السبت، 23 أبريل 2022

 

منح حياته للجمال والفنّ التشكيلي



 بقلم: بشير خلف

        عشق الرّسم منذ صغره، في آخر مرحلة التعليم الابتدائي بمدرسة الذكور بقمار كان يتفاجأ به معلِّمُه المرحوم شيحه محمد الطاهر أثناء إنجاز التلاميذ تمارين مادة تعليمية، يرسم بدل إنجاز التمارين. كان بدل أن يشجعه، يقسو عليه بالتقريع.

 موهبة فنية وجدت حريتها

     في سنة 1967م تحوّل إلى المعهد التكنولوجي بمدينة الأغواط للتكوين كمربٍّ، ومعلّمٍ، في تلك المرحلة أطلق العنان لموهبته، حيث وجد فضاءه الحرّ الواسع لإبراز موهبته، وتفتّحها، بالاحتكاك بأساتذة مختلفي المشارب، والتخصصات من الجزائر، والعالم العربي، وطلبة كُثّرٍ من ساكنة ولاية خينذاك ممتدّة الأطراف: وادي سُوف، ورقلة، تفرت، المغير، جامعه، غرداية، الأغواط.. هي ولاية الواحات؛ تلكم الفسيفسائية البشرية، ساعدته في اكتساب شخصية اجتماعية، وعلاقات جديدة، متفتحة في أن تبدأ تظهر هُــويّته الفنية التي زاوج فيها بين الرّسم بمفهومه الواسع" الفن التشكيلي" و " الخط العربي".

 


فنّان إعلاميٌّ قدير

      تعارفنا في صائفة 1967م قبل توجّهه إلى الأغواط، بعد نحْو ثلاثة أشهر أُفاجأُ برسالة " دسمة" وصلتني منه، فكانت مجلة من إعداده الشخصي، وبخطّ يده، مجلّة ثقافية، فنية، ترفيهية: نصوص خفيفة، ترويحية، شعر، نُكت وطرائف، رسوم كاريكاتورية، بروتريهات كاريكاتورية لشخصيات فنية، ثقافية. استمرّت المجلة تصلني شهريا حتى نهاية السنة الأولى من سنتيْ تكوينه لتتواصل مع السنة الثانية.

 مدرّس.. مكوّنٌ.. مبدع الجمال

      بعد انتهاء تكوينه، وتخرّجه معلّما واستئناف نشاطه مدرِّسًا في سبتمبر 1969م بمدرسة النخيل بمدينة الوادي، ظهرت موهبته كفنّان تشكيلي أعطى لمدرسته موهبته، وعطاءه الفني حيث حوّلها: ساحة، حجرات إلى معرض فني تشكيلي، موظِّفًا ريشته السحرية في توظيف الألوان لتشكيل براءة الطفولة تحفّها الطبيعة بأزهارها، وورودها، وحيواناتها، وجمالياتها المكانية؛ بل وتوسّع عطاؤه الفنّي إلى مؤسسات تعليمية أخرى.

         ذاع صيْتُه وسطع نجمُه، وتوسّع مجالُ إشعاعه، فكانت لوحاته للطبيعة العذراء: شطوط البحار، الجبال المكلّلة بالثلوج، الأنهار المنسابة بين المروج، الكثبان الرملية الذهبية، حيوانات إفريقيا في ممالكها الغابية. اهتمّ في تلك الفترة وبعدها برسم بروتريهات لشخصيات ثورية جزائرية، وشهداء ثورة التحرير خاصة في منطقة وادي سُوفْ، حيث أوّل فنّان تشكيلي رسم صورة البطل الشهيد حمّ لخضر، إضافة إلى صور الأصدقاء، والشخصيات الطربية العربية.

 رائد الفن التشكيلي بالوادي

      في عشرية الثمانينات وقبل أن تُعيّن وادي سُوفْ سنة 1984م بحكم التقسيم الإداري، استعانت بلدية الوادي بفنّانا كي يمنح للمدينة في شارعها الرئيسي وساحاتها لمساته الفنية، (وللأمانة عهد ذاك كان الوحيد المتفرّد في الساحة الفنية التشكيلية)، فانتصبت جدارياته، ولوحاته على حاملات حديدية على طول الشارع، تُغنّي للجزائر في مسيرتها الصناعية، الفلاحية، الثقافية، التاريخية من خلال صور المعارك، معارك المنطقة، الشهداء. كما ساهم في تعريب المحيط بخطوطه الجميلة في بعض الإدارات، والمؤسسات، والمحلّات التجارية.


       ساهم في تكوين المعلمين في مادّة الرّسم، وسهّلها لهم، وهي المادّة التعليمية العصيّة على المعلمين والمعلّمات إذ يعانون صعوبة في تقديمها إلى المتعلّمين، فألف لهم فنّانُـــنا ستة كُتيبات بها خطوات مبسّطة تساعدهم على تعلّم الرسم، وتنفيذه بسهولة معلما، ومتعلما، كتيبات تتعلق برسم الحيوانات، والنباتات، والأشكال الهندسية، وراجت تلكم الكتيبات، وطُبعت عدّة مرّات، ولم يكتفِ بذاك؛ بل شارك مع مشرفي التربية في تأطير الندوات من خلال مواد الرسم، والأشغال اليدوية، والأيام التكوينية للمعلمين والمعلمات في عديد مناطق وادي سُوفْ. تواصلت مساهماتُه في التكوين حتى لمّا صار أستاذا لمادة الرّسم طوال سنوات في إحدى المتوسّطات بالمدينة.

 

رسّام المجلّة.. مانحُها البعدَ الجماليَّ الفنّيَّ

      في الثمانينات من القرن الماضي كان يُقام مهرجانٌ ثقافي سنويًّا في مدينة قمار، يحضره إعلاميون وأدباء جزائريون تشرف عليه الجمعية الثقافية بقمار التي كان يرأسها المرحوم إدريس التهامي، فكان فنّانُنا من الأوائل الذين يُعدّون بخطّ يده اللافتات، والمعلّقات، والجداريات زمن خلُوّ حياتنا من الطابعات؛ كما كان للجمعية مجلّة دورية اسمها" المنبر الثقافي" كان هو رسّامها الذي يعطيها اللمسات الفنية التي تُلفت نظر المتلقّي إلى الموضوع، كما كان يوشّحها برسومات كاريكاتورية مُضحِكة، أو ساخرة.

     بإرادته تحوّل من قطاع التربية إلى قطاع الشبيبة والرياضة التي انتهى فيها إلى مدير لدار الشبيبة والرياضة؛ بمجرّد تنصيبه لم يكتفٍ بمنصبه الإداري التسييري كعادته شرع في تزيين، وتجميل المؤسسة بلوحات رائعة للبراءة، والطبيعة، وتحبيب الفن التشكيلي، وسحْر الألوان للمُكوِّنِ، والمتكوّن، والزائر في المؤسسة، ولها ومسّ التكوينُ للمتكوّنين من البراءة، والعاملين.




 

..بمع الأدب الرّاقي شرْقًا وغرْ

      للأمانة التاريخية من الكُتّاب الذين أثّروا فيّ كثيرا خلال بداياتي الكاتبُ المهجري جبران خليل جبران؛ في نهاية الستينات وجدتُ لدى صديق العمر بشير بلباح أصيل بلدتي، الفنّان التشكيلي، الكبير الخطّاطٌّ الذي كان يهيم بالجمال، ولا يزال في كلّ تجلياته، وجدْتُ أغلبَ كُتُب الكاتب الفنان التشكيلي، الشاعر الفيلسوف اللبناني، المهجري جبران منها: العواصف، النبي، الأرواح المتمردة، الأجنحة المتكسرة، دمعة وابتسامة، عرائس المروج، البدائع والطرائف. كان هذا الصديق متأثرا بجبران الكاتب الرومانسي، الرسام الفيلسوف، الشاعر الألمعي، ارتأى الصديق أيّامها أن نقرأ بتمعُّنٍ كتابات هذا الفيلسوف، فقد قرأنا أغلبها، وتأثّرنا بنزعته الجمالية، وصرخاته تجاه ظُلْمِ الإنسان لأخيه الإنسان.

