بقلم: بشير خلف
وصلتني أخيرا عبْر البريد بعْد إبحارٍ في بريد الجزائر قارب الشهر والنصف من العاصمة رواية" كُتِب علينا ألّا.. نجتمع" للشاب الحيّي لونيس عبد الرحمن ( أمير القوافي)..الرواية من الحجم الصغير في 138 صفحة، ذات غلافٍ فنّيٍّ معبِّرٍ من تصميم طواهرية عبد الرّزّاق.
صدرت الرواية عن دار المثقف للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة 2018 م. وشّح الكاتب عبد الرحمن نصّه السّرديَّ بإهداء، أعطى فيه الأولوية إلى " القلم"، وما أدراك ما القلم الذي كان العنصر الثاني بعد الراوي من شخصيات الرواية:« إلى القلم الذي كتب، إلى الأصدقاء الأنقياء، إلى أبطال الرواية، إلى جميع القُرّاء.. وإلى كلّ منْ ساعدني، ومنْ لم يفْعلْ.»
أبطال الرواية أربعة: الكاتب الراوي، قلمه، مريم الحبيبة، خديجة أخت مريم، صارة كاتبة مدير الشركة التي عمل بها ياسر الكاتب.. الموضوع الرئيس في الرواية هو الحبّ الإنساني في أوسع معانيه، وسموّ رحابه، منذ بداية النصّ ألْمح الكاتب إلى أنّ في دواخلنا عوالم أخرى لم نكتشفْها، ولم نسْع إلى معرفة مكنوناتها التي لو اكتشفناها لعرفنا أنفسنا، ولفهمنا الآخر، وتقرّبنا منه، ممّا يؤسّس لعلاقات إنسانية راقية، تنطلق من حوارات راقية بها نؤسّس للمحبّة الشاملة.. القيمة الإنسانية التي نفتقدها أفرادا، وجماعات، وشعوبًا:
«...في عالم دواخلنا ثمّة حياةٌ أخرى، نفسٌ مليئة بالأسرار تغيب عنها الشمسُ وتغشاها الوحدة.. في كوكب أنفسنا غربة تستنهض الحنين إلى حياتنا الماضية قبْل أن نُصاب بالخيبة.. في قلوبنا المنكوبة ثمّة حكايات تتشح بالصّمت، والبوح المهذّب تستحقّ الالتفات، والاستماع إليها.. حكايات تحمل في طياتها فوانيس قلوبٍ مسكونة بالمحبّة والتسامح...ص 5 »
وجد البطل الرئيس تلك المحبّة، وذاك البوح المهذّب لدى مريم الفتاة الخجولة ذات يوم في مكتبة، فكان التعارف السريع الذي نما ليكوّن حبّا عذريّا، نقيّا سرعان ما تعبث به قلوب امتلأت شرّا، وحقْدًا، انتهى بطرْد ياسر من عمله بالشركة التي كان مكلّفًا بها بالمبيعات رفقة زميلته صارة التي كانت تسعى إلى الارتباط به، ولمّا فشلت وتأكدت من حبّه لمريم جنّدت شيطنتها، وكيدها انتقامًا من الإثنين، سعت مع المدير إلى طرْده من العمل، كما سعت إلى تشويه صورته لدى مريم، فكان الصدّ، والفراق بين الحبيبين، وما علما أنهما الضحيتان، أصيبت مريم بمرض السرطان الذي قضى عليها بعد رجوع ياسر إليها وطلبها للزواج ولو هي في المستشفى، خديجة التي خُطبتْ وكانت تحضّر لعرسها تُفاجأ بمحاولة اختها الانتحار، ثم الإصابة بالمرض الخبيث تهرع إلى ياسر تطلب منه زيارة أختها، خديجة التي عارضت في البداية أيّ تقارب بين أختها، وياسر استنجدت به لزيارة أخته التي كانت متشوِقة إليه.
نصٌّ سرديٌّ مفعمٌ بالحب بين شابين حلما أن تستمرّ سعادتهما، وأن تتوّج بزواج يثمر أبناء وبنين، في كل بنية النصّ ونموّه كان الراوي ينشد؛ بل يهفو إلى المحبّة الإنسانية إلى أسمى تجلياتها.
