قراءة في كتاب مؤانسات ثقافية..
للأستاذ بشير خلف
بقلم: شرادة الجيلاني
مدخل
يستوقفنا
الكاتب والمبدع بشير خلف عند وقفات فكرية ثقافية متميزة عن إبداعاته السابقة ،
وذلك من خلال كتابه الأخير الذي اختار له عنوان : " مؤانسات ثقافية " ،
وعبر هذا المصنَّف الفكري الجديد يبحر بنا الكاتب نحو الهوية وعلاقتها بالتاريخ
واللغة، والموروث الشعبي معرجا عن العلاقة بين الأسرة، والمدرسة في عملية التنشئة
الاجتماعية ، كما يطرح الكاتب سؤال الإبداع الأدبي ويلتقي مع أعلام ، وشخصيات
ثقافية جزائرية (محلية) مبرزا رؤيته
لمحيطه العام من خلال حواراته – ككاتب - مع الصحافة المكتوبة . ذلكم هو ملخص ما
قدم به الكاتب مصنفه الجديد .
وبشير خلف
الذي عهدناه أديبا وقاصا مبدعا؛ بل وممن تطوَّر على أيديهم الفن القصصي الجزائري
في مراحله الأولى ، فهو من الجيل المثابر لفترة السبعينات من القرن الماضي .
قدم
بشير خلف للمكتبة السردية في الجزائر خمس مجموعات قصصية كان لها تأثيرها على
الساحة الإبداعية، و بها عُرف كاتبنا ؛ إلا أن القارئ والمتتبع لإبداعه عموما
يلاحظ أن الكاتب – ومنذ مطلع القرن الحالي– قد توجه نحو الدراسات الفكرية، والبحوث
الثقافية ذات الطابع العلمي التأملي والثقافي ؛ منها خمس دراسات تتمحور حول العلم
والأدب والفنون والجمال ، وثلاث وقفات تأملية حاور فيها الكاتب الفكر والثقافة،
وهي الكتب الأخيرة التي تحمل العناوين التالية : "وقفات فكرية" – "مرايا"
– و"مؤانسات ثقافية " ، والكتاب الأخير هو محل نظرنا في هذه القراءة ..
مؤانسات ثقافية ...
كتاب "مؤانسات ثقافية" مصنف من الحجم
المتوسط يقع في 384 صفحة في طبعة جيدة من "دار الهدى" لسنة 2013 . قسم
الكاتب محتوى كتابه إلى ستة محاور أساسية، عالج فيها التالي:
(( الثقافة – الهوية – التربية – الإبداع الأدبي –
شخصيات وأعلام – حوارات مع الصحافة))
طبق الكاتب في دراسته لهذه المواضيع منهج
التوصيف، والتحليل، والتحجيج، وانعكاس النتائج المستنتجة على
التنمية البشرية، والارتقاء بالفكر الإنساني نحو البناء والتطور. ويمكن الوقوف على
محتوى هذه المحاور على الشكل التالي :
المحور الأول:
الثقافة.. مفاهيم وإشكالات: ينطلق فيه الكاتب من مقولة تمهيدية للكاتب الانكليزي "ماثيو
ارنولد" حول الهدف من الثقافة، ليقدم لنا تعريفا شاملا للثقافة ومكوناتها ،
متنقلا بين كبار المفكرين كـ:"مالك بن نبي" ورؤيته للثقافة ومفاهيمها،
مستعرضا لمفهوم الثقافة لدى بعض المؤسسات الثقافية الكبرى كمنظمة اليونسكو، لينتقل
بنا الكاتب بين أهمّ القواميس اللغوية، والمجامع العلمية التي تناولت مصطلح
الثقافة، وانجازاتها الفكرية والحضارية بأبعادها الإنسانية والتنموية، ليحطّ
الكاتب بنا الرحال في المجتمع الجزائري، متسائلا في عنوان بارز عن: أثر الثقافة في
الإنسان الجزائري ؟ ليواجهنا إثرها بجواب فيه الكثير من التشاؤم ! عندما يعرض للثقافة السلبية التي ينهل منها الإنسان الجزائري،
والتي هي وليدة القيم المادية الصرفة (ص23)
وإن كان الكاتب سيستدرك الأمر نسبيا عندما يعرض
لـ:راهن المشهد الثقافي الجزائري (ص25) عندما يسجل عودة العمل الثقافي إلى الواجهة،
وانسحاب الدولة من تأطير، وتكوين المجال الثقافي والطلاق مع الدائرة الإيديولوجية
خاصة بعد عودة الأمن والاستقرار للوطن، وهي مؤشرات إيجابية لبروز دورٍ مستقبلي متميز
للمثقفين في الجزائر. وتحت عنوان فرعي:
المثقف.. الراهن
والمأمول: يعرض الكاتب للنظرة القاصرة من طرف العامة للثقافة ،
ليطرح السؤال الجوهري : من هو المثقف ؟ لينتقل بنا الكاتب بين المعاجم العربية،
وبين المفكرين، والفلاسفة كالفيلسوف "الفرنسي لالاند" و"المفكر
اللبناني صليبا" ليصل بنا إلى أن المثقف ليس صفة مهنية، ولا رتبة أكاديمية،
بل هي نضال يتجاوز دائرة الاختصاص، تفسيرا لمنطوق الفيلسوف سارتر((..إنسان يتدخل فيما لا يعنيه ..(
ص 29)).وبحثا عن حقيقة المثقف، وتأثيره يطوف بنا الكاتب عبر الخارطة الثقافية
العالمية من " نعوم تشو مسكي" غربا إلى "محمد جابر الأنصاري"
شرقا إلى "ادوارد سعيد" وسطا ليصل بنا إلى أن المثقف الحقيقي هو الذي
يقرأ الواقع وينقده، ثم يعيد تشكيله عير أسئلة الوجود المقلقة، ناشدا التطور
والتقدم لمجتمعه .
وبسبب علاقة المثقف بالسلطة نعى كاتبنا المثقفَ
العربيَّ ! الذي استكان تحت المظلة الأيديولوجية ، أمّا في الغرب فإن مقولة
موت المثقف ليست صحيحة، لِكوْن المثقف هناك قد أدى دوره وترك آثاره، وفي المقابل
فإن المثقف العربي – حسب قول الكاتب- قد انتحر باختياره لمّا مدح الخليفة ومجّــد
عرش السلطة وراء جوائز البترودولار (ص38). في حين يفتقد المثقف الجزائري التجذر الاجتماعي، وكذا
وسائل التأثير؛ كما أن علاقته بالوظيفة (عامل لدى السلطة والايدولوجيا) تُعيق
حركيته وتَمَيُّزَهُ الاجتماعي.
كما يعرض
الكاتب للمشهد الثقافي العربي ليخْلُص إلى أن أزمة المثقف العربي من أزمة الأمة،
وأزمة الدولة القومية التي عانت الركود والتأخر والتبعية. وفي ربطه للعلاقة بين
الثقافة وتقدم التنمية انتقد الكاتب التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية خاصة
في ترتيبه للجزائر ، مقدما دلائل وأرقاما تعكس الحركية الثقافية خاصة في طباعة
الكتب، والتفاعل الثقافي بين الولايات ، كما ناقش الكاتب التناقض العربي في حركة
التنمية، وساند رأي الكاتب سليمان العسكري
الذي دعا في "مجلة العربي" إلى : " تنمية البشر قبل الحجر"،
وهي إشارة إلى تشييد الأبراج، والعمارات (بطرازها الأجنبي) في دول الخليج،
والمباني التجارية الضخمة، وما إلى ذلك ودعا إلى ضرورة التركيز على الإنسان لأنه
محور التنمية وغايتها (ص54).
وعلى
اعتبار أن الفساد هو كل اعتداء على حقّ المواطن، والمجتمع الذي يضمنه الدين
والقانون الطبيعي، والوضعي فقد أشار الكاتب إلى أن ثقافة المجتمع قد تُـــرسِّخ
الفساد، وأن الإعلام الحر هو الذي يفضح الفساد ، ويعرّي مرتكبيه (75).هذا الفساد
الذي يتخفّى تحت تبادل المصالح، وتشجعه ثقافة مجتمع تصف مغتصب المال العام
بـ:" الشاطر" على أساس أن ثقافة النصب، والاختلاس هي القاعدة! ليتساءل الكاتب مرة أخرى؛ لماذا الفساد عـــــمّ جسد المجتمع الجزائري؟
ليخلص إلى أن الثقافة
المجتمعية الواعية وحدها البديل (ص82). وفي معرض حديثه عن أهمية الرياضة، وأولوية
الأخلاق فيها ؛ أشار الكاتب إلى إمكانية أن تكون سفير سلام بدل أن تكون نارا
يؤججها مراهقون في إشارة إلى المقابلة الكروية بين الجزائر ومصر . كما دعا الكاتب
إلى ضرورة أن تسمو ثقافة التسامح في هذه الحالات ..
المحور الثاني:
الهوية.. الكينونة المركبة: يرى الكاتب في سؤال الهُـــوية
أنها مُجمل السّـمات التي تميز شيئا عن غيره شخصًا أو مجموعة ، أي الهوية الشخصية
أو الهوية الجمعية، ثم يعرض للهوية الإسلامية عند "محمد عمارة "،
والهوية بمعنى التفرُّد الثقافي ، والهوية عند "تركي الحمد":( مادامت
متركبة من عناصر فهي بالضرورة متغيرة )، وعند الدكتور "أحمد بن نعمان"' : (الشخص أو الشيء كما هو في
الواقع بخصائصه ومميزاته (ص99).ثم يعرض لنا الكاتب أهم مكونات الهوية : كاللغة
الوطنية، واللهجات المحلية – القيم الدينية والوطنية – العادات والتقاليد
والأعراف- والتاريخ النضالي للمجتمع ، وتفاعل كل هذه العناصر مع محيطها الإقليمي
والقومي والعالمي .
وعن سؤال الهوية كسؤال فكري مُــلحٍّ،
يطرح الكاتب أزمة الهوية ؟ وفي مقدمة الأسئلة الفكرية بل والمعرفية يطرح السؤال: من
أنـــا ؟ وما الذي يميِّزنا؟ بل ما وجه الاختلاف مع الآخر؟ ليستخلص الكاتب بأن :
لازال مفهوم الهوية يلفّه الكثير من الغموض، كما قد تكون الهوية أداة صراع ،
كالوضعية الكولونيالية التي عرفتها الجزائر. كما قد توظف الهوية من أجل أغراض
شخصية أو سياسية، كأن تكون بغرض الوصول إلى السلطة ، أو الحصول على مكاسب اقتصادية
أو سياسية؛ فيقع الصدام نتيجة العنف السياسي الذي قد يؤدي إلى العنف الدموي، كما
قد تتدخل أطراف خارجية في تجنيد أطراف داخلية بدافع حماية أقليات مظلومة داخل
البلد، وما يلحق ذلك من إضرار بالهوية الواحدة
التراث والهوية: يؤكد الكاتب على أن التراث هو
ركيزة أساسية من ركائز الهوية الثقافية، ولطالما كان التراث الثقافي للأمم منبعا
للإلهام ، ومصدرا حيويا للإبداع المعاصر ، والتراث هو تراكم خبرة الإنسان في حواره
مع الطبيعة ؛ إذ هو الذاكرة والبوابة على العالم باعتبار أن التراث الثقافي يكون
مصدرا تربويا، وعلميا وفنيا ذلكم أن تراكم الخبرات يكوِّن الحضارة وفقدان التراث
الثقافي يعني فقدان الذاكرة (ص108).
كما يقسم الكتاب التراث إلى : التراث
المادي الملموس – التراث غير الملموس ( الموروث الشعبي) كما يتناول مكونات التراث
الثقافي على أنها: التراث الشفوي- التراث المكتوب- التراث المبني- التراث المنقول-
المواقع الثرية القديمة - .
وعند مقارنته بين الغرب والشرق يؤكد
الكاتب أن الحاضر بوابة الإنسان الغربي للإطلال على الماضي، وبذلك يفصل بين ما هو
ثقافي، وما هو تاريخي؛ أما في الفكر الشرقي فإن التراث الثقافي جزء من الحاضر ،
نجد هذا في دول الجنوب بما في ذلك الشعوب العربية التي تؤكد على التواصل المعرفي،
والعودة إلى الينابيع كخزان حيٍّ لتجليات الفكر والأدب، والعلم للعصر الذهبي
الزائل (ص117)
التراث..هوية متجذِّرة: التراث هوية متجذِّرة في
اللاشعور- هكذا يرى الكاتب- إذ تتغذى الهوية القومية للإنسان العربي من التراث،
كما تتعلق بشدة بما يختزنه ماضيه من انجازات علمية وفلسفية وأدبية ، فهو ينتمي
كليا إلى تراثه ، ويتماهى فيه معنويا دون تحفظ ، بحيث يشعر بان تعلقه به هو امتداد
لتعلقه بتصوره للدنيا ، والكون وحتى لما بعد الحياة ، فيتخذ التراث بُــعْـدا
روحيا ونفسيا ممّا يجعله خارج دائرة التفكير، وداخل دائرة التقليد فالمساس بالتراث
غير وارد عنده ، وكذلك مساءلته.
الهوية والتاريخ: يؤكد الكاتب بأن الإنسان إذا أراد
أن يفهم نفسه وحاضره عليه أن يفهم الماضي ، وذلك حتى يكسب خبرة السنين الطويلة ،
والتاريخ صانع ومدعم للهوية فإن كان الإنسان صانعا للتاريخ فمن المؤكد أيضا أنه
نتاج لهذا التاريخ نفسه، لأن التاريخ نظام معرفي لازم الوجود الإنساني، وشارك الإنسان
في رحلته عبر الزمان، وتأثر بما جرى على الإنسان نفسه من تطورات خلال هذه المرحلة
الطويلة ، ليؤكد الكاتب على أن الهوية نتاجٌ لحركية التاريخ ، وهو صانع ومدعم لها
..
الهوية واللغة : ينطلق الكاتب من مقولة ابن
خلدون عن اللغة ومكانتها بين الأمم :((إن غلبة اللغة بغلبة أهلها..(ص135)) ليؤكد
أن اللغة هي التي صاغت أول هوية لجماعة في تاريخ الإنسان، لأن اللسان الواحد هو
الذي جعل من كل فئة من الناس "جماعة " واحدة ذات هوية مستقلة ، واللغة
هي سلطة الثقافة وركن الهوية الجماعية ، وما يصيبها من وهن يصيب الجماعة ، ويجعلها
تهاجر إلى لغات أخرى ، وغالبا ما تكون لغة المستعمر الذي خطط لاحتلال الألسن،
والعقول لضمان النفوذ والتبعية (ص136).
وبعدما يذكرنا الكاتب بان الحفاظ على
الهوية هو الحفاظ على التراث يؤكد بان اللغة العربية هي أقوى الدعامات، وباعتبار
أن اللغة هي إحدى مكونات الهوية ، فإن اللغة العربية هي من أهم مكونات الحضارة
العربية الإسلامية كونها متجذرة تاريخيا، ولم ينقطع استعمالها من الألسن الناطقة
بالضاد ، وساعد على استمرار هذا الوجود ذلكم التراث الأدبي العظيم وفي مقدمته
القرآن، المعجزة البيانية الخالدة التي كفلت للفصحى طول العمر.
ثم
يعرض الكاتب إلى ما قد نُــسميه بالغزو اللغوي، على أن الاستعمار في أيامنا هذه
يغزو بلغته ، ويعرض لنا الكاتب بعض الآراء لمفكرين عرب كابن منظور، وابن حزم، وابن
خلدون على أن عــزّة الأمة مرتبط بعزة لغتها، وكلما وهنت اللغة وهنت الأمة، ليخلص
الكاتب إلى أن الهزائم قد امتدت إلى لغتنا الجميلة! .
وفي تقريره لواقع اللغة في محيطها العلمي
عندنا يشير الكاتب إلى حقيقة مؤسفة ألا وهي إهمال اللغة العربية في البحوث العلمية
(ص151) ، ثم يعرض الكاتب إلى إشكالية اللغة، والهوية في الجزائر ويُــرجع أسباب ذلك
إلى أيام الحركة الوطنية والثورة، والصراع بين الدوائر الفرانكفونية، والدوائر
المعربة في دواليب النظام، ثم الابتعاد عن اللغة العربية الفصحى فيما بعد .
المحور الثالث:
التـــــــربية: يتساءل الكاتب
في الباب الأول للتربية عن العلاقة بين المدرسة والأسرة، ويطرح هذه القضية على شكل
قصة سردية ، تهدف إلى كشف الرؤية القاصرة - لبعض أولياء أمور التلاميذ- لدور
المدرسة ومكانتها التربوية.
وفي معرض
حديثه عن الأسبقية التربوية يُــقـرّ الكاتب بأسبقية الأسرة (( فتربية المدرسة هي
امتداد لتربية الطفل في المنزل. (ص178)) ليتساءل مرة أخرى عن غياب العلاقة بين
المؤسستين ، وإلى متى، وكلتاهما تجهل محيط الآخر كما يجهل أهمية دوره، ليطرح
السؤال العلمي . كيف نفعل العلاقة بين هاتين المؤسستين ؟ (178)
ويُــرجع
الكاتب الأولوية في التفعيل إلى المدرسة ، ولاشك أن الكاتب قد وظف – هنا- تجربته
الشخصية في رؤيته لهذه العلاقة، على اعتبار أن الكاتب "بشير خلف" كان
مربيا بالأساس، وهي رحلة الوظيفة في قطاع التربية والتي استغرقت أكثر من ثلاثة
عقود من حياته، قضى حوالي نصفها كمفتش في المدارس ومكون للمربين . لذا فعندما يحمل
الكاتب مسؤولية المبادرة في تفعيل العلاقة بين المدرسة والأسرة فمردّ الكثير منها
إلى التجربة الشخصية له ، وفي عنوان جانبي تابع للتربية يورد الكاتب التالي:
- بحثا عن القارئ الافتراضي: يمهد الكاتب لذلك بقول لـ:
"وليم جيمس" حول مجال القراءة ليؤكد بأن فعل الكتابة فعل فردي لا يتحقق
إلا بفعل ملازم له وهو فعل القراءة . ثم يطرح الكاتب أشكال العلاقة بين الكاتب،
والقارئ ليؤكد على معضلة جهل الكاتب لنوع قارئه، ومستواه الفكري والمواضيع التي
يرغبها ؟(182)
ثم يتناول الكاتب إشكال المطالعة وتراجع
المقروئية، وظاهرة العزوف عن القراءة حتى من المحتكّين بالتربية والكتاب كرجال
التربية عندنا ، عارضا لصور مؤسفة لتصرفات بعض الطلبة الذين يستنجدون بأساتذتهم في
تحرير رسائلهم الجامعية الخاصة بالتخرج(183).
وفي معرض
حديثه عن أهمية القراءة يستشهد الكاتب برأي "عباس العقاد":(( القراءة هي
التي تعطي الإنسان الواحد أكثر من حياة واحدة))، كما يستشهد برأي " الرئيس
الأمريكي الراحل جيفيرسون:(( إن الذين يقرؤون فقط هم الأحرار، ذلك لأن القراءة
تطرد الجهل والخرافة، وهما من ألدّ أعداء الحرية)) وعن حقيقة القراءة فإن الكاتب
يؤكد عن القراءة الواعية على أساس أن القراءة الحقيقية ليست مجرد تلقٍّ من الآخر،
بل هي عرْض وتحليل ونقد وتقويم ، فهي امتداد لفن الكتابة الذي يتصل بالمرسل، ليطرح
الكاتب سؤاله الآخر عن القراءة : لمن يكتب الكاتب ؟ ليظل الجواب معلقا بين جمهور
هلامي، وبين كاتب يريد أن يحقق ذاته بفعل الكتابة.
ـ من حقوق المواطنة: يلازم الكاتب بين حقوق المواطنة، والبيئة النظيفة ليطرح
في هذا الباب العلاقة المتبادلة بين البيئة، والأفراد على أن كلاهما يؤثر في نشاط
الآخر، كما لو كنا نعيش دورة بيئية متسلسلة كل عنصر فيها مرتبط بالآخر، فإن أي خلل
سوف يهدد استقرار التوازن الطبيعي ، ويحدث التلوث الفردي والجماعي ، ويلحق الضرر
بالقاعدة البيئية الأساسية للنشاط الاقتصادي وبالحياة نفسها ، ليعرض لنا الكاتب
مجموعة من العناوين الفرعية والأساسية لها علاقة بالبيئة مثل: ماهية حقوق الإنسان
البيئية – المواطنة والحق في بيئة نظيفة؛ مركزا على مساهمة المواطن ووعيه البيئي،
ليخلص إلى أن الثقافة البيئية عنصر أساسي من عملية التربية الشاملة، وأن المواطنة
هي قيم وسلوك راق، تتضمن التزامات أخلاقية واجتماعية تجاه المجتمع، والأمة يستلزم
أن يكون المواطن شريكا في الحفاظ على هذا المحيط (197).
التنشئة الجمالية: يرى الكاتب أن التنشئة الجمالية هي من فعل الإنسان
وحده، على أن ترافقه منذ الطفولة، وذلك من خلال علاقته بأفراد الأسرة، وتفاعله في
الحياة المدرسية، وكذا أهمية الكتاب
والفنون المختلفة، على أن تصبّ كلها في التربية الجمالية للإنسان، ثم يعرض الكاتب
إلى التربية الجمالية في الإسلام؛ إذ ينبغي أن يكون المسلم جميلا في مظهره، مثلما خلقه
الله في أحسن تقويم ، ودعوة الإسلام إلى الطهارة؛ بما في ذلك الطهارة الجسمية
والروحية، وما يترتب على ذلك من نبذ الفواحش، ومن تهذيب السلوك، وتطهير الحياة
الاجتماعية عامة.
وفي باب فرعي يؤكد الكاتب على أن التربية
الوجدانية تتصدر عملية التربية إجمالا(ص200) إذ تهتم
المجتمعات السليمة بتنمية وتنشئة الطفل من الناحية الصحية والنفسية، إلى جانب
النواحي الذهنية والروحية، لتتفاعل كلها مع التربية الجمالية ـ من الفنون المختلفة
ـ إذ هي التي ترقي الحياة وتهذبها، فهو يربط النشاط العقلي بالمهارات البدنية إذ
يصهرها في عمل إبداعي إنساني. كما يربط الكاتب بين التربية الجمالية وتنمية الوجدان،
إذ تؤكد التربية الجمالية على حقّ الإنسان في أن يكون أرقى إحساسا، وأرهف شعورا،
وأكثر تعاطفا مع الحق والخير والجمال.
وفي
حياتنا اليومية حيث يمنع الجفاء والرعونة وخشونة المعاملة والانعزالية والقلق
الفردي والمجتمعي، والعنف الذي يطبع حياتنا في هذه البلاد الجزائرية الجميلة. هذه
الظاهرة التي يرجعها البعض إلى المحن؛ نتيجة التعدي والغزو المتوالي؛ منذ بداية
التاريخ حتى مرحلة الاستعمار، وإلى الفتن الداخلية المتعددة وآخرها المحنة الأمنية
في تسعينات القرن العشرين (206)
المحور الرابع:
الإبداع الأدبي: بعنوان:الإبداع الأدبي..غواية التألق وسؤال الانحسار،
يمهد الكاتب في الباب الأول لهذا المحور بقول للمفكر الفرنسي" ريمون آرون"
وهو يقارن بين خطر الامتثال وخطر التماثل ، حيث يذكر الكاتب بان المبدعين
الحقيقيين هم المنتجون للثقافة والجمال، وهم الذين يبعثون روح الانتماء والخير
والأمل المتجدد، وعبر التاريخ قـــد دفعوا الثمن غاليا مقابل التنوير والنورانية،
لذا كانوا ، ولا يزالون ينالون كل الاحترام والتقدير.
وفي
مجتمعنا العربي فحتى وإنْ كان المبدع فارس القبيلة وناطقها الفذ فقد كان أيضا
الشخص الدوني المغضوب عليه، ولازال يفنى جوعا، ويموت حسرة ولا أحد يرثيه، ويبرر
الكاتب ذلك في عنوان جانبي على أن ذنب المبدع هو وعيه بحركية الزمن، وذنبه ـ أيضا
ـ أنه يمتلك فهم الماضي والوعي بالحياة، واستشفاف مكنونات المستقبل، وهو الذي يدفع
بالحجة كي ينسف بها كل ما هو مشوه، ويجاري سنة الحياة في تجددها،،وهم العاجزون.
بحيث يرى
الكاتب أن الإبداع نتاج العبقرية (ص211)، كما أن هذا المجد هو عصيٌّ، وطريقه محفوف
بالأشواك والأهوال والمخاطر.. ويُـقـرّ الكاتب في باب آخر بحقيقة أن الإبداع
الأدبي بخاصة لا يضمن أدنى القوت!! بحيث أن المبدعين العرب لا يضمن لهم إنتاج قلمهم ما يسدّ رمقهم،
وإن كان هذا ليس الخطر المهدد إذ أن: المبدع ليس بطنا يُـحشى فحسب!(ص215)، وكما
أن الخوف يأتي من الامتثال إذ هو السوط الأبدي في وجه المبدع . وهنا بدأت ولازالت
محنة الكاتب والمبدع حيث إرغامه على الذوبان في الأخر، وسحْق نزعة الحرية لديه (217)
الكتابة ذاك الفعل الإنساني الواعي: يؤسس الكاتب لِـكُـنْه الكتابة بمقولة للكاتب:بقطاش
مرزاق يزاوج فيها بين اللغة كمسئولية ، والشعور الديني كبوصلة وصولا إلى غاية
جمالية وهي الشعور بالروح الإنسانية ، فالكتابة عنده هي فعْـلٌ واعٍ في حركته مع
المجتمع يترجم أفراحه وأتراحه ويعايش المبدع قضايا عصره كفاعل وموجه.
وفي جوابه
عن السؤال الكبير لماذا نكتب؟ يجيب الكاتب: نكتب لأن شرْخًا في علاقتنا بالوجود قد
حدث، وفي محاولات الإجابة عن أسئلة الحياة واللغة وتورطنا فيها نكون قد حققنا نوعًا
من التوازن، لذا كان للعلوم وزنا، فهي المآثر الخالدة من الحضارات المندثرة، ولأن
الخالق حاور الإنسان عن طريق الحرف، وآية الصدق لكل نبوة هو أن يأتي الرسول بكتاب
سماوي، وبالكتابة يكون الفكر الملبي لحركة العقل المتطلع نحو الاكتشاف.
والكتابة
هي التعبير عن عجزنا الإنساني، وظروف واقعنا القاسية (220)، ويأتي السؤال مرة أخرى
لمن نكتب، بل من الذي يقرأ.؟ ويكون هذا السؤال مُحرجا في زمن سيطرت عليه الفضائيات
والانترنت! فالقراءة
وإنْ وجدت فهي للصحيفة اليومية لا غيرها!
وكجواب
عن سؤال افتراضي يجيب الكاتب بأن:
الكتابة عصية..غير مطواعة!! إذ لا تنصاع الكتابة في كل لحظة، لذا فهي مضنية ، وهي كذلك
عبْءٌ ثقيل ومسؤولية كبيرة، وحتى إن لم يعد للكاتب مكانته التي كانت له في السابق،
كما لم تعد له تلك المساحة الملائمة من الحضور ، حيث انطوى البعض، وسقط البعض الأخر
في تنظيمات مشبوهة وغريبة عن هويتنا وموروثنا، إذ نشاهد بعض الكُــتّاب ، وتحت
راية الحرية يتجرأ عن المقدسات الدينية ، ويستشهد الكاتب بجرأة " نوال
السعداوي" وبالموقف المعروف للكاتب الهندي( الإنجليزي ) "سليمان رشدي"،
ليصل بنا الكاتب إلى أن الكتابة مسؤولية أخلاقية ، ساردا لأراء بعض الكتاب منهم
"مرزاق بقطاش" و"محمد بوعــــزارة" و "الطاهر وطار"....
وفي عنوان
فرعي كبير يطرح الكاتب تساؤله:
هل حقا الرواية تحتضر؟ يمهد الكاتب
برأي الدكتور"عبد المالك مرتاض" حول مرتكزات الرواية وعوالمها (277)
ليؤكد الكاتب على أن الرواية، ومنذ نشأتها في القرن (18)قد استطاعت أن تستوعب حراك
المجتمعات، بما في ذلك ألامهم و أمالهم ، أحلامهم و طموحاتهم، فهل يشهد الغرب
الحالي موت الرواية كنتيجة لتراجع الجانب المتخيل منها لصالح الجانب العقلي
والواقعي ؟ وهل أصبحت الرواية حدثا عرضيا، وإيماءة بلاغية، كما يرى البعض ؟ وفي
هذا الاتجاه يصبّ رأي الناقد د/ حبيب مونسي: '' إن الرواية تعاني خطر الزوال
النهائي '' (229) .
الأدب لصيق الحياة : يرى الكاتب أنها محاولة للدفاع عن وجود الرواية وحيويتها،
ليطرح الكاتب سؤال مأزق الرواية! ليخرج بنتيجة متفائلة ومطمئنة عن واقع الرواية
وحيويتها، و قد سايرت كل المراحل، وهي الجنس الأدبي الذي يُــقرأ أكثر من الأنواع الأدبية
الأخرى، وعن راهن الرواية في الجزائر يؤكد الكاتب عن حركيتها وتواجدها واستيعابها
من طرف الأجيال المختلفة ، فهي الجنس الأدبي الأكثر إحتفاءا به في الملتقيات
الأدبية .
الأدب الإفريقي وغواية الانعتاق: يعرض الكاتب للأدب الشعبي مرتكزاته، ليؤكد بأنه المرآة
العاكسة لشخصية الأمم ، خاصة وأن البعض يحصره في الجانب المنطوق من الفلكلور،على
أنه الأدب المتداول مشافهة ، ثم يعرج الكاتب نحو المشافهة كوسيلة اتصال أساسية، إذ
كانت وسيلة التواصل الثقافي الإفريقي بالاعتماد على" الراوية " ليعرض لنا جوانب من
الأدب الإفريقي المرتكز على التراث الشفهي، والآداب المكتوبة بلغات بعض الشعوب
الإفريقية، ولاسيما في جنوب الصحراء الكبرى (238) حيث تبذل جهود حثيثة لجمْع
التراث الشفوي الأفريقي على الرغم من الصعوبات، والمعوقات المادية و المعنوية ، بما
في ذلك عدم وجود وحدة ثقافية أصيلة، على الرغم من الثراء الفني المتنوع؛ كالخرافة
والأسطورة والشعر والمسرح .. وهو ما لفت انتباه النقاد والباحثين ليرشح هذا الأدب
لجوائز عالمية لعل أهمها، حيازته على جائزة نوبل للآداب أكثر من مرة، إذ تحصل
عليها بعض الأدباء الأفارقة من دولتي نيجيريا وجنوب أفريقيا ...
يواصل
كاتبنا عرض الثقافة الإفريقية ليذكرنا بالتجارب المسرحية الأفريقية، ليقف عندها
مطولا من بداياته الأولى كفن شعبي احتفالي؛ إلى تصويره للواقع بشكل فني، معرجا عن
دور المسرح كوسيلة فنية وتوعوية ، وصولا إلى العولمة، والقضاء على النص المسرحي
بفعل الهجمة الإعلامية المعاصرة
أما عن المسرح
الجزائري ففي عنوان جانبي يطرح الكاتب : أزمة المسرح الجزائري! ويعدد أسباب
ذلك ، بما فيها عدم استقرار المسرح في حد ذاته، وتأثره بالأزمة السياسية والأمنية
ورحيل عمالقة المسرح الأولين خاصة: مصطفي كاتب، وكاتب ياسين، وعبد القادر علولة،
وغيرهم (251). ثم يعود بنا الكاتب إلى
المسرح الإفريقي وبشيء من التفصيل، كبداية نشأته بحيث يرى الكاتب بأنه سابق للمسرح
الأوروبي .
كما انه
مسرح غير نخبوي يشارك فيه الجمهور كطرف أساسي أحيانا ، ليعرج بنا الكاتب إلى واقع
هذا المسرح بعد رحيل الاستعمار الأوروبي من إفريقيا حيث يحاول البعض بعثه من جديد
بالعودة إلى أصوله الأولى؛ كعودة الأنماط القديمة للمسرح، واعتماد لغة أو لهجة
المسرح التقليدي؛ بما في ذلك الفنون الشعبية كمورد ثري وأساسي للنص المسرحي
الإفريقي. أما المسرح الإفريقي المعاصر فيصفه الكاتب بالمسرح النخبوي، فبعدما انطلق
كمسرح اجتماعي أصبح الآن يعالج المواضيع السياسية ، وعن معيقاته عموما يذكر لنا
الكاتب أهمها مثل: تعدد اللغات واللهجات، وتراوح لغة المسرح بين اللهجات المحلية (المحدودة
الانتشار) وبين الكتابة باللغات الحية (الموجهة فقط للنخبة).
المحور الخامس: خصّص الكاتب هذا المحور لشخصيات وأعلام محلية عرفت بمواقفها
الإصلاحية والفكرية ،التربوية منها والدينية، وبمواجهتها الصلبة لسياسة الاستعمار،
وذكر الكاتب أربعة رجال أصحاب أقلام ومواقف ؛ شخصيات نضالية هي أصيلة " مدينة
قمار" من ولاية الوادي وهم :
الشيخ العلامة عبد القادر الياجوري(1912-1991) رجل زيتوني التكوين ، مجاهد ثوري وخطيب بليغ
، رجل دين وإصلاح ، شاعر وناثر من رجال جمعية العلماء المسلمين، مارس التعليم في
مدارس الجمعية، سجنه الاستعمار، لنضاله ومواقفه، كما مارس عليه الرقابة القضائية،
واصل مهنة التعليم بعد الاستقلال..لازالت آثاره لم تنشر خاصة ديوانه الشعري
الشيخ العلامة محمد الطاهر التليلي: (1910-2003) أخذ العلوم الأولى على شيوخ "
قمار" ثم التحق بجامع الزيتونة، ونظرا لمواقفه الوطنية عانى الكثير من تسلط
الاستعمار، كما تنكر له البعض من محيطه الاجتماعي ، مارس التعليم الثانوي بعد الاستقلال
، عُــرف بمؤلفاته المتعددة، والتي طبع منها- لحد الآن - خمس مؤلفات تحت إشراف
الدكتور المرحوم ابوالقاسم سعد الله.
الشيخ علي بن ساعد(خيراني):(1907-1974) متحصل على شهادة التطويع من جامع الزيتونة،
مارس التعليم في مدارس جمعية العلماء أصدر "جريدة الليالي" بالعاصمة سنة
1936، رافق الشيخ عبد العزيز الشريف في نضاله ، عُــرف بمعاداته للسياسة
الاستعمارية، سُجن لفترة في كل من سجن "الوادي" و"قسنطينة"،
بعد الاستقلال واصل رسالة التعليم في العديد من المدارس الثانوية ...
الشيخ عمار بن لزعر:(1898-1968): من خريجي الزيتونة ـ أيضا ـ وبشهادة
التطويع ، عاد من تونس ليمارس التدريس "بقمار"، هو أحد مؤسسي جمعية
العلماء المسلمين ورئيس شعبتها بالجنوب،عرف بمواقفه الإصلاحية وبمجابهته لسياسة
الاستعمار، أجبرته مضايقات الاستعمار وأذنابه على الهجرة إلى المدينة المنورة
ليلتحق بمدرسة العلوم الشرعية مدرسا فيها حتى وافته المنية سنة 1968.
المحور السادس: يحتوي هذا المحور على عدد من المقابلات الصحفية، تضمنت
حوارات أجرتها بعض الصحف مع صاحب هذا الكتاب ، تناول فيها جملة من القضايا
الراهنة، سواء منها المتعلقة بإبداعه الأدبي والفكري، أو ما تعلّـق بنشاطه الثقافي،
والعلمي كرئيس لرابطة الفكر والإبداع، كما احتوت هذه الحوارات على جملة من آراء
كاتبنا ، وانطباعاته حول محيطه الثقافي والتربوي.
الحوارات
الصحفية المذكورة جرت مع :
01-يومية "المساء"بتاريخ:04/07/2010،،-02 موقع القباب و"الأحداث الجزائرية"في20/04/2010
03- صحيفة "المستقبل" بتاريخ شهر أكتوبر2018،،
04– أسبوعية " الشعاع " في 22/04/2006
05- "" المجاهد الأسبوعي" بتاريخ 23/06/2003،،
06- " كل الدنيا " بتاريخ : 08/05/2001
الخـاتمـة: كتاب "مؤانسات ثقافية" للمبدع والمفكر بشير خلف هو أكثر من
مؤانسات ، فحتى وإن عكست التسمية الحسّ الأدبي للكاتب، فهي في حقيقتها نقرات فكرية،
وثقافية مُوقظة لمخيال المثقف، فارزة لتشابك خيوط الفكر المحلي والعربي، ومصححة
لمواقف فكرية وقضايا ثقافية مختلفة.
هي إذن أفكار
ومفاهيم خاض فيها الكاتب بكل جرأة وجدية ، نافضا الغبار على العديد من التصورات
والرؤى في الغرب الأوربي أو في الشرق العربي ، ليحط الرحال دائما عند الفرد
والمجتمع الجزائري ، محللا لثقافته وهويته ببعديهما العربي المتوسطي والإفريقي.
مركزا على السلوك التربوي، والشعور الإنساني الراقي في تجلياته الحضارية أملا
وطموحا لمعانقة كل ما هو سامٍ بنّاء، وراقٍ، تنموي، يأخذ بنا نحو الأفضل من حلم
الأجيال نحو التسلق السليم لسلم الحضارة .
وإن كان
لابد من تسجيل بعض الملاحظات على هذا الكتاب ، فإننا نسجل جُهْـد الكاتب
واحترافيته في إتباع المناهج العلمية والدقة في البحث والمساءلة، والتمسك بالمنطق
العلمي في عرض الحقائق ومقارباتها بالتعريف
والتحليل والاستقصاء، وتقديم الحجة والمثال مع كشْف الحقائق عارية من كل المجاملات
حتى وإن كانت صادمة أو محرجة .
كما نسجل
له الجهد الذي بذله في التبويب، والترتيب، وحسْــن الطرح في التقديم والتأخير، وإن
كان لابد من ملاحظة هنا أيضا ، فليسمح لي أستاذي أن أتساءل عن منهجية الطرح وتقديم
المادة في المحور الرابع ، حيت نشعر أحيانا بفتور التناسق بين بعض العناوين ومحتوى
فقراتها ، كأن نرى دمجا غير مبرر لموضوع المسرح الجزائري في معرض الحديث عن المسرح
الإفريقي ، ثم لما المسرح الإفريقي دون المسرح العربي .؟ وفي هذا الإطار هل يمكن الحديث عن المسرح
المتوسطي وتأثيره ؟ بل وما تأثير المسرح الكولونيالي عن المسرح الجزائري ؟.
نؤكد هذا
التساؤل ونُـضيف بأننا لا نلاحظ تشابها فنيا معينا بين المسرح الإفريقي (من حيث
نشأته ومرتكزاته)، والمسرح الجزائري والعربي عموما؛ إذ أن للمسرح الجزائري منهلين أساسيين:
الأول عربي ( حدث التأثر أثناء جولات فنية لفرق مسرحية عربية في النصف الأول من
القرن الماضي) ، والثاني أوروبي ( حدث عبر التأثير الفرنسي في الثقافة
الجزائرية).والحديث هنا عن التأثير الأساسي المباشر لا الفرعي، أي الذي له علاقة
بخصوصية المجتمع الجزائري، وموروثه الثقافي الشعبي .
وعموما
فإن لأستاذنا حججه وبراهينه، وبالتأكيد له سعة الاطلاع، والإدراك بالعلائق الفنية
في الحياة الثقافية الجزائرية الموسومة بالتجاذب، والتشابك وقد تعرض لجانبها
الهلامي في معرض حديثه عن الثقافة والهوية ..
كتاب مؤانسات ثقافية من المُصنّـفات التأملية، والثقافية الهامة للأستاذ
بشير خلف ، كتاب فكري ثقافي متميز هام في
محتواه وأهدافه ؛ جاء متزامنا مع الأصوات المنادية بضرورة فتْح الملف الثقافي الجزائري
حتى نرسم هويتنا، في الوقت الذي تُــصرّ جهات أخرى على طيّه، أو تأجيله إلى أجيال
أخرى ..