الثلاثاء، 19 أبريل 2022

      

فوْق كلِّ الّلغات

بشير خلف

        يا قصّة المجْد هذا الحرْفُ يحْملني

يسْتــنطقُ الصّمْتَ تاريخًا بيُمْـــــــناك

مُـــذْ كان عُـــقبة والأحْـــــــلام تسبقه

شرْقًا يضمخ تاريخ الهــوى الحاكي

                            يا قـــــــــــروان تُرى هل يرتوي نهمي

                         هل يــــــشرح الناي ما ترويه عيْناكِ

        صدر في الشهر الماضي مارس 2022م، ديوانٌ شعْريٌّ للشاعر الموهوب، مبْدع هذه الأبيات التاريخية الجميلة، الأستاذ صوالح مصطفى صوالح من لــدُنْ: (بيْت الشعْر الجزائري) بالجزائر العاصمة، الديوان من الحجْم الصغير، يقع في 74 صفحة تضمّ 21 نصًّا شعْريًّا، قصائد الديوان قصيرة، لكنها مشحونة بالأحاسيس الراقية، ذات حمولات لقضايا الإنسان الجزائري، والعربي.. ثريّة بأفكار، ورؤى الشاعر مصطفى صوالح.

      من أجمل قصائد الديوان في تقديري الشخصي قصيدة: (مَنْ هي..)، أوّل نصٍّ من الديوان، فالقارئ في بداية قراءته يشعر أنه أمام نصٍّ عاطفيِّ، يعْـبُق بالمشاعر الجيّاشة، والإبحار في العيون الناعسات، فيفاجأ وهو يقرأ النصّ أن الشاعر لا يقصد صاحبات القدّ الرشيق، ولا صاحبات العيون الناعسات اللواتي تُسْقطْن العُشّاقَ، في آخر النصّ يتـنفّـس القارئ حبورًا، وبهجة، واعتزازًا بانتمائه إلى حُضْن الحبيبة التي تهاوى الشاعر تحْت رجليْها:

إنّ العيون الناعسات قــــتلْنني

والجفْن في عرف الهوى ذبّاحُ

نطــقْـتْ بحبّــُكِ كلُّ آيات الهوى

وتلقّــفــــــتْكِ على المدى الآقاحُ

الحُسْنُ فيك سجيّة.. أمّا الهوى

كمْ ذا تــلــتْه عواصف وريّـــــــاحُ

     الشاعر يتغـــنّى بالتي هي أكبر، وأعزّ من الحبيبة:

هــــنا تسألون عن التي تــــنــــــتابني

في ذكرها تـــــتبسّم الأقْـــــــــــــــــــــــداح

هي في الحشى ريحانة مِـلْء الرّؤى

هي هـــــــــالةٌ وجبيــــــــــــــــــنها وضّاحُ

هي ذي (الجــــــزائر) إنْ أردْتَ حبيبتي

غـــــــــنّى الجــــــــــــمال متـــــــيم سوّاح

أنا لا أرى غيـــــــرَ الجمالِ يحُــــــــفّها

في حُــــبّها تــــتآلــــــــــــــــــــف الأرواحُ

       فلئن كان الإنسان العادي قلّـما يُعـبّر عن علاقة الحب التي تربطه بوطنه، فيما يبذل الشاعر جهْداً مميزاً ليُعـبِّر من خلال قصائده عن عواطفه، وأحاسيسه تجاه وطنه؛ وإذا كان للشعر هذه المكانة الرائعة؛ فاقترانه بالأحداث العظمى يزيده قوة ومكانة في آنٍ معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث، لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسن كما تتردد التحية بين الناس، الشاعر مصطفى صوالح تجمّعت لديه هذه، وتلك.

         تـخـتزن تجربة الشاعر صوالح مصطفى في هذا الديوان، وفيما سبقه من دواوين: كفّ الريح، كيف يحترق الضمأ، وغيرهما.. فيضا من التميز، فالقصيدة لديه فضاء رحْبٌ تتراقص فيه المجازات، وتتبلور الرؤى، وتنفتح مصادر الجمال بـمحمولاته الفياضة، وتتجـلّى القيم الإنسانية: من خير، وحقٍّ، وحرية، وعدْلٍ؛ لذا فكل قراءة مُوغلة في قصائده تكشف عن أبعاد ثريّة، يشكّـل الهمّ الوطني، والعربي مكوناً رئيسًا من مكونات رؤية الشاعر صوالح مصطفى، بحيث يندر أن يجــد القارئ قصيدة من قصائد الديوان الذي بين أيدينا، تخـلو من هذا الهمّ الجزائري، أو العربي.

        ما انفـكّ الجُـرح العربي النازف بدون توقُّفٍ هنا، وهناك، والنار المشتعلة قضت، وتقضي على شرايين الحياة تؤرق الشعراء، ومنهم شاعرنا:

إنْ كنْتِ تدرين يا بغـداد دُلّيني

ضيّعْتُ بعدكِ أزْماني، وأخيلتي

كسّرْتُ حُلْمًا تُراه اليوم يُحْييني

قلبي وقبري وعنواني وخارطتي

كلّ الحكايا أراها لا تُــــــواسيني

بغداد عذْرًا فخذلاني يحاصرني

دمْعي يُصادَرُ والأحقاد تكْويني

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشعر جمالٌ، وغموضٌ مُحـبّــبٌ يبعثُ النشوةَ في القلوب.. شلّالٌ يتدفّق من مشاعر الإنسان حين يحدث ذلك التفاعل الغريب المفاجئ بين مكوّنات الطبيعة، وذاتية الفنّان المبدع، وعذوبة اللغة.

قداسة المحبّة والوفاء

1 ـــ الشاعر إنسان رهيف الأحاسيس، صادق العاطفة الإنسانية، سيماته الوفاء، وصدْق المودّة لأصوله، خاصّة لِمنْ كانوا السبب في وجوده بعد الله خالق الجميع، وموجد الكوْن، شاعرنا مصطفى صوالح بوفاء يُهْدي مَـنْ وسّدتْه ضلعها، واحتواه قلْبُها:

عائشة

أيّ ليْلٍ تلحّـفـتْهُ

والنُّبؤات التي بشّرت

بالذي يحْضُن الحُلْم

سراب ...

عائشة

أيّ ويْلٍ توسّدتْه

والمدارات حُبْلى

والذي ضيّع الحلْم غابْ

 

2 ــــ الشاعر صوالح مصطفى وفيٌّ لوالده، وذكراه، في أغلب جلساته مع أصدقائه ما انفكّ، وينفكّ والده حاضرًا، يتحدّث عن مناقبه التي أثّرتْ في شاعرنا، ولا تزال، في قصيدته:" آيات المحبّة":

كـــــــلُّ الحروف إليك قــدْ مدّتْ يدا

أمّا الـــــــفـــــؤاد صغى إليك وغرّدا

وتــــــــلتْــك آياتُ المحـــــبّة يا أبي

ما أروع الـــــــذكرى تُحرِّكُ أدّمُعي

كنتَ الحبيبَ ال.. ذاب فيه تولُّهي

حـــتّى استحال عبيرُ ذكْرك منتدى

كــــــنتَ الحقيقة قد خبرت نضارها

فـــــــطوتْك غدْرًا يا أبي كفُّ الرّدى

     الديوان الذي بين أيدينا:(فوْق كلِّ الّلغات) إضافة للمسار الشعري للشاعر الجزائري المبدع صوالح مصطفى، كما هو هديّة للمتلقّي المتذوّق للشعر.

      ...ويبْـقى الشعْرُ أنشودة الحياة العذْبة، الماتعة، ذات الإيقاع الموسيقي الساحر؛ بغير الموسيقى لا يكون الشعر، هذا الكائن الفنّي المتناغم الذي نسمّيه (شعْرا)، وكيف لا يكون الشعرُ موسيقى وهي التي تسمو بالمشاعر، وترفع من مستوى العاطفة، وتجعل الفكرة تتسرّبُ إلى المتلقّي بين الكلمات، كما تتسرّبُ روحُ الشاعر من عـــبْق نصِّ القصيدة.

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...