ما بعد المونقار
عرض: بشير خلف
صدرت هذه الأيام ترجمة كتاب:" ما بعد المنقار" للرحالة الصحفية، الكاتبة الأديبة (إيزابيل إبراهاردت.. 17 فبراير 1877 - 21 أكتوبر 1904)، ترجمة الكاتب المترجم ميهي عبد القادر، صدر الكتاب عن دار سامي للطباعة والنشر والتوزيع بالوادي. صمّم الغلاف كالعادة الفنان التشكيلي، المبدع القدير: كمال خزّان.
الكتاب من الحجم المتوسط A5 في 156 صفحة تضمّنت مجتمعة: 33 مقالة، بعد التقديم، والتمهيد.
الرحّالة كاتبة هذه المقالات الصحفية بعد أن انتقلت من ربوع وادي سُوفْ نحو الجنوب الغربي الجزائري، وتحديدً إلى عين الصفراء؛ كُــلّفت من طرف جريدة (الأخبار) لصاحبها فكتور باروكان بالجزائر العاصمة، في آخر سبتمبر 1903 توجّهت إلى عين الصفراء لتغطية أحداث الاضطرابات في تلك المنطقة، فكانت هذه المقالات الصحفية التي تضمّنها الكتاب. إذْ نقرأ في مذكّراتها:
« فجأة، اندلع قتال المنقار( منطقة جغرافية)، ومعه إمكانية أن أرى من جديد مناطق الجنوب، حيث يصعب العيش. ذهبتُ إذن إلى الجنوب الوهراني بصفتي مراسلة صحفية.»
إيزابيل إبراهاردت حينذاك هي مراسلة صحفية أيضًا لجريدة " لاديباش ألجريان"، كتبت سلسلة من المقالات عن الاضطرابات السائدة على الحدود الجزائرية الجنوبية المغربية، تختلف هذه المقالات الصحفية عن نصوص السرد، والقصص القصيرة التي كانت تنشرها عادة في صحُفٍ جزائرية أخرى أثناء عهْد الاستعمار. هي مقالات تُــبْرِزُ فيها إيزابيل( التوسّع الاستعماريّ الفرنسي في واحات الصحراء الجزائرية الجنوبية الغربية.)
استــفادت إيزابيل من صداقة الجنرال ليوتي قائد الحملة العسكرية على الجنوب الغربي، واحترامه لها، ممّا سهّل لها حياتها اليومية، وخاصة تنــقّلاتها، بدورها لم تتردّد في الدفاع عن سياسة الأسواق التي هي أساس نظرية الحماية التي دافع عنها ذلك الضابط صاحب الرؤيا المستقبلية لتلك السياسة، وقد ارتآها بديلا عن الاستعمار الكلاسيكي.
هل آمنت إيزابيل إبراهاردت بصدْق الجنرال ليوتي العسكري؟ فكّرت حينها" بأن الحلّ الذي اقترحه هو الأقلّ سوءًا بعْـد أن رأتْ البؤس، والعذاب الذي يكابده حينذاك السكان في الجنوب الوهراني.
قــدّم للكتاب بشير خلف:
« ... بالكاد أغلبُ مقالات الكتاب تتميّز بهذا الدّفق الأدبي الإبداعيّ الماتع، فالنصّ الأدبيّ لِما يتّسم به من خصوصية، منها الأحاسيس، والمشاعر، والتخييل، يَحْـتمل عديد الترجمات التي قـد تختلف من مترجم إلى آخر؛ فالمترجم القدير ميهي عبد القادر باعتباره ترجم عديد الأعمال الأدبية للرحالة إيزابيل إبراهاردت، شكّـل من خلالها في رأيي مدرسة ترجمية "مِيهيّة " بامتياز تجذب المتلقّي مع النصّ المتُرجَم، بحيث يتماهى معه، ويتصوّر أنْ لا نصٌّ أصليٌّ البتّة.
وهذا ما تراءى لي بعد قراءتي لمقالات هذا الكتاب أن الأستاذ ميهي عبد القادر، كما في كلِّ ترجماته للأعمال الإبداعية للرحّالة الأديبة إيزابيل إبراهاردت، أنه مُبدع مقتدر آخر لنصوصها، ومقالاتها الأدبية، وغير الأدبية.» ص:04
إبداع ترجمي ماتع
القارئ المتلقّي لهذه النصوص المُترجمة من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية من قِبل المترجم ميهي عبد القادر، من سحْر النصّ، وروعة الترجمة، دون شعور من هذا المتلقّي قد يشعر أنه يقرأ للمترجم، وليس لكاتبة المقالات:
«... تنساب أيّام الصيف الأخيرة رتيبة. تنام مدينة الجزائر تحْــت سماءٍ مرْهقة، خالية من السُّحُب. تبدو الشوارع، حيث المارّة قليلون أكثر اتّساعًا، وتطُـــنُّ أسرابُ الذباب في ظلّ المنازل العابر. يغشى هضابَ مصطفى غبارٌ خفيفٌ، فينطفئ بياضُ مرتفعاتِ المدينة اللّبني. هنا في الأزقّة المختنقة تستمرّ الحياة، رغْم ذلك عنيفةً، ثملةً بالنور، والألوان، تتزيّن بالفواكه، والأقمشة المعروضة، وتشدو بغِـــناء العنادل السجينة في الأقـفاص أمام المقاهي العربية.» ص:08
سوق عين الصفراء
من مقال بعنوان" سوق عين الصفراء"
«... منذ مساء يوم الأحد يتوافد البدو عبْر المسالك، والكثبان يركبون الأحصنة، والبغال، أو هم راجلون يدفعون أمامهم حميرهم الصغيرة، الصبورة، وجمالهم الكبيرة البطيئة التي تمدّ رقابها المرنة، ومناخرها الشرهة نحو باقات الحلفاء الخضراء...أولاد عمّور، وبنو غيل شعْبٌ بكامله في هجرة مستمرّة، يتجمّع في عين الصفراء، ليحضر سوق صباح الإثنين.» ص: 114
من مقال بعنوان "وجدة":
«... حين تغْــرب الشمس، وعندما يبعث المؤذن نداء الصلاة تغلق" وجدة" أبوابها التي تَصِرُّ على مفاصلها الحديدية. تذهب المفاتيح إلى القصبة، إلى العامل حيث تبقى" وجدة" هكذا معزولة عن باقي مناطق الأرض، ولن يتمكّن أيّ بشرٍ من دخولها، أو الخروج منها. ما أنْ تجاوزنا القوس حتى خُـنقْـتـنا الرائحة عنيفة.. رائحة القاذورات، والمسك، والجيف، والزيتون المنقوع.
ثم إننا دخلنا في الوحْل، العـفن بين البِركِ الراكدة، المُخْــضرّة، حيث يَسِنُ البراز، والدواب الميتة، والقمامة النجسة، والخِرق البالية.
عوض صمْتُ التأمّل في مُدُن الإسلام الأخرى، هنا إنه حشْدٌ كثيف، وصاخبٌ؛ رعاع يتخبّط، ويتدحرج في وحــل الشارع، كأنّ ريحًا من الحُمّى مرّت على " وجدة""» ص: 132
كـلّ مقالات الكتاب بهذه الترجمة الإبداعية الرائعة والمضامين الماتعة: تاريخا، أدبًا تماهت فيه عذوبة اللغة، وسلاسة التراكيب، وتوظيف الكلمات، والتعابير في إطارها السليم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق