولادة) به قد يكون أقرب إلى موضوع المقال.

      وهنا نتوقف عند موقف (للولادة بنت المستكفي) يبين مجاهرتها وجـرأتها في الغزل حينما صادف يوماً أن سمعت الشاعر ابن زيدون يلقي قصيدة فاستفردت به فطلب صورتها فأرسلت له الصورة ومعها هذه الأبيات:

ترقـب إذا جن الظــــــــلام زيارتي

فإني رأيت الــــــليل أكتم للســـر

وبي منك ما لو كان للبدر ما بــدا

وبالليل ما أدجى وبالنجم لم يسر

 

      وبعدما زارته قالت تودعه:

ودع الصبر محب ودعك

ذائع من سره ما استودعك

يا أخا البدر سناءً وسنا

حفظ الله زماناً أطلعك

إن يطل بعدك ليلي فلكم

بت أشكو قصر الليل معك

      والحديث عن شاعرات الأندلس مما أفاض فيه الباحثون والنقاد، لا يعود لكثرتهن فحسب، بل إلى اقتحامهن معظم فنون الشعر وأبوابه، وعن جرأتهن على طرق مواضيع لم تكن شاعرات المشرق ليجرأن على الاقتراب منها، فصارت الشاعرة تتغزل بالرجل كما يتغزل بها، بل وتتفاخر في ذلك.

     فقد اشتـهر عن الولادة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون أنها كانت تكتب بالذهب مفاخرة بأنوثتها على الطراز الأيمن من عـصابتها:

أنا والله أصلح للمــــــعالي

وأمــــشي مشيتي وأتيه تيها

وعلى الطراز الأيسر:

أمكـن عاشقي من صحن خدي

وأمنح قبلتي من يشتهيها

      كانت (ولادة) امرأة ذكية حاذقة متأدبة بالفنون والآداب قوية الشخصية، ذات جمال وذكاء طغيا على ثقافتها وأدبها.

     يقول بدر الدين الصديق صاحب كتاب (نزهة الأبصار والأسماع في أخبار ذوات القناع) عن ولادة:

«إنها كانت (سرية النفس شريفة الأصل لا تترك أحداً يتصرف في مجلسها ولا بالدرهم الفرد).»

     ولما قـتل المستكفي (416هـ - 1025م) انفلتت من القيود الأخلاقية والاجتماعية وجعلت دارها منتدى لرجال الأدب، وانصرفت إلى كثير من أسباب اللهو والطرب.

      لقد بلغ غزل المرأة بالرجل في الأندلس باعاً لم يـسبق من الحرية في المجاهرة حتى كن يجاهرن بعشقهن للرجال وبتغزلهن بهم من غير أن يخشين في ذلك لومة لائم وبدون رادع من خجل أو شيء من حياء، الأمر الذي ننأى عن سرده أو التطرق إليه في هذا المقال.

      وقد ذاع من ذلك قصصٌ كثيرة وشعر وافر، فقد أحبت ولادة بنت المستكفي الشاعر المشهور ابن زيدون وأحبها، وذكرت المصادر أنها كانت البادئة في طلب اللقاء به.

      ومن الشاعرات اللواتي جاهرن بالغزل بمن أحببن، الشاعرة حفصة بنت الحاج الركونية، التي كانت على علاقة عشق مع الشاعر أبي جعفر ابن سعيد، فقد تناقلت لها المصادر الأدبية كثيراً من شعرها الغزلي الرقيق، ومن ذلك قولها:

أغار عليك من عيني رقيبي

ومنك ومن زمانك والمكان

ولو أني خبأتك في عـيوني

إلى يوم القيامة ما كفانــي

     وكتبت له ذات مرة تقول:

أزورك أم تزور فإن قلبي

إلى ما ملتم أبدا يميـــل

فثغري مورد عذب زلال

وفرع ذؤابتي ظل ظليل

وقد أملت أن تظمأ وتضحى

إذا وافى إليك بي المقيل

فعجل بالجواب فما جميل

أناتك عن بثينة يا جميل

      ولما طمع أمير غرناطة الموحدي أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن في حبها، وقتل حبيبها أبا جعفر سنة (559 هـ/1198م) حزنت عليه حفصة حزناً عظيماً ولازمت لبس الحداد وجاهرت برثائه والبكاء عليه، فنهاها المؤمن عن ذلك فما امتنعت، فلم يجد بـداً من تهديدها فأبت وأصرت.

     ونلاحظ كذلك مما وصلنا من أشعار النساء الأندلسيات، أن منهن من كانت تترسم خـطى الشعراء من السلف في أساليبهم وصورهم ولغتهم وتعابيرهم، ومنهن من مال إلى الرقة والتجديد في التعبير واللغة والصورة والأسلوب.

      إن ما وصلنا من شعر نساء الأندلس يصلح شاهداً على ظروف المرأة الأندلسية وشخصيتها وطباعها آنئذ, ولكن لا بد من الافتراض أن كثيراً من النتاج الإبداعي للمرأة الأندلسية لم يصل إلينا بفعل ما أصاب التراث الأندلسي من تدمير وضياع، بل ربما بسبب تحرج بعض مؤرخي الأدب الأندلسي من إيراد أشعار تلكم النساء.

      ومن أمثلتهن نزهون بنت القلاعي الغرناطية (ت: 1155م) التي جاوزت أم الكرام في غزلها بالوزير أبي بكر بن سعيد وعشقها له حين قالت:

لله در الليالي ما أحيسنـــــــها

وما أحيسن منا ليلة الأحد

لو كنت حاضرنا فيها وقد غفلت

عين الرقيب فلم تنظر إلى أحد

أبصرت شمس الضحى في ساعدي قمر

بل ريم خازمة في ساعدي أسد

     تورد كتب التراث الأندلسي أخباراً كثيرة عن نزهون القلاعية وحضورها مجالس الرجال ومساجلتهم ومهاجاتهم، فقد كانت موصوفة بخفة الروح والطباع النادرة.

       ومن الأخبار الدالة على مخالطتها للرجال ومناكفتها لهم أنه روي أنها كانت تقرأ يوماً على أبي بكر المخزومي الأعمى فدخل عليها أبو بكر الكتندي، فقال مخاطباً الشاعر المخزومي الأعمى:

لو كنت تبصر من تجالسه...

وصمت المخزومي برهة يفكر، ولم يحر جواباً، فأجابت (نزهون):

.... لغدوت أخرس من خلاخله

البدر يطلع من أزرته

والغصن يمرح في غلائله

      وبسبب رقة طبع هذه الشاعرة وخفة ظلها فقد كـلـف الشعراء بمحادثتها ومراسلتها ومنهم أبو بكر بن سعيد، وأبو بكر المخزومي، وابن قزمان الشاعر وأبو بكر الكتندي، كما كانت تجالسهم وتهاجيهم بسلاطة لسانها.

 

شاعرات معاصرات

      نازك الملائكة شاعرة وناقدة من العراق، ولدت ببغداد عام 1923. نشأت في بيئة أدبية خالصة من أم شاعرة (سلمى عبد الرزاق) وأب شاعر وخال شاعر.

     أقرب ما لاح لنا من رائحة الغزل الصريح من مجموع (57) قصيدة لها، قصيدة بعنوان (ثلج ونار) وهي قطعة عتاب غليظ لحبيب، موشاة بكبرياء قل نظيره في البشر، صلد كالحجر:

تسأل ماذا أقصد؟

لا، دعني، لا تسأل

لا تطرق بوابة هذا الركن المقفل

اتركني يحجب أسراري ستر مسدل

إن وراء الستار وروداً قد تذبل

إن أنا كاشفتك، إن عريت رؤى حبي

وزوايا حافلة باللهفة في قلبي

فستغضب مني , سوف تثور على ذنبي

وسينبت تأنيبك أشواكاً في دربي

ثم ما تلبث أن تنهيها بهجمة عارمة وصفعة موجعة لهذا المتكبـر غير الآبه بها وبمشاعرها فتقول:

يا آدم لا تسأل.. حواؤك مطوية

في زاوية من قلبك حيرى منسية

ذلك ما شاءته أقدار مقضية

آدم مثل الثلج, وحواء نارية

      ولها:

عـد لم يزل قلبي نشـيطاً حالمـاً

يشدو بحبـك لحنه المفتـون

عـد فالكآبة أغرقت بظـلالها

روحي فليلي أدمع وشجون

عـد لا تدع نفسي يعذبهـا الأسى

ويعض فيها خافق محـزون

عـد فالحياة إذا رجعت أشـعة

ومشـاعر سـحرية وفتـون

 

      ولها العديد من التساؤلات الفلسفية المشروعة لإنسان ظل يبحث عن روحه ومستقره ووطنه حتى خـبت ذؤابة نوره وانطفأت شمعة روحه في قصيدة مؤثرة بعنوان (من أنا؟) لا مجال لذكرها مع قصائد الغزل.

 

 ولمي زيادة افتتانها وحبها وغزلها المنثور بجبران خليل جبران، كما كتبت له تقول:

من مي إلى جبران:

(... جبران! لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات، ينمّي الحب في أعماقهم قوة ديناميكية قد يغبطون الذين يوزعون عواطفهم في اللألأ السطحي لأنهم لا يقاسون ضغط العواطف التي لم تنفجر، ولكنهم يغبطون الآخرين على راحتهم دون أن يتمنوها لنفوسهم، ويفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة. ويفضلون أي غربة وأي شقاء (وهل من شقاء في غير وحدة القلب؟) على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.

ما معنى هذا الذي أكتبه؟ إني لا أعرف ماذا أعني به، ولكني أعرف أنك محبوبي، وأني أخاف الحب. أقول هذا مع علمي أن القليل من الحب الكثير الجفاف والقحط واللاشيء بالحب خير من النزر اليسير.

 كيف أجسر على الإفضاء إليك

بهذا. وكيف أفرط فيه؟ لا أدري.

الحمد لله أني أكتبه على الورق ولا أتلفظ به لأنك لو كنت الآن حاضراً بالجسد لهربت خجلاً بعد هذا الكلام، ولاختفيت زمناً طويلاً، فما أدعك تراني إلا بعد أن تنسى.

حتى الكتابة ألوم نفسي عليها، لأني بها حرة كل هذه الحرية.. أتذكر قول القدماء من الشرقيين: إن خير للبنت ألا تقرأ ولا تكتب).

     ومن المغرب العربي برزت لنا الشاعرة مالكة العاصمي- وهي شاعرة على قدر كبير من التمرس والأهمية الشعرية والثقافية والعلمية, إذا ما قيس شعرها بنبوغ شاعرات عربيات مهمات جداً مثل: ناهضة ستار، دولة العباس، سهام شعاع، خديجة ماء العنين، إكرام العبدي، عائشة البصري، سلمى الخضراء الجيوسي، وهالا محمد.

     ومن خلال بيان هذه الخواص نجد الشاعرة مالكة تعاتب نفسها وتعاقبها وتصطلي بنار نسغها وتتجرعه بصبر وإن كان نزغاً حارقاً مؤلماً، فلا بأس شرط أن يكون علاجاً ناجعاً للحب، ولكن هيهات لها ذلك!

وا حر قلباه ممن قلبه شـبـم

ومن بجسمي وحالي عنده سقم

مالي أكتم حباً قد بـرى جسدي

حتى تفجر كالنيران تضطرم...

وتتتابع تجليات الشاعرة بكل قوة مكشوفة وشجاعة لا تلوي على شيء:

      وقالت ثريا:

إذا كان هذا الدواء دوائي

كـلـيه إليا

متى جاء أخلو به

في خبائي

وأقتل خديه بين يديا

وأمتص من فيه خمرا حسيـا

فيصحو من السكر شيا فشيا

ولها من الشعر الفاضح أيضاً ما لا مجال للتطرق إليه في هذا المقال.

ولشاعرة الحرية فدوى طوقان دلو في الإفصاح عن مكنونات قلب فتاة صادفت رجلاً في طريق فأحبته، وتخيلت أنه فهم معنى نظراتها إليه فابتسم لها فعشقته، ثم راحت تسقي عشقها خيالاً حتى اتقدت جذوته واعتقدت أنه سيأتيها فانتظرته وظلـت...

    وظلـت تنتظره، ومع الانتظار اتقدت نار الشوق فيها ولم تجد من يرويها، فأذابت حتى الصخر:

تمضي وأمضي مع العابرين

وما بيننا غير نجوى النظر

وطيف ابتسامة على شفتيك

ووهج هيام بعمقي استعر

وقد هبط الليل حلو الغموض

خلوب الرؤى عبقري الصور

وماجت مع الريح خضر الكروم

مشعشعة ببياض القمر

وفاض الوجود شـعوراً وشـعراً

وذاب مع الوجد حتى الحجر

ولسعاد الصباح نقرأ من قصـيدة (أنت أدرى):

يا حبيبي لو فرشـت الدرب من أجلك زهــرا

وملأت الجـو أضـواء وألحـاناً وعـطـرا

ومددت الهـدب في غابة أحـلامك جـســــرا

ونسـجت الأمسـيات البيض للأشـواق وكرا

هانئاً يقطر طيباً دافئـاً ينبض ســــحرا

لبدا الكون لنـا من نفحـة الفردوس قـصرا

نحن فيـه وحـدنا للحـب أحرار وأســرى

المصدر: المجلة العربية السعودية

 

فَنُّ التارِيخ عند ابن خَلدُون… هل قرأنا المقدمة

 أم نكتفي بقراءةٍ عَجْلَى؟

     إن الغرضَ من هذا المقال هو عرضٌ مكثف لمكانة «المقدمة» لدى الغربِ وتشديدٌ على ضرورة تفحصها أكثر في البحوث الأكاديمية العربية. الألمان، مثلًا، لم يملوا، لمدّة أكثر من أربعة قرون، من دراسة الفيلسوف إيمانويل كانط، وتطوير أفكاره ونقدها، فلماذا لا يعتني العربُ بالمقدّمة فلسفيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا ولغويًّا؟

    موقفه من الفلسفة والعقل

     يقول الفيلسوف وعالم الدين الإسكتلندي، روبيرت فلينت:

«إن ابن خلدون هو أول كاتب طرح التاريخ بوصفه موضوعًا خاصًّا لعلم خاص.»

     ووفقًا لهذا الأساس، هل نعدُّه مؤسّسًا لعلْمِ التاريخ، أم لا ؟ قد تختلف الآراء حول هذه المسألة، ولكن أيّ قارئ نزيه لكتابه «المقدمة» لا يمكنه إنكار استحقاقه لهذا الشرف أكثر من استحقاق أي مؤلف آخر قبل فيكو».

     يخصّص روبيرت فلينت جزءًا من كتابه، «تاريخ فلسفة التاريخ: الفلسفة التاريخية في فرنسا وألمانيا»، للحديث عن ابن خلدون ومقارنته بغيره. فقد وجدَ فيه النموذج المثالي للسياسيّ الماهر والكائن الفاعل في المجتمع، فضلًا عن مهارته في الإقناع والتكيف مع الظروف؛ ذلك أنّ ابن خلدون طمح إلى التميّز في السياسة والأدب، ولم يلتزم بأيّ نظام ميتافيزيقي أو تأملي في كتاباته.

    خصص في كتابه: «المقدّمة» فصلًا كاملًا للبرهنة على عدِّ الفلسفة علمًا كاذبًا، وهي ليست خائنة لوعودها وحسب، وإنّما ضارة بطبيعة الحال؛ لأنها معادية للدين. وهو يعترف فقط بأنّ معرفة تاريخها له قيمة، وأن دراستها تعمل على شحذ الفهم المنطقيّ. وقد نُبرّر هذا العِدَاء بالسياق التاريخي والفكري آنذاك.

     ومع ذلك، فهو لا يُخفي تَأكيدهُ ضرورةَ ترسيخها من قِبل أولئك الذين لديهم أساس جيد في تفسير القرآن، والفقه الإسلامي.

      لطالما قدَّر ابن خلدون العلوم الإيجابية تقديرًا عاليًا، وهو الذي تقبّل تعاليم اللاهوت العقائدي بوصفه جديرًا بالثقة، وفقًا له.

      ويرى أيضًا الممارسة الحرّة للعقل في مجالات الدين والميتافيزيقا ضارة. ولأنه لم يتبع أيّ فلسفة، لم يحاول تفسيرها.

      ومن ثمّة لم يشكّـلْ نظريات تاريخية وحاول استنباطها مباشرة من الحقائق التاريخية.

     ومعرفته بها جعلته قادرًا على فهم موروث الشرق بعمقه واتساعه. وقد بَرَعَ ابن خلدون في تحليل الظواهر الاجتماعية وآثارها داخل المجتمع.

     هـدفُ ابن خلدون، بحسب فلينت، هو رفع التاريخ من مرتبة الفنّ إلى العلم. وهو الذي تتبع الروابط الحياتية بين الريف والمدن بوصفهما مهدَ الحضاراتِ، مُشدّدًا على التفوّق الأخلاقي لسكان الريف على سكن المدن. فعلى الرغم من فظاظتهم الشديدة في السلوك، فإنهم الأكثر شجاعة.

     ويعود ذلك، إلى استقلالهم الأكبر في العمل وإعفائهم من التنظيم الخارجي للسلوك البشريّ. ويتناول بالتفصيل طبيعة الحياة الاجتماعية في الصحراء؛ إذْ تَحتاج قَبيلة الصحراء إلى أن تكون قبل كل شيء مُــفعمة بالحيوية والأحاسيس المجتمعية. وهذا الشعور لا يوجد بقوّة إلا بين الأشخاص الذين تربطهم علاقة دم أو ما يعادلها.

     إلى جانب ذلك، تكمنُ ميزة ابن خلدون في رؤيته المُختلفة للتاريخ. يقول في «المقدمة»:

«واعلم أنّ فنّ التاريخ فن عزيز المذاهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية؛ إذْ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمَنْ يَرُومهُ في أحوال الدين، والدنيا، فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يُفضيان بمصاحبهما إلى الحق، ويُنكبان به عن المزلّات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمدَ فيها على مجرّد النقل، ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمنْ فيها من العثور ومزلّة القدم، والحيد عن جادّة الصِّدْق».

 

جاذبية القصة في الأدب والعلوم الإنسانية المعاصرة

       للسرد غواية، وقوى جاذبة تطلقها المخيلة؛ لتستثير العديد من كوامن الحسّ الإنساني، وتلتفّ كنسيج حريري رابط بين العقل والعاطفة؛ وبتحريضهما معًا ينتج لنا ما يسمى حقائق الوجدان ومستودع التجارب البشرية والذاكرة الثقافية.

     فمن أبسط التوصيفات، يشير مارك تيرنر: إلى أن الإنسانية قد ابتكرت اللغة إرضاءً لحاجتها إلى سرْد القصص.

      أما في الذهاب إلى أشد الأقوال مغالاة، فنجدها عند جيروم برونر في أطروحاته الثلاث: السرد يبني الواقع، وأن الهوية في تكوينها تعتبر بناء سرديًّا، والثالثة وهي المستفزة حقًّا عند وصفه للسرد بأنه يتيح لنا الحصول على نظرية للعقل.

      لهذا تخفف الباحثة في جامعة كولورادو ماري لور رايان من غلواء التضخيم في أهمية السرد، وتضعه في سياق عملي مقبول من حيث إن القصة ليست نتاجًا لبعض العمليات العقلية، لكنها مصدر قدراتنا على تحقيق هذه العمليات.

    إذن، فالسرد طريقة في التفكير تنهل مما وراء الوعي من رؤى، وبما يشبه أحلام اليقظة عند تجسيدها للانفعالات والعواطف؛ بما يربط النصوص السردية بالواقع.

     هذا ما يقرّب القصة من الشعر، بل يصح أن نطلق عليها أنها لون من «الشعر المتحجر»؛ يجاهد القاص - بحسب موهبته وخبرته - على تسييله وتوجيهه ليصب في نهر الحكاية العظيم. وذلك ما دعا بالراحل نجيب محفوظ استشرافها بقوله: إنها ستصبح «شعر الدنيا الحديثة».

 الحد الفاصل بين الحكاية والقصة

      حسم بوريس إيخنباوم الخلاف في الفرق بين الرواية والقصة؛ ليس من ناحية الموضوع، ولا من ناحية مدلول الطول والقصر، بل من ناحية البناء الذي يقوم عليه كل منهما.

     فالرواية تقوم على ثلاث مراحل: تمهيد، فتأزّم، فانفراج، أما القصة فنهايتها التأزم.

     لكن ماذا عن الفرق بين الحكاية والقصة؟

      من جانب آخر، ذهب جورج جون في كتابه «سلطة الحكاية» للتمييز بين الحكاية والقصة وفق الثوابت التالية: الموضوعية، والزمنية، والأسطورية.

     وفي تفصيل أكثر وضوحًا، يرى جوزبير أوبريت في بحثه المعمق عن الفروقات التي يمكن ملاحظتها بين الحكاية والقصة، أنهما تتبادلان التأثير فيما بينهما، فيمكن لكل واحد منهما أن يستعير سمات فنية من الآخر، وقد حافظا على ما هو مشترك وجوهري بينهما، من ناحية: التشخيص الملموس، والاقتضاب، والواقعة، والاستطلاع.

     وتكمن الفروق بينهما في أربعة محددات:

الأول، أن زمن الحكاية هو زمن الأسطورة المغلق،

أما زمن القصة القصيرة فهو زمن سطري ومنفتح وشاهد على عالم يفقد استقرارًا لا تعيه الذاكرة.

     والثاني، أن الحكاية تحيل على حقيقة قائمة، وهي بمنزلة نظام ثابت لعالم مغلق.

أما القصة القصيرة فهي عالم مريب ومتصدع وبحث في شؤون العالم والإنسان.

      والثالث، توظف القصة القصيرة شخوصًا من العالم المعيش. أما الحكاية فتجسدها الأنماط العليا.

     المحدد الرابع في رأي جوزبير، عندما تستثمر الحكاية العجائبي الذي يوفق بين المنطق فوق الطبيعي والمنطق العقلاني، ويجعل القارئ يقبل - دون تحفظ – حضور اللامعقول في الواقع. في حين تعتمد القصة القصيرة على الاستيهامي الذي يثير شك البطل والقارئ على حد سواء.

 القصة بين هاجس الخفوت ومعززات البعث

      عدا عن الرواية التي ما زالت تتمتع بحظوة لدى جمهور القراء، نشهد تراجعًا لحضور القصة القصيرة في مشهدنا الأدبي، وهذا ما كان مغايرًا لإشراقتها في القرن الماضي. عوامل عديدة أدت إلى هذا التقهقر، ومنها عاملان أساسيان أثرا سلبًا في سيرورتها، حسب ما توصل إليه الناقد جوزبيير أوبريت.

     الأول، هو عامل النشر؛ إذ تراجعت نسبة قراءة الصحف بسبب ظهور وسائل إعلامية منافسة لا تخصص إلا حيزًا ضئيلًا للقصة القصيرة، كما أن الناشرين لا يتحمسون كثيرًا لطبع المجموعات القصصية بدعوى انحسار دائرة قرائها وضعف مبيعاتها.

     والعامل الثاني، جمالي، ويتمثل فيما تسميه مارث روبير بإمبريالية الرواية؛ حينما استطاعت الرواية أن تتربع على عرش الحكي مستأثرة باهتمام الناشرين والقراء. وهذا ما أثر سلبًا في إشعاع الأنواع الحكائية الأخرى.

      ذلك التراجع في سيرورتها، كجنس أدبي، كان فقط وجه العملة البارز من المشاهدة، أما وجهها الآخر المزدهر والمتواري، فيمكن استنباطه والاستدلال عليه من خلال حضورها الجلي في كتب «تنمية الذات وتطويرها». وهو مسار مختلف جدًّا عن توجه تقاليد كتابتها الإبداعية الأدبية؛ فهي بين الحكاية كمفهوم، والقصة القصيرة كبنية.

     ارتقت القصة قليلًا في هذا النوع من الكتب عن سذاجة الحكاية وبدائيتها التي تفرقها عن القصة القصيرة الأدبية في بنيتها السردية، وتلتقي معها في متنها الحكائي .

     فأسلوب سردها في كتب تنمية الذات، قلما يأتي بالطريقة التي يمارسها كتاب السرد الأدبي؛ من حيث المبنى الذي يتصرف فيه السارد بالأحداث على غير تسلسلها المنطقي وتتابع الأحداث.

     لذا؛ نجدها تنتمي في غالبها إلى «المتن الحكائي» وفق تنظيرات بوريس توماشفسكي الذي تُسرَد فيه الأحداث والوقائع حسب النظام الطبيعي باتساقها مع الزمني والسببي. وصوت السارد فيها، دائمًا هو موكول «للراوي العليم»، بينما تتنوع الأصوات في القصة القصيرة الأدبية.

     أيضًا تنهج كتب الذات وتتشبه بتقنيات الحبكة الدرامية في القصص القصيرة، مثل:

المقدمة الدرامية، ونقطة الانطلاق، وتصاعد الأحداث وتأزمها، ثم هبوط مستوى الأحدث إلى انحلال الحبكة.

      هذا ما نجده من طبيعة لقصص «معظم» كتب تنمية الذات المعاصرة؛ التي احتلت فيها القصص نسبة وازنة من المساحة، حتى كادت تصبح في مجمل نصوصها بمنزلة «المتن»، وقواعد السلوك المثالية التي تمليها وتنظر لها تلك الكتب مجرد «حواشٍ». عن طريقها يمرر الكاتب رؤاه وأفكاره، كما هو التقليد العريق في تاريخيته وممارسته؛ يوم كان الحكماء والمتصوفة، ثم الوعاظ تالِين، يصنعون الحكايات؛ ذلك لمقدرتها العالية المثلى، وبما هو مأمول منها؛ كرافعة تنهض بالمقولات الوعظية، وتصلها بيسر وسلاسة إلى جمهور المستمعين.

      كان ذلك دورها دون الشعر الذي يمعن في إيحائه للمعنى دون تقريره. وخصوصًا، عندما يكون مترجمًا ينتمي إلى لغة وثقافة مختلفة.

     وللمثال، يمكننا الاستشهاد بالنصين التالييْنِ من الموروث الهندي، حيث يتقاطعان في الحكاية، ويفترقان في طريقة التعبير: شعر وقصة.

       ينشد الواعظ شمس الدين هذا النص الشعري في تبيان وجوب خروج الإنسان بذاته عن صخب الخطاب الجمعي، ووجوب اختطاط الفرد مسيره، وأن ذلك يتأتى له بفهمه العميق لذاته:

«نسي الأسد القرمزي شكله،

بين الأغنام، وظن أنه صار نعجة..

ولكنه فيما بعد عرف نفسه؛

حين سمع زئيره، وهو يحدث القطيع».

    هذا المقطع الشعري المترجم إلى العربية، لا يمكن فهم إشارته بتمامها، ولما يوحي به من معنى، إلا بالرجوع إلى أصل الحكاية التي يسردها هاينريتش زيمر في كتابه «فلسفة الهند»:

      يُحكى أنه كان هناك أنثى نَمِر على وشك الوضع، وذات يوم بينما كانت تصطاد في البَرِّيَّة، أتت على قطيع من الماعز، فطاردتهم، واستطاعت وهي في حالتها تلك اقتناص إحداها، لكن إجهاد الصيد قد أدخلها في عملية الوضع، واضعة وليدًا ذكرًا وتوفيت على إثره. ثم عادت الماعز الهاربة بعد أن علمت بزوال الخطر، وعند اقترابها من الأنثى المُتوفاة لاحظت الجرو الصغير فضمته إلى قطيعها.

     كبر جرو النمر بين الماعز معتقدًا أنه أيضًا معزة، كان ثغاؤه كالماعز كيفما استطاع.. رائحته مثلها وكان يأكل النباتات فقط. مجمل الأمر أنه كان معزة من كل الجوانب لكن في داخله كان قلب نمر ينبض. ظل الأمر يسير على ما يرام إلى اليوم الذي هاجم فيه نمر كبير القطيع وقتل أحد المَعْزِ، وفَرّ بقية القطيع بمجرد رؤيتهم للنمر الكبير. لكن بطل قصتنا النمر/ المعزة لم يَرَ داعيًا للهروب، وكان هذا مرجعه لعدم شعوره بأي خطر.

     كان النمرُ الكبير مخضرمًا في أمور الصيد، لكنه لم يكن في حياته مصدومًا كصدمته عند مقابلة هذا النمر الصغير، لم يكن يعي ما الذي جعل هذا النمرَ المكتمل رائحته وثُغاءَه وأحواله كافة كالمَعْز.

      أمسك النمرُ الكبير النمرَ الصغير بمنتهى الخشونة والفظاظة، ومن دون أدنى تعاطف من مؤخرة عنقه، وسحبه نحو أقرب جدول ماء وأراه انعكاسه على الماء، ولم يَعْنِ الأمر له شيئًا، وأخفق في أن يرى وجه الشبه بينه وبين النمر الكبير. ونظرًا لإحباط النمر الكبير من انعدام استيعاب الصغير، سحبه عائدًا إلى موقع صيده السابق، ومزق قطعة من لحم الفريسة، ودفعها في فم صديقنا الصغير.

      لنا أن نتخيل صدمة النمر الصغير وذعره مما يحدث. في البداية شعر بالغثيان وحاول لفظ اللحم النِّيء، لكن النمر الكبير أصرَّ أن يريه حقيقة نفسه (نفسه الحقيقية)؛ لذا تأكد من أن الصغير ابتلع الطعام الجديد، وحينما تأكد من ابتلاعه كله، دفع إليه بقطعة أخرى، لكن في هذه المرة كان أمرٌ ما قد تغير. لقد سمح النمر الصغير لنفسه بأن يتذوق اللحم النِّيء والدم الدافئ، وتناول هذه القطعة بتلذذ. وعندما انتهى من المضغ تمطَّع وللمرة الأولى في حياته القصيرة أطلق زئيرًا قويًّا- زئير نمر برّيّ «زئير الصحوة». بعدها، اختفى النمران معًا في الغابة.

     كما لاحظنا، فقد كان استيعابنا للحظة التنوير التي تشير إليها الحكاية أكبر مما يوحي به النص الشعري لشمس الدين. هي الومضة من الوعي «عندما نكتشف فيها أكثر مما نعتقد عن أنفسنا. هي اكتشاف أننا أخذنا هويات تعبر عن كينونتنا الجوهرية بشكل غير صحيح وغير كافٍ. إن الأمر أشبه بأننا كما لو كنا نحلم ثم استيقظنا فجأة من الحلم، ننظر حولنا مدركين أننا في واقع مختلف كلية عما كنا فيه»، هكذا علق على الحكاية هال ستون ويدرا ستون.

    القصة من جمال الماضي إلى إثارة المستقبل

       هكذا هي القصة، نسيج حريري يمتد إلى أبعد من حدود «الشرنقة»، وأفسح مجالًا من إملاءات توماشفسكي وجيرار جينيت. دودة قزها تغازل فراشات الأحلام الهائمة، والعواطف الجامحة. تختبئ معها داخل الشرنقة، فيغزلون وجودًا موازيًا للعالم المعيش. تستفزها الأفكار المجردة، ويبهجها كل شطح في الرؤى؛ عندما استضافت جداتها ذات يوم، الخرافة والأسطورة والمقامة… أما حفيدتها، فهي منشغلة حاليًّا بتهيئة الشرنقة؛ لاستضافة «الشات جي بي تي»، أو الذكاء الاصطناعي!

المصدر:

المجلة العربية السعودية 

 

 

السفر: الانكشاف والتجلي

       يقدم السفر كل الوعود بالتجديد»، واكتشاف الآخر»، وتغيير الجو والمناظر الطبيعية حيث تلتقي المتعة بالأمل في تعميق الشخصية، حاضرًا أصبح السفر ديمقراطيًّا بفضل الرحلات الجوية منخفضة التكلفة، وأصبح عُـرفًا اجتماعيًّا.

      ولكن في الوقت نفسه، لم يسبق أن واجه السفر تحديًا كهذا؛ سماءٌ تتقاطع فيها الطائرات، ودول استبدادية يمنحها السيّاح نوعًا من الشرعية، وأماكن مشوّهة، ووضعٌ استعماري يُخدَم فيه المصطاف، وشعور بالغثيان من المساهمة في صناعة الزيف، في وقتٍ اختفت فيه الأصالة.

      قد يكون السفر أمرًا يسيرًا، لكنه، في الوقت ذاته وبشكلٍ مفارِق، مستحيل. فهل علينا أن نظل في بيوتنا، محكومين بالألفة؟ وهل هذا هو الوقت المناسب للتوقف عن السعي نحو المجهول؟

      علاقتنا بالسفر تبدو مرآة دقيقة لعصرنا.

    تفكك جولييت موريس نرجسيتنا: لا جديد تحت الشمس، فالسفر كان مشكلة لمدة طويلة. ويميز كتابها على نحو خاص بين سؤالين متكررين: تحت أي ظروف يكون السفر وسيلة لمعرفة العالم؟ وهل هناك رحلة جيدة وأخرى سيئة؟

      يستند رفض الفلاسفة للسفر إلى نقد طريقة المعرفة التي تكمن وراءه. إن السفر يعني أن تثق في حواسك، وفي المقام الأول في نظرك، حيث يكتسب المسافر المعرفة من خلال عملية الاستقراء التي لا تحتاج إلى أدوات نظرية.

      لقد أوصى مونتين بالتدريب القوي للمسافر الشاب، ولكن عندما يواجه المسافر المجهول، فإنه يمضي دائمًا بطريقة المحاولة والخطأ في كل الاتجاهات، وأحيانًا بلا منهج. يقول كانط: «شكرًا جزيلًا للمسافر التجريبي البحت وقصصه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى معرفة متماسكة يجب أن يستعين بها العقل لتأكيد نظرية ما!» لماذا تسافر بينما يمكنك، مثل الرجل الذي لم يغادر كونيغسبيرغ قطُّ، قراءة قصص السفر؟ إذا كان هدف الرحلة هو معرفة العالم، فإن التأمل في قصص الآخرين يبدو أكثر عقلانية، وأقل خطورة؛ لهذا لا يزال من الضروري أن يكون هناك مسافرون. تطور المؤلفة «المفارقة الكانطية التي جعلت ممارسة السفر ضرورية ويمكن الاستغناء عنها. إن قراءة قصص السفر، واستخلاص معرفة المرء بالعالم من مؤلفين آخرين، يعني تصور إمكانية تجربة غير مباشرة للعالم، أي سفر عبر وساطة الآخرين».

     يعد البعد المعرفي للسفر أكثر إشكالية؛ لأنه يعتمد على القصص. وليس من المستغرب أن يحلل هذا الكتاب نصوصًا فلسفية إضافة إلى أعمال كُتَّاب، من شاتوبريان إلى نيكولا بوفييه. ومن هنا تبرز مسألة وجهة النظر، ومعها مسألة الخيال: فمهما كثرت الأكاذيب، فإنها تأتي من بعيد. تشير المؤلفة إلى أن المعارضة بين الفيلسوف والرحالة كانت قوية بالفعل في زمن بوغانفيل. فقبل أن ينتمي إلى هذه الفئة التي يكرهها مؤلف كتاب «مداريات حزينة»، كتب المستكشف: «أنا مسافر وبحار؛ وهذا يعني كاذب ومعتوه في نظر هذه الفئة من الكُتّاب الكسالى والرائعين الذين في ظلال غرفهم يتفلسفون بقدر ما تستطيع أن تراه العين، ويخضعون الطبيعة لخيالهم بشكل استبدادي».

     إن الشك في صحة روايات المسافرين في نهاية القرن الثامن عشر أفسح المجال للرحلة الرومانسية. وقد نقلت هذه الأخيرة الإشكالية من مسألة «صدق المعلومات المنقولة» إلى مسألة «صدق تجربة السفر» ذاتها. لقد شجبت الإثنوغرافيا، وعلى رأسها ليفي شتراوس، عجز المسافر عن ذكر أي شيء آخر غير التفاهات أو الكليشيهات. وتشير المؤلفة إلى أن التعارض بين المفكرين والمسافرين يضاعف التعارض بين الفلاسفة والكتاب. لقد تتبع فنسنت ديبايني، في كتابه «وداعًا للسفر» (غاليمار، 2010م)، هذه الديناميكية التاريخية التي قادت عالم الإثنولوجيا إلى التفوق على كاتب الرحلات. كان من شأن هذا النهج العلمي أن «يجرد» الأدب تدريجيًّا من إمكاناته المعرفية من خلال صياغة منهجية علمية متينة وكتابة مقابلة، كما كان من الممكن أن تدمر الإثنولوجيا سرد السفر كأداة لمعرفة العالم.

 

السفر الحقيقي والسفر الكاذب

      إن إدانة فائدة السفر تتداخل مع سؤال أخلاقي: سيكون هناك سفر جيد وآخر سيئ. هل يتمتع المسافر الذي يسير ببطء، وبالتدريج، أكثر من ذاك الذي يسافر على متن الطائرات في لحظات سريعة؟ تستكشف الباحثة، من منظور ظاهراتي، السفر سيرًا على الأقدام، بالقطار، بالسيارة، وبالدراجة… ومن خلال هذه الدراسة لطرائق تحرك الجسد، ينخرط العمل في نقد كامل للدوكسا «البديلة» أو «المضاد للثقافة» التي بموجبها تكون بعض الأسفار أكثر «أصالة» من غيرها. إنه سؤال تقليدي في المحادثات بين الرحالة في الأراضي البعيدة (…) حيث كان أحد الأشخاص يسافر سيرًا على الأقدام لمدة عامين، وآخر كان محظوظًا بما فيه الكفاية ليختطفه مزارعون لبضعة أيام، بينما آخر تناول «البَيُّوت» مع الأميركيين الأصليين الحقيقيين… إلخ. في هذا المعرض العظيم من الزخارف والأناقة المغايرة، هناك دائمًا مسافر أفضل منك. ونظرًا لكون جولييت موريس باحثة جادة، فقد امتنعت عن الاستشهاد بدليل السفر «مولفانيا»، وهو الكتاب الذي يمكننا أن نقرأ فيه الجملة التالية: «إذا لم تنم بين صندوقي قمامة في شارع سيئ في لوتنبلاغ (العاصمة)، فأنت لم ترَ مولفانيا». وباختصار، كلما اقتربت الرحلة من المغامرة، وبالتالي من المخاطر، وبخاصة خطر الموت؛ اقتربنا من السفر الحقيقي.

      ومن خلال تعديل مسألة السفر الحقيقي والسفر الكاذب، يبرز سؤال آخر: ما الذي يميز المسافر الجيد عن المسافر السيئ، أي المسافر عن السائح؟ وفقًا لجولييت موريس، يُعرَّف السائح بثلاث وصمات: «التعلق بالصورة (الفوتوغرافية خاصة)، وممارسة التخريب، اللجوء إلى الدليل». من فورنا، نتخيل نوعًا مثاليًّا من السائحين الغربيين من الطبقة المتوسطة، حاملًا عصا السيلفي في يده أمام إحدى الأهرامات، يركض نحو أول متجر للهدايا التذكارية. بدا نيرفال مختلفًا! من السهل إثبات أن فيكتور هوغو (الذي نصب نفسه مخربًا) أو شاتوبريان قد شاركا في هذه الممارسات، وهي ليست مخصصة بأي حال من الأحوال للسياح المعاصرين.

 

        يقف السائح أمام تراكم المواد (مدينة إلغين الإسكتلاندية ورخامها)، مركزًا على المناظر الخلابة والأثرية على حساب السكان المحليين. وعلى نحو أكثر عمقًا، يرغب في الهروب من المعايير الثابتة التي حددها المرشدون، ينجذب حتمًا إلى الأماكن غير السياحية… التي تصبح سياحية بوجوده فقط. يجد المسافر نفسه «أسيرًا لقيود مزدوجة، ومحكومًا إما بالتخلي عن الرحلة، أو أن يكون مجرد سائح. لنلخص الأمر بشكل مبسط بالقول: «إن السائح هو الوجه الآخر للمسافر»؛ السائح هو الذي لا يقوم برحلة حقيقية، والشخص الذي سيحدد علامات هذه الحقيقة ذكي جدًّا، كما يشير إلى ذلك عالم الأنثروبولوجيا جان ديدييه أوربان.

      وباختصار، فقد حلت العلوم الاجتماعية محل سرد السفر، وأصبح التمييز بين السائح والمسافر تعارضًا زائفًا. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المثير للاهتمام أن بعض الأشخاص يرون الأمور على نحو مختلف في أثناء السفر، ولكن بشكل خاص يرونها أفضل من الآخرين. لنـأخذ، على سبيل المثال، الروايات السياسية للرحلات الغائبة عن هذا الكتاب، ففي الأغلب تكون هذه لحظات مليئة بالوضوح أو العمى. عندما يسخر تروتسكي من «السياح الراديكاليين» الذين يسافرون عبر الاتحاد السوفييتي في أواخر عشرينيات القرن العشرين، فإنه يستهدف المثقفين الغربيين العاجزين عن رؤية ما وراء الأكاذيب التي تُقال لهم. على العكس من ذلك، تمكن بعض المسافرين، بسبب ثقافتهم السياسية أو انتمائهم الطبقي، أو كليهما، من إدراك حقيقة النظام، أو حقيقة البلاد، إذا جاز التعبير.

 تطوير أخلاقيات السفر

      لنتأمل كتابات كل من أندريه جيد أو بانايت إستراتي، اللذين تكشف قصص سفرهما الوجه الآخر للواقع. وفي المدة نفسها، كتب جورج دوهاميل رواية يشيد فيها بروسيا السوفييتية «رحلة موسكو»، (1927م)، بينما نشرت إيلا مايلرت رواية «بين الشباب الروسي»، (1932م) عن رحلاتها في منطقة القوقاز التي يسكنها البروليتاريون الودودون… أربع رحلات إلى الأماكن نفسها وفي الوقت نفسه. أربع قصص كتبت بلا شك بإخلاص متماثل. قال الأولان الحقيقة، فيما الآخران جانَبَاها. ونضيف أن جيد وإستراتي، اللذين لم يتبعا أي أسلوب آخر غير الأدبي، عرفا كيف يصلان إلى جوهر الأمور بدقة. ولنضف إلى ذلك أن جيد وإستراتي، وقد تجردا من أي أسلوب غير الأسلوب الأدبي، عرفا كيف يصلان إلى حقيقة الأشياء وبكل دقة.

      قد لا يكون هناك شيء اسمه رحلة كاذبة أو حقيقية، ولكن بعض الرحلات فقط هي التي تعطي لمحة عن الحقيقة. وبالتالي، فإن الواقعية هي الفكرة المركزية لمسألة السفر هذه. تحلل الباحثة مفهوم الغرابة، وترى فيه علامة على ما قد اختفى، وهو أمر خارجي بالنسبة لنا، ولكننا مع ذلك ندركه. تظهر الغرابة وتشير إلى «رحلة حقيقية»، لكنها دائمًا ما تكون في الماضي، عندما لم يكن هناك سياح بعد. إنه الزي التقليدي الذي ترتديه سيدة عجوز في إحدى قرى البلقان، أو مهرجان ديني كان قد استمر في عمق وادٍ إيطالي، والبقاء على قيد الحياة في عالم من المفترض أن يكون موحدًا بشكل متزايد. ومن هنا تأتي كآبة العديد من الرحلات التي ربما تبتلع فيها الكيلومترات للوصول إلى زمن مضى وأكثر نقاء، وبمعنى أدقّ نقيًّا من السياح.

     في ضوء ذلك، فإن أقصى ما يمكن أن نفعله، وفقًا لجولييت موريس، في قراءتها لكتاب ليريس «إفريقيا الشبح»، هو تطوير أخلاقيات السفر التي تبدأ بالاعتراف بالنقص الذي هو جزء لا يتجزأ من كل سفر. لذلك يجب أن نستمر في الانطلاق؛ لأنه لا يزال ممكنًا وقد يكون له بعض القيمة، لكن من دون أن يغيب عن بالنا حقيقة مفادها أننا سنتأرجح دائمًا «بين الخيبة والأمل المتجدد في القدرة على لمس شيء ما. أليست هذه الحالة -غير المؤكدة وغير المستقرة والهشة والمتحركة دائمًا- هي الأكثر حكمة ووضوحًا لأي مسافر؟».

  غزلُ النساء في الأدب العربي       لا يجادل أحدٌ في وفرة الأبيات، والقصائد التي يتغزل فيها الرجل بالمرأة عبر العصور، وفي مختلف الأمكنة، و...