       ومن الكُتّاب المبدعين الروائيين الغربيين الذين قرأنا ل الروائي الإيطالي ألبيرتو مورافيا (1907 ـ 1990م)، الذي تـميّزت أعماله الأدبية بالبراعة والصدق والواقعية، حيث اهتمّ ذلك الكاتبُ الروائي بـمناقشة الكثير من المشاكل الاجتماعية التي كانت موجودة في إيطاليا. هاجم من خلال رواياته الفساد الأخلاقي الذي كان متـفشِّيا في بلاده إيطاليا، كتب في الكثير من المجالات والتي لازال أثرها قائما حتى وقتنا هذا.

    ومن أهم السمات التي تغلب على أكثر الأعمال الأدبية التي قام الكاتب ألبرتو مورافيا بكتابتها، هو اهتمامه بالاندماج في سرد الكثير من المشاعر الخاصة بالجنس، والتي ظهرت واضحة في الكثير من التداخلات الموجودة بين الكثير من الشخصيات في رواياته، ولقد اتسم أيضا بالتركيز على القيام بعملية التحليل النفسي لنوعية العلاقة بين الجنسين، أو الزوجين والتي ظهرت واضحة من خلال أشهر أعماله "رواية الاحتقار" التي تُــــعدُّ  من أهم ّالأعمال الأدبية للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا

        أغلبُ رواياته قرأتها مع صديقي: صوْتُ البحر، أنا وهو، الخطيئة الأولى، مراهقون ولكن، عذاب الحبّ، الهوان، اللّامبالون، الخدعة، السأم، الاحتقار، امرأةٌ من روما، الانتباه.

     بإرادته تحوّل من قطاع التربية إلى قطاع الشبيبة والرياضة التي انتهى فيها إلى مدير لدار الشبيبة والرياضة؛ بمجرّد تنصيبه لم يكتفٍ بمنصبه الإداري التسييري كعادته شرع في تزيين، وتجميل المؤسسة بلوحات رائعة للبراءة، والطبيعة، وتحبيب الفن التشكيلي، وسحْر الألوان للمُكوِّنِ، والمتكوّن، والزائر في المؤسسة، ولها ومسّ التكوينُ للمتكوّنين من البراءة، والعاملين.



 

اهتمام بالإخراج السينمائ

      اهتمّ في أواخر السبعينيات بالسينما: ثقافة، متابعة لممثليها البارزين، ومخرجيها ممّا أثّر فيه لاحقًا بأن يدخل عالم التصوير السينمائي وفْق الإمكانات التقنية المتاحة. ففي الثمانينات لمّا انتعش الفعل الثقافي بمدينة قمار، وكذا بمدينة الوادي من خلال عيد المدينة، والمهرجان الثقافي بقمار، شرع الأستاذ بشير في التصوير الوثائقي بتقنية سوبير08 ، وأنتج عديد الأشرطة الوثائقية عن المنطقة، وخاصة عن الحياة الاجتماعية والعمرانية التراثية، والفلاحية لمدينة قمار وضواحيها، ومن أشهر الأشرطة الوثائقية التي أبدع فيها شريط " نظرة حول سُوفْ" وبه نال المرتبة الأولى في مهرجان الأفلام الوثائقية للشرق الجزائري.



 

عشْقٌ للطبي

      في تلكم السنوات تعلّق بالطبيعة الخضراء، وبعالم البستنة، وأريج الورود والزهور، فأبدع فيها رسْمًا، وتعايشا في رحلاته، وسياحاته في الصحراء، وفي الشمال، وكان حلمه آنذاك أن يكون له منزل فسيح الأرجاء، يخصّص مساحة كبيرة منه لحديقة فيحاء يشرف عليها بنفسه، وبقي معه ذاك الحلم؛ وجسّمه بمنزله وفق ما سمحت، وتسمح به مساحة منزله بمدينة الوادي.

 

صيلمع الطرب الأ

      تعدّى شغفه بالجمال في تلكم السنوات إلى الطرب العربي، ومبدعيه: فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ، شادية، محمد عبد الوهّاب الذي داومنا على سماع أغانيه مدّة شبه يومية، فهد بلّان، فائزة أحمد، وغيرهم؛ لكن تعلّقه كان أكثر بسيّة الطرب العربي التي كنا نسمع روائعها كلما سمحت لنا الظروف، وكان الأستاذ بشير ينتظر حفلها السنوي الذي كانت تطلّ به على محليها بأغنية جديدة، كنّا ننتشي بالسماع لــــــ: ألف ليلة وليلة، الأطلال، أراك عصيّ الدمع، يا ظالمني، وغيرها. من المطربات اللاتي شغفن صديقي بشير، ولا يزال الفنّانة المصرية نجاة الصغيرة في أغلب حفلاتها الطربية، سيّما في رائعتها " لا تكذبي، يا مسافر وحدك، القريب منك بعيد، أيظنّ"

موهبة متجدِّدة.. ومجدِّدةٌ..عطاءٌ مستمرٌّ



        في هذه السنوات القريبة والآنية، غيره من جيله ممّنْ كانوا في التربية سكنوا، ودخلوا في الاجترار، واللغو، الفنانين التشكيليين من جيله بدلا من الاستمرار، والتطوير، ومسايرة الحياة المعاصرة، دخلوا في دهاليز ثقافة التشكّي، أصابهم العطل الفكري، والفنّي..ها هو فناننا بشير بلباح يُدخل إبداعًا نوعيًّا في مساره الفنّي لا يزال في الجزائر غير متداول لدى الفنانين التشكيليين:" الرسم على حجارة الأودية"، على أديمها يرسم فنّانا بشير بلباح أشياء جميلة نتعامل معها يوميا في حياتنا




تقاعد منذ سنوات، ولم تخـفت جذوة موهبته، فالتفت في وقت ما  إلى فنّ النحت، وبرع فيه، لكن يبدو أنّ ارتباطه بالتربية، ومعايشته للبراءة، والقرْب منها تغلّبت عليه، وأعادته طائعًا راضيا، ها هو يُبدع في لوحات فنية طفولية ينشرها يوميا على صفحته الفيسبوكية؛ كما أنه من القلائل في الجزائر الذين برعوا في الرّسم على الحجارة، ها هو هذه الأيام يفاجئنا بين يوم وآخر برسومات كاريكاتورية طفولية من كُتُبٍ يُعدّها.


 


      موهبة متعددة الأوجه، استمرّت في العطاء لِما ينيف عن النصف قرن، ولا تزال تبدع، وتزرع الجمال، كيف لا ؟ وفنّاننا (الكبير، القدير بشير بلباح) الرائع في علاقاته، المتسامح، الحيّي، الكريم بدون حدودٍ، المتفتّح، الودود، صاحب النُّكتة، والطّرْفة؛ وأن صديقه منذ ما ينيف عن النصف قرّنٍ، مُعْرضٌ عن الشهرة الاستعراضية، والنرجسية العاشقة للذّات.

        أرفع يديّ مخلصًا، صادقًا أن يرزقه ربنا الصحة والسلامة، وأن يمنحه طول العمر، ومواصلة غرْس الجمال، وتمتيع متذوّقيه، والشكر الله تعالى الذي خلق الجمال، وبثّه في كلّ تمفصُلات الحياة.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...