الثلاثاء، 1 ديسمبر 2015

عبق من الأعمال غير الكاملة للأستاذ بشير خلف


عبق من الأعمال غير الكاملة للأستاذ بشير خلف
بقلم: أحمد مكاوي
       في خمس وخمسمائة صفحة جمع الأستاذ بشير خلف مجموعاته القصصية الخمس تحت عنوان "الأعمال غير الكاملة " لتصدرها دار الثقافة محمد الأمين العمودي لولاية الوادي في طبعة جيدة هذا العام(2015).
       الأستاذ بشير خلف غني عن التعريف  لا يحتاج الواحد منا إلا أن يضع اسمه على محرك البحث قوقل فيخرج له سجل من النشاطات والأعمال التي ترفع الرأس وتملأنا زهوا به وبأننا نعرف الرجل ونعايشه عن قرب..
      ما لا يقوله قوقل أو الصفحتان اللتان في آخر الكتاب التي عرفت به وبمنجزه الكتابي هو :
أن الرجل مؤسسة ثقافية متحركة، ومثل يضرب في نظافة اليد واللسان ،ورجل جاد لا يهادن ولا يجامل عندما يتعلق الأمر بجودة العمل الأدبي ، يرى أن ما لا يوثق عمل موسمي يصرف فيه المال ثم ينسى ، لذا هو أحرص الناس على توثيق الأعمال الثقافية ، وتشهد له الكتب التي أصدرتها الرابطة الولائية عن الملتقيات التي عقدتها. والروايات الست التي طبعها كثمرة لمسابقة الرواية القصيرة التي تنظمها الرابطة أيضا والتي تتشرف بأن يكون بشير خلف رئيسا لها .. بدأ الكتاب بتصدير بقلم مدير دار الثقافة الأستاذ محمد حامدي  محتفيا بالكتاب الذي تصدره الدار .
        تلا ذلك مقدمة للقاص بين فيها مفهومه للقصة القصيرة ومكوناتها راجعا بنا للبداية الأولى 1972 حين نشر قصته البكر لتنطلق المسيرة على امتداد عقود من الزمن جعلت منه أحد قاصين الكبار المعروفين في الجزائر ،يقول فيه شربيط أحمد شربيط في كتابه" تطور البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة[اتحاد الكتاب العرب1998]":" التزم بشير خلف بالأصول الفنية المعروفة في القصة القصيرة خصوصاً بنية الحدث وطرائق عرضه، شأنه في ذلك شأن زملائه ...ويشكل الزمن الماضي ميداناً رحباً تجول فيه أحداثه وشخصياته، وقد حاول في بعض قصصه تجاوز عالمه الأثير المميز إلى ميدان التجريب، ولكنه بقي مشدوداً لعالمه ورؤيته الفنية والفكرية...واهتم كذلك بعنصر الوصف حتى كاد يبدو، وكأنه يريد أن ينقل المشهد بكل تفاصيله، ودقائقه، خصوصاً المشاهد الطبيعية.
        ويظهر في بيئته الفنية كثير من الخصوصيات المحلية مثل الحياة اليومية للأهالي ونضالهم، لدفع الفقر والحرمان.‏"
       أن تتناول عمل ضخما مشكلا من خمس مجموعات قصصية تحتوي على ثنين وستين قصة يعني وقتا كبير لا يتاح إلا لمتفرغ .. لذا قمنا بعمل انتقاء اعتمدنا فيه القصص التي عنون بها القاص مجموعاته وقد خالف القاص منهجه في اختيار عنوان قصة من قصص المجموعة في "ظلال بلا أجساد" فقد كان العنوان للمجموعة دون أن يكون عنوانا لقصة منها فاخترنا قصة من قصصها لعرضها هنا .
      لا أقدم هنا دراسة فنية عن الأعمال غير الكاملة ولا أقول أنني ناقدا فيها بقدر ما أنا قارئ لهذا العمل الكبير الذي وجب الاحتفاء به على جميع المستويات (أكاديميا وصحفيا وتربويا) لأنه مادة ثرية تسمح بفتح ورشة بحثية على امتداد سنوات تتناول فيه مواضيع كـ( الشخصيات القصصية ـ الزمن ـ الحدث  ـ تقنية السرد ـ المكان ـ اللغة ـ العناوين...)

1 ــ أخاديد على شريط الزمن من مجموعة (أخاديد على شريط الزمن)
      هي القصة العاشرة في ترتيب المجموعة المكونة من عشرين قصة امتدت من الصفحة الخامسة والسبعين حتى الصفحة الثالثة والثمانين من الكتاب وهي تتحدث عن :
صاحب مقهى غامض مثقف ،و شاب معجب ومتسائل، لا يريد هذا الرجل (عمي صالح) أن يُعرف عنه شيء ينهر كل سائل لكن بعد أن لزم الفراش مريضا يقرر أن يبوح بسره ..ليس لأحد غير ذاك الشاب ..
      الشاب منذ دخل المقهى و سمع و رأى ما كفّ عن التأمل  مما سمح للقاص أن يسرد على لسانه وأن يصف ما حوله وقد تلازم الوصف والسرد بطريقة رائعة تبين قدرة القاص على التصوير والتقاط الجزئيات من الواقع ليجعل منها لوحات قصصية رائعة ..
      عند حديثه عن اللوحة المعلقة على جدار المقهى يقول الراوي :«تلك اللوحة تتراءى لك في آخرها سلسلة جبال كللتها غابات كثيفة من أشجار تحيط بها غلالة رقيقة بيضاء ،تتوسطها قمة عالية استقرت عليها ثلوج فـي تاج فضي لمّاع، في سفوحها امتد نهر رقراق يمتد في أبهة وخيلاء، كطوق من الزهور النضرة وُضع على جيد عاجي ..حرسته شجرات على جانبه راحت تتطاول بأعناقها وامتدت إلى بعض ،واندمجت ،وامتزجت شكلا ومحتوى حتى تبلورت في شجرة زيتون عملاقة، احتلت ما يقرب من نصف اللوحة انغرست جذورها في الأرض وامتدت أفقيا وعموديا، والتفت في حنان حول بعضها أغصانُها الحبلى بحبات الزيتون  »(ص76/77)هذه اللوحة تلخص كل شيئ عن ذلك الرجل الثوري المجاهد  وما كانت مصارحته له بما كان إلا شرحا وتوضيحا تلك اللوحة.
        لوحة أخرى رسمها القاص على لسان الراوي لكن هذه المرة من الطبيعة «دخل بسيارته في درب ضيق جدا معبد امتلأت حفره وحلا وماء عفنا، امتدت على جانبيه أكواخ" كرطونية وقصديرية "، انتشرت أمامها وحولها صبية ارتدوا أسمالا بالية حفاة الأرجل، وجوههم كانت مأدبة شهية للذباب، فانصرف يلتهم منها ما استطاع، تجمعت نسوة وبنيات حول غدير ماء، رحن يغرفن منه في جلبة وصراخ ودفع بالأيد والأكتاف »(ص79) هي صورة لحياة البؤس التي كانت تعيشها أحياء جزائرية في زمن كان ...
       إن ما يمتع حقا أن سرد القاص تقطعه صور تصب فيه لتفتح هذا السرد لخارج الحدث لكنها لا تبعدنا عنه في ضربات رشيقة موفقة تؤرخ للحظات لم يعشها قارئ القصص لكنها قد تتشابه مع ما يحيط به حاليا.
       مفارقة جميلة في القصة يطرحها القاص حين يقول البطل (صاحب المقهى):«سلاحي عتيق جدا كما قيل لي يومها، عرضت سلاحي على عدت جهات، تقدمت به إلى أكثر من مؤسسة، اتفق الكل على عدم صلاحيته، سلاحي كان لغة الضاد، سلاحي الخزانة[الكتب]،أو بالأحرى المكتبة المتنقلة التي أذهلت عقلك، وأدهشت غيرك، بدا لأولئك أنها عتيقة وغير صالحة لهذا العصر، ولم أيأس.. »(ص81) إنه وفي حين كانت الحرب من أجل الهوية والتي شارك فيها البطل لكنه وجد أن أهم عناصرها وهي اللغة بعد طرد المستعمر تصبح مرفوضة منبوذة غير صالحة .
       وتكتمل المفارقة عندما يقول البطل: «ثم أكرمتني الثورة بالمقهى»!!(ص82)
       يموت البطل بعد هذا الإفضاء وإشباع فضول الراوي لينهي القاص على لسان راويه بهذه الصورة الوصفية وهو يخرج من منزل البطل: «كان آذان الظهر يغمر المنطقة فيزيدها خشوعا وجلالا، ومن بعيد كانت الحقول والمزارع ترتدي حلة خضراء جميلة، ووقفت الورود والزهور ضاحكة وثغورها الرقيقة تردد سيمفونية حلوة وهي تنظر إلى الكوخ.  »تنتهي قصة هذا البطل وقد حفر أخاديد على شريط زمن ما زال متواصل.
       هذه القصة تتمتع بخاصيتين أساسيتين : المفارقة التي التقطها من واقع كان يرجوه أفضل والتصوير بالكلمات لحال وطن أحبه ..

2 ــ القرص الأحمر من مجموعة (القرص الأحمر)
        هي القصة الأولى ترتيب المجموعة المكونة من ثلاث عشَرة قصة امتدت من الصفحة الثالثة والثمانين بعد المائة حتى الصفحة الثالثة والتسعين بعد المائة من الكتاب وهي  :
 قصة شاب ابن شهيد بعد أن جرب عدة أعمال عُين بشركة وبها اصطدم بالإدارة البيروقراطية التي تستغل العمال وتنهبهم وهو الذي وظف حديث وقع بين وصيتين متناقضتين وقد اختار الوصية الأولى: « تذكر دائما يا بني.. أباك قد اختار الموت بالرصاص وفاء لهذا الوطن ـ وإخلاصا لأهله.. وهد في المال الذي أغراه به القبطان روبير.. مقابل العمل معه.. المال ثعبان يا بني يسمم النفوس الطاهرة ويقتل الأرواح النقية.. احذر.. نصيبك منه ما تناله بجدك وعملك ..احذر يا بني..».(ص185/186) كانت هذه وصية أمه.
        والأخرى للمدير : «كل الخبز يا بني، ولا تحاول أن تفهم شيئا ..إن حاولت الفهم فقد تتعب.. تتعب كثيرا.. وأنا أشفق عليك من ذلك..».(ص184)
       وقد اختار وصية أمه وسلك درب والده..
        لم يهنأ المدير بوجوده ولا استراح.. ولم يترك فرصة إلا وذكره بما سمعه عند استلامه العمل منه أو من البواب ..فالشاب اختار خط معارضا لسلوك المدير وزمرته التي استغلت مناصبها وكان المدافع والمحرض للعمال وهكذا كان الصراع بين الوافد الجديد للشركة وعصابة التسيير. وقد ترك القاص النهاية مفتوحة ..
        الجميل هنا أن القاص يربط كل حدث بالطبيعة.. من البداية تبدو الشمس كاسفة :« القرص الأحمر مختبئ وراء الغيوم السوداء الزاحفة..»(ص183) هذه البداية  التي تختصر كل  يعيشها الشاب.. وحين يجد عمل يكون : «القرص الأحمر اختفى ..رذاذ المطر يغسل الشوارع والأرصفة.. ليت الرذاذ له القدرة على غسل القلوب ..ليته باستطاعته تحريك الضمائر وإحياء الميت منها.. مثلما هو قادر على إحياء الأرض الموات ..الظلام زاحف ورداؤه القاتم يلف بالتتابع كل الكائنات.. مقاومته بالمصابيح المختلفة الألوان والأشكال.. لكن الظلام أقوى ..إنما ليس النصر حليفه دائما.. انتكاساته عديدة ..فالنصر الدائم للنور .. للحق.. لكن البشر بأنانيتهم ..بألاعيبهم وطمعهم بحيلهم العديدة يعملون على إخفائه.. على محقه.. على إزالته من العالم ..بيد أنه أقوى.. والنصر في النهاية حليفه مهما كانت المكائد »(ص186).
        هكذا ربط  (القاص) الظاهرة الطبيعية بالصراع بين الحق والباطل وهي نظرة متفائلة جدا يتبناها في الواقع القاص وجاءت هنا في تأملات بطله. لكن الواقع ليس خواطر ولا آمال إنه شيئا آخر..
      ويعود من جديد للطبيعة وهو يكشف ما تقوم به العصابة المسيرة  «القرص الأحمر اختفى .. الرذاذ يتساقط دون انقطاع ..العتمة تسربت إلى كل مكان.. حرارة القرص لا تزال كامنة في كل مساحة لمستها الأشعة.. الرذاذ بيده الحانية يعمل على إبعاده بالحسنى.. إنها عنيدة.. الصمود ليس من صفاتها.. لكن الرذاذ سيتحول إلى هطول.. سيكون سيولا.. طوفانا.. سيجرف معه كل العفونات.. كل البقايا المتخمرة.. الأرض ستظهر بوجه جديد ..نقي ..قوي.. معطاء» (ص187) ويكون هذا عندما يتحرك العمال كما تتحرك السيول لتغسل ما علق بالأرض..
      لينهي القصة: «القرص الأحمر اختفى منذ وقت.. يبدو أن الحرارة لم يتغلب عليها الرذاذ بعد ..لا تزال قوية ..أحس بها تمتد إلىّ.. تحتويني ..تحرقني.. تحيلني ذرات من الرماد تائهة ..غريبة في كون.. تآزر فيه جنس اللهيب الحارق.. ليتني كنت أمواجا غاضبة ..هادرة.. شلالا كاسحا.. يقتحم يزيل منه العفونات ..كل التخمرات ..بل ليتني كنت رذاذا فقط.. رذاذا.. فقط.. ليتني.. ليتني..»(ص188) الشمس التي اختفت خلف الغيم تستبدل برذاذ .. وهو الذي تمنى في حمـأة الصراع أن يكون موجا غاضبا وشلالا كاسحا .. ليكون تمنيه في الأخير أن يكون رذاذا وفقط لأنه أقل ضررا وأكثر نفعا يغسل ولا يحطم ..يطهر ولا يفسد شيئا ..
      إنه التفاؤل يمكننا أن نقول ..ويمكن أن نقول إنه يأس من التغيير استبدل بالتمني
      طبعا السياق الزمني لهذه القصة مهم لنعرف رؤية القاص ومغزاه ..

3 ــ الشموخ من مجموعة(الشموخ)
        هي القصة الأولى في ترتيب المجموعة المكونة من ثماني قصص امتدت من الصفحة الثانية والستين بعد المائتين حتى الصفحة السادسة والستين بعد المائتين من الكتاب وهي موزعة على:
أربع لوحات قصصية لخصت مأساة وقدمت قيمة كبرى في شخص جدٍ لا نعرف اسمه ، بل ولا تسمية هنا فالجدة والأحفاد لا نعرف لهم أسماء إلا ليلى  ولو ترك تسميتها لكن أفضل فالتسمية هنا لم تضف شيئا .. وعدم ذكر الأسماء في أن هذه القصة تخبرنا أن شخصياتها متكررة في أنحاء الوطن وليست حالة فردية ..
      القيمة هي العزة والشموخ والأنفة وعدم انتظار الجزاء على واجب .
      أما المأساة فهي أن يكون جزاء من قدم أغلى ما يملك بوابا لأحد المسؤولين يمنع عنه دخول من وُضع هو أساسا لخدمته .. رفض أن يعمل مع المستعمر وبقي متمسكا بأرضه الصخرية يستصلحها بجهده وعرقه. قدم ولده شهيدا على الحدود الجزائرية التونسية عن قناعة بأن ما قدمه  فداء وتضحية واجبة للوطن وللحرية التي يعشقها ..
       يقبل بعد إلحاح أن يعمل في عمل عرض عليه لكن عندما يعلم ما العمل يرفض فلم يقدم ابنه ليكون حارسا لشخص يتعالى على مواطنيه .
       يرفض أن يأخذ بطاقة تجعل له الأولوية على غيره فالتضحية والواجب ليس له ثمن في عرفه. ما زال وهو في السبعين يؤمن بقيمة العمل والمحافظة على الدين وفضيلة العمل يرسخها في الأحفاد بكل سمو وشموخ.
       هذه القصة بلوحاتها الأربع (خلود ـ توصية ـ رائحة الماضي ـ نور الفجر) تعطي دستورا أخلاقيا في الحياة .
       قصص المجموعة (شموخ)في خمس منها  تعتمد اللوحات القصصية التي بتجميعها ووضعها جنبا لجنب تشكل ما أراد القاص بثه في كل قصة .. الجميل أن بعض اللوحات يمكن أن تشكل قصة لوحدها بمعزل عن القصة الأم..

4 ــ الدفء المفقود من مجموعة (الدفء المفقود)
        هي القصة ما قبل الأخيرة ترتيب المجموعة المكونة من تسع قصص امتدت من الصفحة الثانية والثمانين بعد المائة الثالثة حتى الصفحة الثالثة والتسعين بعد المائة الثالثة من الكتاب وهي :
عن المدينة والنزوح إليها وترك القرية والعائلة هذه هي موضوعة القصة ..
        عامل يومي يبحث عن عمل ويجده عند صاحب حمام ، يسكن في غرفة عفنة ، وبراتب بسيط جدا يخفي ذلك عن والديه مدعيا أنه يعمل في محل محترم ويأخذ راتبا مجزيا لكن صاحب العمل خوفا عليه يحتفظ له بثلاثة أرباع المرتب ليفاجئه بعد مدة بمفاجأة سارة... الوالدة المسكينة تصدق كل ما يقول ولدها الوحيد ..لكن الوالد المقعد يعرف أن ابنه يكذب لكنه لا يواجهه يشكك في كلامه فقط هو الذي وصّف المدينة جيدا حين قال له: «المدينة يا ولدي بئر عميقة جدرانها ملساء ..كلما حاولت الخروج منها ارتددت على أعقابك خاسئا ..صقيعها ينخر خلاياك.. فيها تفقد الدفء الإنساني الذي ترعرعت فيه .. »(ص391)
       كل الأحداث التي يمر بها في المدينة تزيده يقينا بقسوتها ..هو الذي خرج مبكر من التعليم دون شهادة أو مستوى.. وكلما داهمه حدث إلا وعض على أصابع الندم وهو يتذكر كذبه ..وتركه للأرض التي يمكن أن تكون له مورد رزق ومنجى من العذاب الذي يعيشه..
      صاحب الحمّام طرده من العمل في صورة إجازة بدون مرتب ..وصل الحال به إلى أن لا يجد ما يأكل فيسترجع حديث والده: «الحياة يا ولدي رحلة شاقة في درب طويل ..أرضه تارة مفروشة بالورد، وتارة بالأشواك.. وعلينا جميعا السير في هذا الدرب مرغمين.. وسيلة السير يا ولدي تختلف أمامنا، والحياة تجارب ..جرب سيأتي يوم تجد البرد يسكن كيانك ..ينخر عظامك.. الدفء موجود هنا في البيت البسيط بساطة أهله وطيبتهم »(ص392)
        يقرر العودة ويترك المدينة يقول له رفاقه لم.. أنت بخير هنا؟ يقول : «الخير الذي تتكلم عنه يحصل إلا عندما أستعيد الدفء المفقود الذي فقدته هنا سأجده هناك مع حنان الأصول ، ومع التربة الزكية المعطاء»(ص393)
        جاءت العبارات قوية والمعاني عميقة واللغة لغة مثقفة في الحوار الدار على لسان الأب الذي ربما التجربة عمقت معانيه و الابن  الذي صدمته حياة المدينة وعركته المأساة فجعلت منه متأملا عرف ما يرد على المدينة التي ما قبلت به فكان القرار الذي تأخر أخذه وكان الرجوع المنتظر..
       المدينة بالنسبة للريفي مهما كان مستواه  صادمة التأقلم فيها و معها يحتاج لوقت ، فيه من يصبر ليحصل عليه,  وفيه من تقهره ليحن ثم يفر عائدا من حيث أتى وبطل القصة من هذا الصنف الأخير لكن القاص المتفائل دوما يجعل العودة انعتاق من ذل وعودة لانطلاقة حياة وعطاء لا ينتهي،  في أرض وأسرة تحتضن العائد لها وإن أخطأ في حقها ..

5 ــ ظلال بلا أجساد
رجل على الهامش 
        هي القصة السابعة في ترتيب المجموعة  المكونة من اثنتي عشرة قصة امتدت من الصفحة السبعين بعد المائة الرابعة  حتى الصفحة الثالثة والثمانين بعد المائة الرابعة من الكتاب 
        لم يعنون المجموعة بقصة من قصصها كما فعل في المجموعات التي قبلها.. ربما لأن كل قصة من قصصها تصلح لأن تكون عنوانا للمجموعة فالعناوين التي عُنونت بها القصص كلها عناوين لعب المجاز فيها لعبته والقضايا التي تحملها تدفع بها لتتزاحم أمام القاص لكي يقف في مقام الحيرة وانتهت حيرته بأن اختار عنوانا للمجموعة أشمل وأجمل فالأجساد التي تتحرك في هذه المجموعة غمرتها الحياة بهمومها لتترك فقط على المسرح ظلالا من المشاعر والهموم التي تؤرق القاص من خلال أبطال القصص، وهذه المجموعة بالخصوص نلمح فيها المسحة التأملية للقاص وهو يلحظ التغيرات التي تطرأ على مجتمع  يتفكك وقيم تكاد تزول ومعان أصبحت ظلالا تبحث عن أجساد تتحرك بها في واقع يهترأ شيئا فشيا ...
      أغلب إن لم نقل كل أبطال وشخصيات القصص في هذه المجموعة بلا أسماء وتجامل التسمية ليس اعتباطا فالتسمية تحد و هو هنا يفتح  وهو يعالج القضايا التي طرحت هنا لا يعني جهة ولكن ما يتكرر عبر هذا الوطن الشاسع المتنوع ...
         اخترت  هذه القصة لتكون مع أخواتها من قصص المجموعات الأخرى ..  وأعتبر هذه القصة عروس المجموعة بل وعروس القصص الأخرى ..
        يقدم القاص قصته بمقولة لوليام جيمس «ليس هناك من هو أكثر بؤسا من المرء الذي اللاقرار هو عادته الوحيدة.»
        وهي قصة رجل اضطرته الظروف الحياتية للعشرية السوداء أن يفر خارج الوطن يعيش صراع داخلي حول العودة واللاعودة يستذكر كيف كان قبل أن يهاجر وما عاشه في المدينة والوطن الجديد هو الشخص الذي لا يريد أن يكون مع أحد ضد أحد.. هو الرجل الذي تعلم على فقر وقبلت به زوجته التي تنتمي لأسرة ثرية على غير رغبة أهلها .. هو الذي يعيش في مدينة فتحت له ذراعها لتعطيه كل شيء لم يجد عُشْرَهُ في بلده ..زوجته وابنته تفضلان العودة بعد جدال طويل معه دونه.. وهو الذي يراها رغم بقائه فيها خمسة عشَرةَ عاما "هي مدينة لا تشبه مدننا. مدينة يسكنها الصقيع/فيها نساكن الأشباح، من خريطة الوطن البعيدة نسترجع الذكريات ، نستنجد بالذاكرة ..أين روح البلد؟ أين دفء الأهل والأحبة؟.."(ص481)
       ومع ذلك تنتهي القصة نهاية مفتوحة لا ندري أسيعود ملتحقا بزوجته وابنته أم سيبقى في مدينة الصقيع هذه "الأقلام قبالتك متناثرة.. أوراق ممزقة.. أخرى عليها خربشات، وتلوينات غير منسجمة ..تذكرة السفر بجانب السرير فوقها الفاكس الذي وصلك بالأمس ذيل
 بخربشة من خربشات ألفتها وهي محببة إليك.."(ص481)
        إن الحوار الداخلي الذي كان سيد القصة هنا حوار لذيذ فيه من التأمل والذكرى والتصوير والصراع ما يجعل القصة تتحول لمحاكمة الذات والوطن والزمن ..
       إن البطل هنا بدون اسم والمدينة والبلد المهُاجر إليه كذلك.. فقط زمن القصة المحدد بعدد سنين الهجرة وما قبلها حيث البلد تعيش أزمنة الرعب وهذا الزمن يشارك البطل بطولته ويضيق عليه الخناق ويبعث فيه التردد وهو السمة التي ميزت شخصا يكاد يكون بلا موقف إلا موقف الهروب إلا الأمام بلا توقف ليعيدنا هذا الموقف لمقولة وليام جميس التي بدأ القاص بها قصته ..
       كل شيء في هذه القصة يحيلك لقدرة القاص على مسك خيوط قصته.. السرد الذي ينطلق من اللحظة الحاضرة  حيث التردد والحيرة ليعود بك إلى المرابع الأولى حيث الدراسة والتفوق ثم اللهاث خلف الوظيفة التي لا تجيء والتهديد الذي يحرك في البطل رغبة الهجرة وطبعا ليس هو الوحيد فالعوامل اجتمعت ليعود للحظة التي يجد نفسه في مدينة الصقيع فيها وحيد بعد أن تركته من كانت معه وقبل ذلك كيف عاد إلى الوطن وما استقر .. فقط أخذ معه قطعة منه تقرر العودة إليه بعد خمس سنوات .. إلى الوصف الرائع الذي يتخلل السرد وهو وصف ينطلق من الحالة التي عليها البطل ..
       إننا هنا أمام قصة تفتح شهية القراءات من زوايا متعددة ..ومع هذا تجد القاص من بعيد يلوّح للقارئ اللماح أن البديل عن الوطن الضياع. هو وَفِيٌّي للقيمة التي يجب أن تكون في القصة ..هو وَفِيٌّي المربي الذي فيه وما نسي أبدا هذا في جميع قصصه في هذه الأعمال الغير الكاملة . 

خصائص فنية :
1 ـ النهاية المفتوحة: يعتمد القاص على النهايات المفتوحة في الكثير من قصصه وهي نهايات تجعل للقارئ فضيلة التخيل بناء على استيعابه للقصة وكذا لخلفيته الفكرية والفنية ..وهذه النهايات المفتوحة ليست متعمدة بقدر ما هي نهايات صنعتها شخصية البطل وطبيعة الأحداث..
2 ـ الحوار باللغة الفصحى: في كل القصص الحوار باللغة العربية الفصحى .. وقد يعيب البعض على الكاتب استعمال الفصحى عندما يجري الكلام على لسان فلاح بسيط أو عامل شبه أمي وهو اختيار فني وانحياز من الكاتب لموقف اتخذه ويبقى الأمر قابلا للأخذ والرد...
3 ـ حضور موضوعة الثورة التحريرية: وما تعلق بها في الأعمال غير الكاملة حضورا لافتا، من خلال قصص زمانها زمن الثورة أو من خلال الشخصيات ذات الخلفية الثورية (مجاهد ـ أب شهيد ـ ابن شهيد ـ ابن مجاهد ـ أرملة شهيد).وليس غريبا فالقاص هو ابن الثورة لا يدعي ببنوته ولا يستجدي...
4_ القضايا الاجتماعية : تنوعت وتعددت قضايا المجموعات ولكن اللافت فيها أنها كانت قضايا اجتماعية .. وهي قضايا متساوقة مع زمن كتابة القصص وما كان مطروحا على الساحة الوطنية.. واللافت أيضا أن المجموعات القصصية في تناولها للقضايا الفكرية لم تتعدّ الوطن مكانا لكنها قضايا الإنسان التي يمكن أن تكون في أوطان أخرى، فالمعالجة الإنسانية تسمو بها لتكون تعبيرا عن مطلق إنسان مهما كان مكانه..
5 ـ ضمير  القص :الملاحظ في القصص أن ضمير القص متعدد ومتنوع ولذا كان المجال واسعا لينوع طريقة السرد ويتحكم في أحداثها .
6 ـ كل قصص(ظلال بلا أجساد) قدم لها بمقولات لكتاب وفلاسفة عالميين.
      والذي يُـــنهي قراءة القصة يجد رابط بين المقولة، والغاية، أو القيمة الفكرية التي تغيّاها القاص طبعا لا تجد الأمر مباشرا أبدا ...














ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...