الثلاثاء، 24 يونيو 2025

 

نصّ "تيتانيكات إفريقية"

تراجيديا الهجرة.. بطعْم سواد الثلج

   كتب: بشير خلف   

      هجرات الشعوب، والأقوام قصة قديمة، مستمرة منذ بدء التاريخ، كلُّ بلد جزءٌ من شعبه من بلد آخر، أميركا مثلَا، هي "أمة مهاجرين" من كل بلاد العالم، ولا مجال للحيلولة من دون الهجرة هرباً من الظلم، والقمع بحثاً عن الحرية، أو هرباً من البؤس بحثاً عن حياة كريمة، ومستقبل أفضل.

 من رواية تيتانيكات

«كان الموج يأتي مثل جبال محتدمة تلطم المركب الذي أصبح مثل فقاعة ستنفجر آجلاً، أو عاجلاً. همس:

ـــ لماذا يوحي هذا المركب بأنه على وشك الغرق؟ وهذا الخشب الذي يئنّ ألا يعرف أنْ يصمت؟

     خلُص بعض المهاجرين إلى يقين قاطع بأن الكارثة واقعة لا محالة. وكلما رأى وتيرة الرعب المتعاظمة، خشي أن يفقد الناس الأكثر هلعاً صبرهم، ويقفزوا إلى المياه؛ لكن الخطر الحقيقي لم يكن في الموج على الرغم من شراسته، بل كان في الثقب الذي ظهر في أرضية المركب، وأخذ يتدفق عبره السيل، مهدداً بغمر المحرك. ضربات الموج العاتي وقرقعات الخشب، وانخلاع أجزاء من جسم المركب الخارجي، جميعها تكفلت بإضرام الصراخ والهذيان، وانفلات الأعصاب.»

  رواية "تيتانيكات أفريقية" للكاتب الأرتيري أبو بكر حامد كهال، هي رواية إريترية في 112 صفحة من الحجم المتوسط، تتناول قصة الهجرة غير الشرعية من أفريقيا إلى أوروبا. تدور أحداث الرواية حول مجموعة من المهاجرين من إريتريا، وإثيوبيا ،والسودان، والصومال، وغانا، وليبيريا؛ والذين يجمعهم سماسرة في قوارب غير صالحة للإبحار، ويرسلونهم إلى البحر عبر الصحراء؛ ثم إلى شواطئ أوروبا.

     تحكي تيتانيكات أفريقية قصة المهاجرين الافارقة الذين يعبرون الصحراء ثم المتوسط للوصول إلى أوروبا بحثا عن الجنة الموعودة. ومن خلال سرد رشيق، ومركز يقوم الروائي الارتري أبوبكر حامد كهال بتقديم قصة هؤلاء المهاجرين وهم يحاولون ايجاد معنى مغاير للأحداث التي يتعايشون معها، واحتكاكهم المتواصل مع الموت.

     إنها القصة التي ما تزال أحداثها مستمرة ومأساتها متواصلة.

     يصور الكاتب في الرواية الأهوال الضخمة التي يعيشها المهاجر مصورا كل الشدائد، والمخاطر، وزحف الموت، وغدر الطبيعة، والمعاناة من قهر الإنسان: بوليس، وسماسرة، ونخاسين لأخيه الإنسان.

    قال مؤلِّفُ الرواية:

« لقد قٌــدِّر لي أن أكون في المكان المناسب في ليبيا، التي يتخذها المهاجرون بلدا للعبور. اقتربت منهم كثيرا، وكان لي أكثر من تجربة فاشلة للعبور إلى أوروبا، ومن خلال تلك التجارب، وسماع قصص المهاجرين، كتبت هذه الرواية. هي محاولة لفتح نافذة على حياة هؤلاء الذين يخاطرون بحياتهم على قوارب متهالكة في سبيل حلم بعيد.»

    تسرد الرواية تفاصيل رحلة أبدار، "الشخصية الرئيسة"، الذي يبدأ مسيرته من إريتريا إلى السودان، ومن ثم إلى ليبيا، ويواجه خطر الموت من جانب عصابات تهريب البشر؛ ومع كل محطة، تتكشف تفاصيل جديدة عن معاناة المهاجرين، بين الأمل في الوصول إلى أوروبا، والحلم بحياة أفضل، وبين الواقع المرير الذي يواجهونه على أرض الواقع، بأسلوب سردي متقن،

   وتتداخل الحكايات بين الواقع والأسطورة، لتقدم صورة نابضة بالحياة عن القارة الافريقية، التي يعكس كهال من خلالها تراثها الغني، وأغانيها الضاربة في جذور الوجود. لغة الرواية حوارية ثرية، مشبعة بالصور، والتشبيهات، وتحمل مصداقية التنوع اللغوي، واللهجات المتعددة في المنطقة.

     أبدار، الذي يقاوم «سحر الهجرة» طويلا، لكنه يستيقظ ذات يوم ليجد أن جرثومة الرحيل تسربت إلى دمه؛ فيجتمع 23 شخصا؛ بينهم 3 فتيات، وينطلقون من أحد مقاهي الخرطوم على متن سيارة المهرب، بعد أن دفعوا الرشاوى لحرس الحدود.

     الطريق شاق وخطير، ويواجهون مطاردة من قطاع الطرق الصحراويين (الهمباتا)، الذين يعترضون طريقهم ويجردونهم من ممتلكاتهم. بعد عاصفة رملية شديدة، يُضيّعُ السائق الطريقن وتنفد المياه، ما يؤدي إلى خسائر في الأرواح.

     في هذه اللحظات القاسية، تتجلى شخصيات الرواية في لقطات إنسانية مؤثرة؛ إذ تظهر الفتاة الإريترية «ترحاس» كأم للجميع، تحاول إنقاذ «أسقدوم» الذي يصارع الموت بينما تستيقظ في داخله ذكريات الحرب الدامية.

      ومنذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه أمام تساؤل وجودي مؤلم:

«هل ستغدو أفريقيا مثل خشبة مجوفة تعزف فيها الريح ألحان العدم؟»

     أبوبكر كاهل روائي وكاتب إريتري عاش في ليبيا، وعمل في اتحاد الكتاب الليبيين، قبل أن ينتقل إلى مهجره النهائي في الدنمارك.

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  نصّ "تيتانيكات إفريقية" تراجيديا الهجرة.. بطعْم سواد الثلج    كتب: بشير خلف            هجرات الشعوب، والأقوام قصة قديمة،...