«..حقيقة هذا النور يكمن في المحبّة التي يُنزلها الله في قلوب البشر، لا تلك التي تأتي بالطلب، أو من ضوْء القمر.. والله إن جعل نور القمر في السماء، فإنه جعل نور المحبّة في الأرض.. ص 23»، «..فاعلمْ أن الحياة مليئة بالمفاجآت، والمحبة رزْقٌ والموت حقٌّ، لكنه لا يستأذن أحدا، والحب قدرٌ، وأجمل ما فيه أن تحبّ بلا سببٍ، فإنْ أحببْتَ فأحبّ في الله..134»، «..الحبّ به تلين القلوب، وتصلح الطِّباع، لكنه قويٌّ قد يقتل النفوس الضعيفة، والمرهفة ..كلمة بسيطة قد تحيي قلبا، وقد تقتله، فإذا لاقيته يوما، فأحسنْ صحبته، واسْقه الصدق والعطاء، وتذكّرْ أن الحبّ ليس خيارا، بل هو أقدار.. ص 136»
الكاتب في نصّه كان رفيقه، ومحاوره وأنيسه، وحافظ أسراره " القلم":
«.. أغلقْتُ نافذتي، صلّيتُ صلاتي، ثم انزويتُ في سريري، أضمّ إلى قلمي أسراري وحكاياتي، ونمنا إلى جانب بعضٍ ص24»..« ..التفتُّ إليه فوجدته قلمي يقابلني بنظرة تعلوها الشفقة، وقال: لا تحذفْه فحتّى ولو حذفتَه فإنّ وجهك يُخْبِرُ عمّا هو موجود في قلبك، كأنك صفحة من كتابٍ مفتوحٍ. ص 28 »
أسلوب النصّ سلسٌ منسابٌ كجدول رقراقٍ، اتشح بالجمالية، وكثافة الجملة، وتعبيرها الدقيق:«.. اقتربت من نافذتي، والأمطار تنهمر وتنسكب على زجاجها، كأنها استعارت أيامًا إضافية من الربيع..ص25»، «..حتى اختفت البيوت والمنازل المجاورة في دجى الظلام، وصوت المطر يعزف على أوتار قلبي بعذوبة جارحة.. ص 26»،«..هو لقاؤنا في يوم ماطرٍ، نرجسي، ورومانسي جدا، تعانقت فيه روحانا عناق الليل بالنهار، وتجاذبت تجاذب الكواكب حول الشمس، وانتعش قلبانا انتعاش الأرض الجافّة.. ص 31 »
ما أحبّذه، وقد يشاركني العديد من النقّاد، ومن متذوّقي النصوص الروائية تحاشي الوعظ المباشر للمتلقّي، ففي رأيي إنْ رأى الكاتب إنْ كان ولا بدّ من ذلك أن يكون بأسلوبٍ غير مباشر، فالوعظ والإرشاد يُفرغان النصّ من محمولاته الفنية، ويضعان المتلقّي في وضعية المتعلم؛ بينما النقد المعاصر يلحّ على أن يكون مشاركًا في كتابة النصّ وتأويل مضمونه،:
«..احذرْ إنْ تألّمتَ أن تخيط جراحك قبل تنظيفها، ناقشْ، اشرحْ، برِّرْ، واعترفْ فالحياة قصيرة جدًّا، ولا تستحقّ.. ص 134»، «.. والحب قدرٌ، وأجمل ما فيه أن تحبّ بلا سببٍ، فإنْ أحببْتَ فأحبّ في الله..134»،«..فسهِّل الأمور وبسِّطْها، اعذرْ مرافقيك، وافعلْ ما يُمليه عليك قلبك دون أن تتخلّى عن تحكيم عقلك، لا تستسلمْ للفراق ولا لمسبّباته، وطالما أنوار الحبّ لا تزال مشتعلةً بقلبك، فلا تسمحْ لهذا الغيْم أن يعكّر صفْو فؤادك، تنازلْ عن كبريائك.. ص 56»
رغْم جمالية أسلوب النصّ وشعريته في أكثر من موقعٍ، وسلامة اللغة وانسيابية الجُمل، والعبارات، لم يخْلُ النصُّ من بعض الأخطاء اللغوية، والقواعدية ــ وإنْ كانت قليلة ــ من ذلك على سبيل المثال لا الكلّ:« قرّبْتُه من أنظاري( قرّبتُه من ناظريَّ) ص11، ولا أحد أُأتمنه ( ولا أحد أُؤْتمنه) ص 11،هززْتُ برأْسي( هززْتُ رأسي) ص 21، كأنني استفزّيْتُه (كأني استفْززْتُه) ص23، فرغم محاولاتي باستنطاقها،(..محاولاتي استنطاقها) ص 31، وبصفتي مسؤولٌ( وبصفتي مسؤولًا) ص 70 .
هذا النصّ الذي بين أيدينا هو باكورة الإبداع السردي الروائي للشاب لونيس عبد الرحمن، لهو نصٌّ يشي بأنّ صاحبه يمتلك موهبة الكتابة السردية التي بطبيعة الحال إنْ رعاها، ونمّاها باستمرار سيكون عبد الرحمن لا ريْب ضمْن الأسماء الواعدة في فضاء الرواية الجزائرية والعربية المعاصرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق