بقلم: بشير خلف
اقتنيت
أخيرا من جناح دار النشر ( خيال) لصاحبها الشاب رفيق طيبي بمعرض الكتاب بالجزائر
سنة 2019، رواية بعنوان" كازا" للكاتبة الشابّة أحلام الأحمدي، توسّمت
بإهدائها الشخصي. الرواية من الحجم المتوسط في 147 ص. رواية حديثة الصدور مثلما هي
حديثة التأليف.( 1 أغسطس 2019)..ما أعرفه أنّ كلمة" كازا" يدلّل بها
أشقّاؤنا المغاربة مدينة الدّار البيضاء الجميلة.. أتساءل عن سبب إطلاق الكاتبة
الكلمة على نصّها السّردي الروائي؟
استهلّت
الكاتبة نصّها بإهداء جميل جدا اعترافًا بالجميل لوالدها، نصٌّ شعري يطفح عذوبة،
ورقّة، منه:
العالم الذي صنعته لي..
بدأ بصوتك الرّخيم يا أبي..
حكاياتك العجيبة والمدهشة..
خلقت داخلي حروفًا أعْجب..
النصّ الروائي اتكأ على التاريخ الجزائري المعاصر بدْءًا من ربيع 1936
المكان سانتارنو( العلمة حاليا)، وانتهاء بتاريخ 21 نوفمبر 1987 باغتيال الشخصية
الرئيسة المحورية بالرواية. شخصيات الرواية تعدّدوا، تنوّعوا من حيث حركتهم، وكمونهم،
هناك الشخصيات النامية في الحكاية، وهناك
الشخصيات المحورية الأكثر تحركا في مضمار السرد، والأكثر تأثيرا في تصاعد،
وتأزّم الحدث الحكائي، أبرزهم الطفل الصغير مسعود زغّار، البطل رشيد كازا فيما بعد؛ الأم نوّارة، الوالد
بوزيدي. بوصوف القائد الثوري الذي أطلق على مسعود رشيد كازا خلال تواجدهما أثناء
الثورة بالمغرب. بومدين القائد الثوري، رئيس الجزائر فيما بعد.دليلة أخت مسعود،
ماشينو عشيقها الفرنسي الذي هرّبه إلى كندا في خطة كيدية من فرنسا انتقاما من
أخيها رشيد كازا، جاكلين الزوجة الثانية. الموضوع الرئيس في الرواية المسار
الحياتي لرجل المخابرات العبقري الجزائري المعروف مسعود زغار. المُلمّ بالتاريخ
الوطني الجزائري المعاصر سيّما تاريخ الحركة الوطنية، والثورة الجزائرية لا يُفاجأ
بالأحداث الكبرى التي صنعها ذاك العبقري كمناضل، قاوم منذ صغره، ومُعدٍّ للثورة،
وضابط عسكري، ومخابراتي حتى ما بعد الثورة، ورحّالة لأغلب دول العالم جلبًا
للسلاح، ودفاعا عن الجزائر بماله، ومؤسساته الصناعية للسلاح في المغرب لتزويد جيش
التحرير به. أحلام وهي تؤثث لسرد مسيرة البطل العبقري بفضح فرنسا الاستعمارية في
إلحاق الغبن، والظلم بالشعب الجزائري بكل أعماره، وأطيافه، والطفل مسعود تفطّن
لذلك وهو في سن العاشرة من عمره: " كانت تلك المدينة التعيسة التي يسكنها
الفقر والفقراء، حيث صنع المحتلّ فيها حصارًا يهمّش الحياة، والرغبة فيها، ويقيّد
الطامحين بأغلال كانت تظنها باريس الوسيلة المثلى كي تجعل من هؤلاء البؤساء
يطأطئون رؤوسهم، ويقزّمون هاماتهم، ويرمون الجزائر من أذهانهم.ص9
تساءل الطفل الصغير القاطن مثل غيره في
بيوت سانتارنو البائسة ذات السقف القرميدي المخروم: ( هل يمكن أن أملك سقفا أجمل
يا يمّا سقف يبنيه المحرّرون، حيث الأنامل الثائرة التي لا تحدّها الحدود؟، ولا
يخرمها ظلم الفقر؟ولا ظلم فرنسا؟
الاستثناء أن الكاتبة أحلام الأحمدي توغّلت في مسيرة هذا الطفل العبقري،
وهو يتدرّج عُمُريا بكل التفاصيل، والزوايا المخفية التي لم يتفطّن إليها منْ
كتبوا عنه ..المسيرة الكبرى الإنسانية الثورية، المخابراتية العاطفية، والعلاقاتية
الأسرية، وغير الأسرية، والنفسية، والمؤامرات التي حيكت ضدّه من أصدقائه الثوريين
حسدا، ثم انتقاما منه لعديد الأسباب، ووضعه في السجن العسكري بالبليدة، ثم ملاحقته
حتى وهو خارج الجزائر في سويسرا، والقضاء عليه بدسّ السّم له في عشاء مع صديق له
باسبانيا.
تماهت في الرواية معاناة، وبطولة مسعود زغار مع معاناة الوطن الجزائر،
وبطولة شعبها؛ فكان مسعود الجزائر، والجزائر مسعود، وأراني أتمثّل الجزائر بالأم
نوّارة التي أنجبت مسعود، نوّارة القويّة، الصلبة، الجلدة، الصبورة، التي تحرّرت
قبل الأوان مثل حرائر الجزائر مبكرا:
" كانت نوارة أمًّا قويّة وصلبة، جلدة،
وصبورة، فالنساء في هذا الوكن قد تحرّرن من نكهة فرنسا، وزال طعمها بين كلماتهنّ
وعواطفهنّ؛ بين فينة وفينة تتحوّلْن لمقاتلات شرساتٍ، رحْن يحرّضْن على البطولة في
قلوب أطفالهنّ..ص11 "
ونحن
نقرأ رواية" كازا" ربّما يقفز تساؤلٌ أمامنا: أيمكن اعتبار الرواية مصدرا
موثوقا للمعلومة التاريخية؟
الجواب على التساؤل بمدى إلمام القارئ بتاريخ الجزائر المعاصر، وكذا بتآريخ
أبطالها القياديين، وما دٌوّن عنهم، ومنهم البطل العبقري مسعود زغّار. ما جاء في
رواية كازا عن هذا البطل كان غزيرا، متطابقًا تمامًا؛ بل بالرواية الكثير ممّا لم
يدوّنه المؤرخون لأن الكاتبة أحلام الأحمدي لم تكتف بما في المراجع التاريخية، بل
اقتربت من عائلة البطل، وأقربائه، وأصدقائه، ومن يعرفونه عن قُرْبٍ؛ بل استقت حتى
من أعدائه.
قد
يقول لي قارئ: لقد ألهيتنا بتحدثك عن الأحداث التاريخية في النصّ، أين الفنّ
الروائي طالما النصّ نصٌّ سردي روائي؟
قد
تجد نفسك وأنت تتمتع بقراءة النص مع التاريخ في جديته، ومع الفن في سلاسته،
وعذوبته، وجمالياته:
( ..نزول الحلفاء على أرض سطيف، وبالضبط في
ستارنو، فتح عيني كازا على عملاقٍ سيحلق قريبا فوق كل العالم، بعد أن اعتكف هذا
التنّين بعيدًا عن الأحداث، والسياسات الخارجية، ها هو قد عاد مجدّدًا، إنها
الولايات المتحدّة الأمريكيّة. ص) 27
" ..مسعود داخله شجنٌ مخفيٌّ في الأعماق لا
يدركه غيرُ خالقه، كان السبب نظرة عينيْه رغْم بسْمته التي لا تفارق مبسمه، ولا
خفّة روحه المتوهّجة، والنّادرة، كان مبدعًا..ص44 "
" ..كان كازا يحلم بوطن نقيٍّ من المحتلّ،
خامة غالية استخرجها الاستقلال من بين أنياب باريس، ولصقلها لا بدّ من صائغٍ مبدعٍ
يعرف قيمة هذا الحجر الكريم، يتقن أسلوبه، ويعرف أين يستخرج مكامن
الجمال..55"
السّرد في النصّ الروائي جاء بصيغة ضمير الغائب الأمر الذي جعل الراوية
أحلام تسيطر على تحرّكات البطل العبقري المخابراتي، كما تسيطر على كلّ الشخوص جميعا،
بسرْدٍ هادئٍ، واضحٍ سلسٍ. وقد يميل في أحايين إلى الحكي الجميل الجاذب، الأخّاذ للقارئ:
"هناك..كان يعيش طفلٌ صغيرٌ في العاشرة ينظر من فراشه الذي يلتصق كل إخوته
وراءه يحتمون به من زخّات البرد تحت لحاف من الصوف الملوّن الذي نسجته نوّارة
بنفسها، وهو يرتعش من مكْر الصقيع..ص10 "
وظّفت الراوية في نصّها ما كان يجري في أعماق الشخوص الروائية، وما يدور في
أذهانهم من إحساسات غامضة، ومن ترقّبٍ، أو تحسُّبٍ لمآلات مهما كانت نتائجها:
" ..نام ولم ينم، كل همّه كان إرجاع
دليلته، الثأر أراده الرجوع إلى حضن نوارة..ص70"
" ..لم سيفعلون هذا بي؟ لا يمكن أن يحدث هذا،
وأنا منْ صنعتُ الثورة، ولا زلتُ أخدم وطني، ولا زلتُ أموتُ لأجله، ولا زلتُ أعطيه
من مالي، ومن دمي، ومن روحي..ص100 "
وتطعّم الراوية النصّ بين الفينة والأخرى بقيم
إنسانية ،أو باستنتاجات ذاتية خبراتية من الحياة:
" العبرة الحقيقية هي نعمة الرضا في راحة
تنبعث من قيمة وجودنا من طريقٍ نسلكه، وقرار نقرّره.ص80"
"..فتنة المال والنفوذ مهلكة، ونهايتها قبرٌ
مظلمٌ، ولعنةٌ من أوجاع الفقراء والمساكين..ص28 "
" ..المجد والنفوذ والسلطة في منطق السياسة
مثل منطق قانون الغاب، البقاء فيه للأقوى فقط، والأقوياء أيضًا البيادق تتحرّك فوق
لوحة الشطرنج من يدٍ عليا..ص91 "
" حقّك في الحريّة داخل وطنٍ محتلٍّ، لن
تفتكّه إلّا بموتٍ ، أو حياة، العالم الذي لا تكون فيه حرًّا فلا تعشْ فيه؛ بل
اقتلعْ حريتك، وإنْ كان موتُك لا بدّ منه..ص48 "
تتناثر في الرواية عديد من لوحات وصفية وشّحت بها الراوية نصّها لشدّ انتباه
المتلقّي:
" ..كان البحر جميلا وشاسعا لا يشبه التراب،
ولا الصخر، ولا القرميد، لا يشبه كل ساتارنو..جميل كأن هذا الشاطئ حدّ نحو عالمٍ
آخر..ص18 "
"..جنيف مدينة الجمال والفتنة، والتي خلف
ثيابها المزركشة بشمس مدورة ترميك بنور، يخفي ظلام السّأم، وخضرة تفتح أمام عينيْك
ملاذًا نحْو راحة وسكينة للبال..ص114 "
نصٌّ
سرديٌّ مفعمٌ بحبّ الجزائر، والذّود عنها بالنفس والنفيس، وتعرية فرنسا البلد
الحقود، الظالم، وكيدها تجاه هذا البلد، وتجنيد عملائها ماضيا، وحاضرا ومستقبلا،
النص يزخر بنكران الجميل، وخذلان الأصدقاء، والرفاق. أسلوب النصّ سلسٌ منسابٌ ، بكثافة
الجملة ودقّة المضمون.
ممّا هو شبه مؤكّدٍ في النقد العربي المعاصر، ولدى متّتبعي السّرد الروائي،
ومُحبّيه أن الكتابات النسوية السّرديه تنزع إلى الذّاتية، ذات الكتابة التي تلجأ
فيها المرأة المبدعة إلى توظيف الأدب كأداةٍ للاحتجاج على أوضاعها الأسرية،
الاجتماعية، التعليمية، السياسية؛ وعلى أوضاع المرأة عمومًا داخل المجتمع
الذّكوري؛ فقلّما في كتاباتها تتجاوز هذه الذات في كتاباتها إلى موضوعات مجتمعية
عامة، إنّما أحلام الأحمدي كسّرت هذا المؤكّد، لتنغمس في التاريخ الوطني المعاصر،
وبطلات روايتها، لسْن بطلات في رومانسية العشق، ولا متشكّيات من تسلّط الذكورة؛ بل
هنّ بطلات أسطورات في صناعة تاريخ الجزائر المعاصر الوضّاء.
هذا
النصّ الروائي الذي بين أيدينا نصٌّ حديث ناضجٌ، ينضاف لنصوص روائية أخرى للروائية
أحلام الأحمدي: ( قلْبُ الجاسوس ـــ رواية)، ( مئا شعاريم ــ رواية" 100
باب).صوتٌ نسائي جزائريٌّ شابٌّ له من المواهب والقدرات ما يؤهله الصدارة في الأدب
الجزائري المعاصر.