قراءة في كتاب
بقلم:
بشير خلف
كان للرحالة، والمستكشفين دورٌ كبيرٌ في
توطيد دعائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر، حيث كلفتهم السلطة الفرنسية، ومؤسساتها
المدنية والعسكرية باستكشاف، وقد ساعدوا السلطات الفرنسية في التوغل إلى أعماق
الصحراء الجزائرية عن طريق التقارير التي كان يرسلونها، أو ينشرونها مدونين فيها مشاهداتهم
الهامة عن السكان، وأصولهم، وتاريخهم، ومعيشتهم، وحدودهم مناطقهم، وطرقهم،
وتجارتهم، وأولي أمرهم، واتصالاتهم مع جيرانهم في البلدان الأخرى. بعض هؤلاء تركزت
رحلاتهم على الغرب الجزائري، ووسطها؛ وبعضهم الأخر كانت وجهتهم إلى الجنوب الشرقي؛
أو ما أُطلق عليه حينها" صحراء قسنطينة التي كانت لدى السلطة الاستعمارية
مناطق: الزاب، وادي ريغ، وادي سُوفْ، ورجلان.
بين يدي الكتاب
البروفيسور علي غنابزية التاريخ الحديث
والمعاصر، والباحث النشط الغزير التأليف، الأستاذ بجامعة حمّ لخضر بالوادي، التفت
إلى الغوص في رحلات الفرنسيين إلى وادي سُوفْ، وأعماق العرق الشرقي خلال القرنيْن
التاسع عشر، والعشرين( 1860م – 1939م)، من خلال ترجمة أربع رحلات لأولئكم
الرحّالة، والتعليق عليها، ودراستها في كتاب بعنوان: رحلات الفرنسيين إلى وادي
سُوفْ، وأعماق العرق الشرقي بصحراء قسنطينة. طباعة دار سامي للطباعة والنشر
بالوادي. سنة 2019م. الكتاب من الحجم الكبير، يقع في 205 صفحات. الغلاف من تصميم
الفنان التشكيلي كما خزّان. الغلاف يطغى عليه اللون الأسود، حتى كثبان الرمال
الذهبية، وسفينة الصحراء البنية اللون، تتغطّ باللون القاتم، وكذلك الأنسان
الصحراوي المرافق لها تعبيرا عن مرحلة الاستعمار السوداء على الأرض، والإنسان،
والحيوان، والنبات. تضمّن الكتاب بعد الإهداء، والتصدير، والمقدّمة، والمهيد
المنهجي؛ تأتي الأقسام الأولى، الثانية، الثالثة؛ فالملاحق.
هدفٍ
واحدٍ يخدم الخطّ الاستعماري الفرنسي.
الجزائر قارة مترامية الأطراف، مترامية
الأطرافـ تتعانق مع سبع دُولٍ في حدود ممتدّة، ومنحت الجزائر فوائد جمّة ماضيا،
وحاضرًا، وجعل من قسنطينة عهدها مطلّة على بلديْن مجاوريْن بصحرائها الجنوبية،
فأحدثت التواصل مع تونس شرقًا، وليبيا جنوبًا؛ فكانت الصِلاتُ دائمة مع صحراء
الشرق الكبير.
ولمّا حلّ القرن التاسع عشر، وتعرّضت البلد
إلى الاحتلال الفرنسي بدأ ببثّ العيون، وإرسال المغامرين، وتجهيز البعثات
الاستكشافية، وتنظيم الرحلات ذات الطابع العلمي في ظاهرها، وتشجيع الرّحّالة
لزيارة الأقاليم الصحراوية، والتعرّف عن السكان، والاقتراب منهم، واكتشاف الخفيّ؛
إلّا أنها في المحصِّلة رحلاتٌ تتجمّع في هدفٍ واحدٍ يخدم الخطّ الاستعماري
الفرنسي.
الترجمة
التاريخية تكشف المخفيَّ
في
بداية الكتاب وبعد المقدمة استهلّ البروفيسور علي غنابزية بالحديث عن منهجية
الكتاب من خلال الإشارة إلى ترجمة النصوص التاريخية، أهمّيتها، تقنياتها، المسار
التاريخي للترجمة في الجزائر؛ لماذا هذه الإشارات؟ لأنّ الكتاب يتعلق بترجمة نصوص
كتبها رحالة بلغتهم، اللغة الفرنسية، فالمؤلف يشوّق المتلقّي بأهمية الترجمة
وفوائدها، وخاصة في التعرّف عمّا دوّنه أولئك عن أحوال منطقة وادي سُوفْ خلال
العهد الفرنسي بعيون فرنسية ناظرة، وأقلام أجنبية وافدة، وشهادات دقيقة لرحّالة
وسيّاح تمّت كتابتها في صُحُفٍ فرنسية، داخل الجزائر وخارجها حينها، ودُوّنت في
مقالات شكّلت فيما بعد أرشيفًا تاريخيًّا هامًّا.
الصحراء..
هدفُ استراتيجي
الاحتلال الفرنسي للجزائر خطّط منذ البداية
إلى احتلال كل شبْرٍ من الجزائر، والتوغّل في كل مناطقها بدون تمييزٍ وعلى مراحل
بدءًا بالرحلات الاستطلاعية، والبعثات الاستكشافية، وبثّ العيون؛ ثم الغزو العسكري
بتوغّل الجيوش، فكانت الصحراء في المخطّط خاصة صحراء قسنطينة، والمقصود المناطق
التابعة لها عهد ذاك لأن قسنطينة ومنطقتها ليست في الصحراء، فالتسمية أخذتها من
حكم الأتراك الذين أطلقوا على جنوب قسنطينة" الجنوب القسنطيني" التابع
لبايلك الشرق الجزائري.
بعد إحكام الاستعمار الفرنسي سيطرته على
الشمال الجزائري، ومنطقة الهضاب، اتجهت أنظار الفرنسيين نحو الصحراء التي كانت
مأوى المقاومين، فشرع في الكشف عن مجاهل صحراء الجنوب الشرقي، وظهر مصطلح"
صحراء قسنطينة"، وخضعت أغلب الصحراء للسلطة العسكرية الفرنسية منذ 1901م،
وقرّرت تقسيم البلد إلى قسميْن: الشمال والجنوب.
صحراء قسنطينة بموجب القانون الذي صادق عليه
البرلمان الفرنسي، ديسمبر 1902م، مثّلت الفضاء الممتد في العرق الشرقي الكبير
الممتد من جنوب الأوراس حتى ورقلة، وحتى منطقة الهقار، والحدود الليبية.
رحلات
الفرنسيين في الصحراء الجزائرية
انطلق جهاز المخابرات الاستعماري الفرنسي
في جمْع المعلومات، ومباشرة الدراسات التاريخية عن الصحراء منذ الأيام الأولى
للاحتلال، وقام أعوانه بترجمة الرحلات التي قام بها المسلمون مثل رحلات: العياشي،
الأغواطي، الدّرعي للاستفادة منها، واعتبرت السلطات الاستعمارية عملية الاستطلاع،
وجمْع المعلومات أحد الأسلحة الفعّالة التي بها رسمت خططها، وتحرّكات جيوشها.
احتلال
صحراء قسنطينة
بعد احتلال فرنسا لمدينة
قسنطينة وضواحيه سنة 1837م، اتجه نظرها نحو الجنوب الشرقي، والتوغّل في الصحراء
لاستكمال التوسّع، وبسْط النفوذ في بقية مناطق الجزائر لاستغلال ثرواتها، وتوطين
المستوطنين القادمين من أوروبّا، وأثار إقليم " وادي سُوفْ" القلق لدى
تلك السلطة الاستعمارية الذي كان منطقة عبور نحو تونس، وليبيا، فضاء مفتوحٌ سهُلت
التنقّلات به بمختلف أشكالها؛ ممّا جعل الحدود غير آمنة في نظر الاستعمار الفرنسي.
شرعت في تطبيق مخططاتها الاستعمارية في الجنوب الصحراوي وفْق سياسة المراحل التي
دامت أكثر من نصْف قرْنٍ، بداية من احتلال بسكرة يوم 04 مارس 1844م،فالأغواط في 04
ديسمبر1852، ورقلة أواخر عام 1953م،تقرت في 05 ديسمبر 1854م، وادي سُوفْ في 10
ديسمبر 1854م،تم الاحتلال الكلي للجزائر في أوت 1917م بالسيطرة على بلاد الهقّار.
رحلات
الفرنسيين المدوّنة إلى الصحراء
تحدّث البروفيسور علي غنابزية عن تدوينات
رحلات الأجانب لنواحي الصحراء على مدار قرن من الزمن الماضي، غير أن الرحلات التي
ركز عليها في كتابه هذا عَـــرْضًا، ودراسةً استغرقت ستّ سنواتن وكُتبت في فترة
متميّزة، وبتقادم الزمن صارت لها قيمتها العلمية، والتاريخية. هي أربع رحلات تمّت
في منطقة الجنوب الشرقي الجزائري لما سُمّي وقتها" صحراء قسنطينة من 1933م ــ
1939م، من طرف السياح الفرنسيين، وأعوان الإدارة الفرنسية، وخدّامه، والضبّاط
العسكريين:
1
ــ الرحلة الأولى بعنوان" أرخبيل سُوفْ" تمت سنة 1933م، كتبها السائح
الفرنسي ريني فاليت، نشرها في مقال بمجلة" Algerie" الشهرية لا تتجاوز الأربع صفحات، دعّمها بسبع صور
فوتوغرافية؛ الرحلة كانت كانت وصفا لمسير القافلة، وما عاشه شخصيا في مدينة
الوادي، فالرجوع إلى تقرت ثم بسكرة.
2 ــ الرحلة الثانية بعنوان"
من الجنوب التونسي إلى سُوفْ" كتبها السائح الفرنسي ريني تورنيول، فنّان،
ورسّام اللوحات الزيتية؛ نشر ملخّصًا عن رحلته تلك في الناحية الشرقية لمنطقة سوف،
حيث قدمت الرحلة من الجنوب التونسي نحو الوادي، نشر مضمونها ملخصا في نفس المجلة
السابقة سنة 1933م، في خمس صفحات، ودعّمها بستّ صور فوتوغرافية حيّة؛ أي ليست
لوحات. الرحلة تشبه سابقتها في الإشارة إلى المناطق، والمحطات التي مرّت بها
القافلة، أو توقّفت عندها، رافقت السائح فتاة أمريكية من كاليفورنيا جمعته بها
رفقة الطريق.
3ــ
الرحلة الثالثة بعنوان" أصدقاء فرنسا.. الميعاد الخيري"، هي تقرير صحفي
عن رحلة إلى الهلال الثلاثي، أو أقاليم الجنوب الشرقي الرئيسة بمقاطعة قسنطينة،
وضمّت حينها بلاد الزّاب، وادي ريغ، وادي سُوفْ، نُشر التقرير في جريدة" صوْت
الأهالي في العدد 475 يوم 13 أفريل 1939م، المقال بدون صور، فيه استعراض جيّدٌ
لأهمّ أحداث الرحلة التي جرت في الربيع في شهر مارس 1939م، حين انطلق أعضاء
الجمعية الخيرية بالسيارات من مدينة بسكرة، وادي ريغ، مدينة تقرت، تماسين لزيارة
الزاوية التجانية، ولقاء شيخها أحمد التجاني، فمدينة الوادي؛ ثم العودة إلى مدينة
بسكرة.
4
ــ الرحلة الرابعة بعنوان" الوصل بين مدينة الوادي، وغدّامس بليبيا بسيارة
الجيب. مجريات الرحلة مدوّنة من قِبل الضابط المقدّم ج.فيري رئيس مخفرة الوادي سنة
1939م، ونشر ملخّصًا عن الرحلة في دورية" أبحاث معهد الدراسات الصحراوية"
المجلّد الخامس لسنة 1948م، الصادرة عن جامعة الجزائر في سبْع صفحات، ما دُعّمت
بصور، لكن دعّمت بخريطة توضّح أهمّ المسالك والدّروب. تمّت الرحلة بداية فصل
الربيع، في شهر مارس، إذ الجوّ معتدلٌ يساعد على التنقّل في فيافي الصحراء،
وتضاريسها الصعبة، ومناخها المتقلّب. رحلة استكشافية بلمسة عسكرية استعمارية هدفها
اكتشاف، وتعرّف على الطريق الموصلة إلى غدّامس بليبيا، وقد حقّقت أهدافها.
المحتوى
المعرفي للرحلات
بعد تحليل مضامين تلكم الرحلات الأربع استخلص المؤلف منها
أنها لوحات فنية رائعة ما رسمتها يد فنان، وما التقطتها كاميرا السيّاح؛
وإنما دبّجتها أنامل الأقلام، صنّفها
المؤلف إلى: الوسط الطبيعي الصحراوي، الوضع الاقتصادي للسكان، الحياة الاجتماعية.
كُتبت جُلُّ الرحلات بأقلام الهوّاة أولهم
ريني فاليت، ويظهر أنه سائح يريد التعرّف على المنطقة، بينما السائح الثاني ريني
تورنيول رسّام له الذّوق الفنّي، يبتغي من رحلته تسجيل الانطباعات، والتعرّف على
العالم الخارجي، والبلدان البعيدة، يدخل كل ذلك لدى هذا الرسام الفنان في حُبّ
المغامرة، والفضول المعرفي. أمّا كاتب التقرير عن رحلة الميعاد الخيري، هو أحد
أصدقاء فرنسا، اكتفى بسرْد المعلومات، وتفصيل الأشياء، كما ركّز على الخطابات الي
ألقاها القياد، والضبّاط، أو شيوخ الزوايا.
تعدّدت أهداف الرحلات، وتشعّبت أغراضها، أهمّها: حبّ الاستطلاع، الرغبة في
اكتشاف العالم المحيط بالفرنسيين، اكتساب المعرف الجديدة الكافية عن الصحراء
الجزائرية، توسيع المدارك الثقافية، الاستجمام والترويح عن النفس، اكتشاف أحوال
شعب واقع تحت السيطرة الاستعمارية، إبراز المعاملات الفرنسية، والإنجازات الحضارية
المزعومة. رحلة " الميعاد الخيري" كانت للدعاية، والترويج للأفكار
الاندماجية، والسعي لإقناع الأهالي بدوْر فرنسا في الرعاية، والتطوير للجنوب
الصحراوي الجزائري، وبثّ الأمن والاستقرار.
وحتى
يكون للكتاب مصداقية كوثيقة تاريخية مرجعية ثبـت الدكتور علي غنابزية مضمون
الرحلات المترجمة الأربعة من طرفه باللغة العربية من الصفحة: 93 إلى الصفحة 169،
ثم تليها نفس الرحلات بلغتها الأصلية التي كُتبت بها من: الصفحة 171 إلى الصفحة
191.إضافة إلى الصور الفوتوغرافية الملحقة بمضمون الرحلات.
كقارئ منذ أن تعرفت على البروفيسورعلي
غنابزية قرأتُ كل كتبه التي أصدرها عن الجنوب الصحراوي الجزائري، وخاصّة منطقة
وادي سُوفْ، تمتّعتُ بقراءة هذا الكتاب، ومن خلاله اكتشفتُ ما كتبه الرحّالة
الفرنسيون سيّاحٌ وعسكريون في الثلث الأول من القرن العشرين، كما أني تعرّفتُ أكثر
على جهود المؤلف علي في البحث التاريخي، والإيغال أيضًا فيما كتبه غيرنا بلغتهم
الأصلية، والحرص على ترجمته بلغة عربية فصيحة دقيقة، سلسة موشّحة بالدقّة العلمية
التاريخية. وهذا ما يجعلني أتماه معه في قوله:
«
إنّ الكتابة التي تستهدف خدمة التاريخ الوطني، هي رسالة الشّرف السّؤدد، لأنها
تفتح آفاقًا للناس، فتعرّفهم بالأمجاد الماضية، والآثار الخالدة التي هي محلّ
فخرهم واعتزازهم على مرّ الزّمان، ما دام الليل والنهار.»