أبو القاسم سعد الله .. بعيون مختلفة
قراءة في كتاب
المرحوم الدكتور أبو القاسم سعد الله
من كبار المثقفين الجزائريين الذين حملوا هموم أمتهم، ومجتمعهم ، متسلّحين بالأصالة
التي استمدّوها من الثقافة العربية الإسلامية؛ والفعالية التي اقتبسوها من المناهج
الغربية الحديثة المُحْكمة، في ظل ظروف مثبّطة ومعاكسة، لم تمنعهم من الإبداع، والمساهمة
في تنوير المجتمع والأمة وحلّ مشكلاتهما، وخدمة العلم والثقافة، وترقية الإنسانية.
الدكتور أبو القاسم سعد الله الذي ولد سنة 1930م بضواحي البدوع ..المنطقة
الفلاحية غربي قمار بولاية الوادي، وهو باحث ومؤرخ، حفظ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ
العلوم من لغة وفقه ودين، وهو من رجالات الفكر البارزين ومن أعلام الإصلاح الاجتماعي
والديني في الجزائر والعالم العربي، والذي غادر دنيانا مساء يوم السبت 14 /12/
2013 م.
الرجل كان موسوعة علمية وفكرية.. تلاميذه وتلميذاته الذين نهلوا من فكره
الغزير، ومنهجه العلمي الفريد.. هؤلاء الذين لا يمكن حصرهم منهم العديد صاروا
أساتذة، ودكاترة في الجامعات الجزائرية وخارجها، كما أن الأساتذة الذين زاملوه
وصادقوه وعملوا معه في الجامعة الجزائرية، لم ينسوا تلكم السنوات التي كان لهم
فيها نعم الصديق، ونعم العالم الموسوعي، ونعم القدوة .
هؤلاء جميعا رأوا أنهم مدينون إليه، فكان الوفاء من خلال مساهمتهم جميعا في
كتاب أشرف على إعداده، وجمع مادته الدكتور نجيب بن خيرة.
الراحل أبو القاسم سعد الله القائل:
« إنّ الأمم التي لها حضارات قادرة على
الصمود والمقاومة، هي التي تفرض نفسها على الحضارات الأخرى، وهي التي تمجّد
تاريخها، وتفتخر به، وتجعل له من الرموز ما يصبح به مثلاً يُحتذى، وهدفًا جديرًا
بالتقليد؛ بينما الأمم التي ليس لها نصيبٌ في الحضارة، أو تخلّفت عن ركبها بعض
الزمن نتيجة عجزها عن المقاومة تحاول أيضًا تمجيد ما عندها من رموز، فترفعهم إلى
عليّين، وتحيطهم بهالةٍ تجعلهم بهالة يبلغون بها السماء.»
أبو القاسم سعد الله .. بعيون مختلفة.
عنوان الكتاب الذي أصدرته أخيرا
مؤسسة : عالم المعرفة للنشر والتوزيع لصاحبها الأستاذ رضا رحموني والكائن مقرّها
بالمحمدية، بالجزائر العاصمة.
الكتاب من الحجم الكبير به 85
مقالة تضمّها 421 صفحة، فضلاً عن المقدمة، والإهداء المُوجز إلى روح أبو القاسم
سعد الله.
جاء في المقدمة التي كانت بقلم
الدكتور نجيب بن خيرة الذي أشرف على الكتاب:
« إنّ أقلّ ما يجب على الأمة لمن عاش حياته مجاهدا في سبيلها، مسبحًا
باسمها، مدوّنا لتاريخها، حافظا للسانها، ذائدا عن حياضها، مدافعًا عن حقّها... أن
تجعل يوم وفاته أحد أيامها الخالداتـ تهرع فيه إلى تمجيد ذكره، وإعلاء قدره،
فتستطيب الحديث عنه، وتستملح سيرته، وتجعل أجيالها طرًّا ذاكرة تحفظ صورته، وعيونا
تقتفي آثاره، وقلبًا منقوشًا على صفحاته الفراق... والأمم الكبيرة تكبر بقدْر ما
تُجلّ عظماءها، وتُعلي من قدرهم، وتكرّم مثواهم؛ فإذا تناستهم وهم أحياء، ونسيتهم وهم
أموات...فتلك بليّةٌ كاسفة، ليس لها من دون الله كاشفةٌ...! !»
مقالات الكتاب الخمس
والثمانون قيلت أيام وفاة الراحل، وكذا إثر ساعات دفنه في الصحافة الوطنية
المكتوبة، وفي المنابر الجامعية.. مقالات أنصفت هذا الرجل العظيم، منها مقالة شكر
وتقدير لنجله الدكتور أحمد ..شكر وتقدير لكل من واسى عائلة الفقيد، وشكرٌ خاصٌّ
ليومية الشروق التي فتحت صفحاتها لعدة أيام سواء في نسختها الورقية، أو
الإلكترونية لكلّ من أدلى بشهادة حول الفقيد، ثم إن الشروق هي السبّاقة في تنظيم
يوم الثلاثاء 17/12/2014 جلسة تأبينية تحدّث فيها لفيف من رجال القلم، ومن أصدقاء
المرحوم عن ذكرياتهم معه، وعن خصاله.
لا نستطيع أن نُورد أسماء كل
الذين وردت مقالاتهم في الكتاب في هذا الحيّز المكاني، فقد نكتفي بذكر بعضهم :
الدكتور إبراهيم لونيسي، الدكتور أحمد سعد الله، الدكتور أحميدة عميراوي، الأستاذ
أرزقي فراد، الدكتور أزراج عمر، الأستاذ بشير بوكثير، الأستاذ التهامي مجوري، الأستاذ
الطاهر الأدغم، الأستاذ الطيب برغوث، المرحوم أبو القاسم بن عبد الله، الدكتور حسن
تليلاني، الأستاذ حميد عبد القادر، الأستاذ سهيل الخالدي، الأستاذ صالح عوض،
الأستاذ عبد الحميد عبدوس، الأستاذ عبد الله عثامنية، الأستاذ عدّة فلاّحي، الأستاذ
عز الدين ميهوبي، الدكتور الأمين بلغيث الأستاذ محمد الهادي الحسني، الدكتور مخلوف
عامر، الدكتور ميلود عويمر،...
أجمع كل من كتبوا عنه، وأدلوا
بشهاداتهم عن المؤرخ والأديب الراحل الدكتور أبو القاسم سعد الله أن الفقيد كان منبع
علم يغترف منه الباحث المتعطش، وقد وهب حياته من أجل إشاعة العلم والمعرفة في
أوساط المجتمعات الإنسانية. وأفادت هذه الشهادات بأن " شيخ المؤرخين" كان
يعتبر المعرفة الوسيلة الوحيدة لتحقيق وإرساء ما كان يسميها ب"أطر النهضة المعتدلة"
فهو بحق كان أحد أعلام الإصلاح الاجتماعي والديني في العالم العربي لإيمانه "أن
التغيير لابد أن يمر هادئا بالدعوة المستمرة إلى العلم، ونشر أسس وأبجديات التعلم".
وتشير هذه الشهادات إلى "أن اهتمام الدكتور
أبو القاسم سعد الله العلمي الأكبر قد انصبّ على التحقيق، والتقصي، والكتابة في عمق
الدراسات التاريخية لاسيما تاريخ الجزائر الثقافي لإيمانه القوي بأن معرفة الأمم
لتاريخها هو إرهاصات بداية تحقيق وثبة نوعية مميزة تشمل شتى نواحي الحياة ".
وهو القائل عن الجزائر
المعاصرة وهي تدخل الألفية الثالثة وهو يتحدث عن بمرارة عن واقع المدرسة الجزائرية
في كتابه " خارج السّرب " ص 24:
«... إن الربط بين المؤسسة التعليمية، ومستقبل البلاد الاقتصادي،
والاجتماعي أمرٌ محتومٌ؛ إذْ من المفروض في هذه المؤسسة أن تُجذّر الهُويّة
الوطنية في أذهان الشباب، وأن تساهم في وقْف أمواج هجرتهم، أو الهروب من بلادهم
إلى أوطان أخرى يجهلون أجناسها، ولغاتها، وعاداتها.
إنّ الرعب الذي كان يصوّره
التلفزيون الجزائري أمام الأطفال، والعائلات قد نفّر الكثيرين من واقع بلادهم،
وجعلهم يبحثون عن المَهَاجر، أو الأوطان البديلة.»
وهو يجيب عن مجموعة من
الأسئلة طرحها عليه منذ سنوات بشير حمّادي مدير أسبوعية الحقائق حينذاك، منها سؤال
فحواه :
ـــ انشغالكم بالكتابة التاريخية لم
يبعدكم عن الكتابة في الشأن الراهن، وهموم الوطن والمواطن منذ الاستقلال، فما هو تقييمكم
لسنوات العسر واليسر؟
كان ردّه رحمه الله :
« لم أتخل يوما عن متابعة أحداث البلاد الجارية، سواء كنت أعيش داخلها أو في
غربة عنها، وهناك أسباب وراء ذلك فأنا منذ حياة الطلب كنت أهتم بالأدب والتاريخ والصحافة،
والصحافة والأدب تجعلان المرء يعيش الواقع ويتفاعل معه وينفعل به، وأعتقد أن كل مواطن
يجب أن يحس بما يجري في البلاد باسمه، وبما يجري في بلاد العرب والمسلمين بحكم الانتماء
إليها، بل عليه أن يحس بما يحدث في العالم من حوله لأنه يؤثر فيه وعليه سلبا وإيجابا،
وها نحن نتحدث عن العولمة والقرية الصغيرة، فكيف لا نتفاعل مع ما يجري من حولنا ولا
يكون لنا رأي فيه؟ بعض الحكام لا يريدون إشراك محكوميهم، ولو بالرأي فيما يقومون به،
فهم يريدون أن يفعلوا ما يشاؤون بدون مساءلة ولا رقيب، إنهم يريدون الحكم في غفلة من
شعوبهم، فإذا تحركت الشعوب، مع ذلك، فهم لا يريدونها واعية صامدة، وإذا فعلت سلطوا
عليها وسائل الاستبداد من زبانية وقوانين جائرة حتى تبقى مقموعة مكبوتة، ونحن نتذكر
ما كان يفعله معنا الاستعمار، فطالما نحن نيام على حقنا جاهلين لحقوقنا كان الاستعمار
سعيدا فاعلا لما يريد معتبرا البلاد وأهلها في حالة استقرار ورضا، أما إذا تحرك الناس
وقرأوا الصحف واستمعوا إلى الإذاعات، واجتمع بعضهم مع بعض في جمعية أو حزب أو نقابة
وتحدثوا عن الحقوق والواجبات فإن الاستعمار تثور ثائرته ويلجأ إلى الوسائل الجهنمية
لإجهاض أي تحرك، إن ذلك من طبائع الأشياء فليس هناك فرق في ذلك على الأغلب بين حكم
استعماري وحكم وطني، فعلى المواطنين حينئذ أن يظلوا يقظين مهما كان الحكم، وقد رأينا
حكاما كثيرين أساؤوا السلطة ولم يردعهم أحد، ورأينا قوانين جائرة أجيزت في غفلة ممن
يعنيهم أمرها، وفي كل حين تزداد الضرائب وتبذر الأموال ولا نرى أو نسمع تنديدا
أو رفضا لانتخاب الحاكم الجائر، ولا انسحابا من الحزب الذي يدعمه، وها نحن نرى الديمقراطية تُـــرفع شعارا
فقط لا حقيقة، بينما تجري السفينة في اتجاه آخر وهو اتجاه الديكتاتورية والاستبداد.
إن ما أطلقتم عليه سنوات العسر واليسر يدخل في هذا الحيز، فلو كانت فيه مساءلة وشفافية
لما حدث العسر، ولو كانت الأمور بيد الشعب لاستفدنا من اليسر فائدة جلى، لقد حاولوا
أن يجعلوا من الشعب أداة ولكنه لم يسلم لهم القياد، من حسن الحظ، رغم أنه عانى من العسر
ولم يستفد من اليسر حتى الآن لقد حاولوا مرمطة الأرض به، وإدخاله إلى جهنم بالخديعة والإغراء
ولكنه ظل شامخا، لقد فهم اللعبة ولكنه لم يستطع أن يوظفها لصالحه.. » { الحوار
كامل في ثلاثة أعداد من أسبوعية الحقائق، الأعداد: 21،22 ،23 }
رحم الله الرجل وأسكنه فسيح
جنانه.. يرحل العباقرة وتبقى أعمالهم، وخصالهم، ومآثرهم في خدمة الإنسانية
الكتاب الذي بين أيدينا أشرف
على جمْع مادته، وتنسيقه الدكتور الباحث، والأستاذ الجامعي بجامعتي الأمير عبد
القادر، والشارقة بالإمارات العربية المتحدة، وتولّى طبْع الكتاب ونشره الأستاذ
رضا رحموني صاحب دار عالم المعرفة للنشر والتوزيع الكائن مقرّها بالمحمدية
بالجزائر العاصمة الذي أبى إلاّ أن يوزعه دون مقابل إكرامًا لروح الراحل سعد الله
.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق