الخميس، 30 أكتوبر 2025

 

رواية: " حفنة وجعٍ"

.. قلْبٌ على مجمر الحُبّ يتلظّى..

 قراءة وعرْض: بشير خلف

     بكلّ غبطة وسعادة تلقّيتُ منذ أيام هدية من الأديبة المبدعة الساردة، الدكتورة فضيلة بهيليل .. الهدية تتمثّل في روايتها التي صدرت أواخر سنة 2024 تحت عنوان "حفنة وجَعٍ" من الحجم الصغير في 105 صفحات، تصميم الغلاف دليلة حسناوي.. لوحة للفنان التشكيلي الجزائري: محمد جرديني.

     لئن كان السّرد الصحراوي لا يعْني الوصف الخارجي لجغرافية الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما يعني نقْل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان، والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الانبهارية، الغرائيبية، فالسرد الصحراوي يكون صادقًا، مُبهٍرًا، ماتعًا لمّا يكون الأديب، المبدع، السّارد أصيل الصحراء.

      النصّ الروائي الذي بين أيدينا من إبداع الأديبة فضيلة بهيليل أصيلة الجنوب الصحراوي الغربي، أصيلة عين الصفراء، نصٌّ مكوّناته البيئية، الشخوصية، الحياتية صحراوية، تشبّع بروح القيم الجزائرية، عُجِن النصُّ، وعبق بلغة عربية رقراقة، ثريّة بما يكشف عن بيئة تلك المنطقة الصحراوية، وحركية أهلها، ومسار حيواتهم اليومية، وعلاقاتهم المحلية، والجوارية.

 عِشْقُ الكاتبة لمدينتها عين الصفراء يشي بعلاقة روحية تشبّعت بها (كلّ طُرُق المحبّة تؤدّي إليك)، منذ بداية القارئ للنصّ الروائي يجد نفسه في سحرية البيئة الصحراوية الجميلة:

«قطرات مطرٍ تمتصّها الطريق في سرعة مدهشة، طريق صهدتها حرارة الصيف، وجفّفتها رياح العناصر التي عصرت قلوبنا، وذرّتها اشتياقًا وحنينا لِما بين جبلي مكثر، وعيسى حشاشة..إنها بداية الخريف تُبشّر بها هاته القطرات التي كثيرا ما ركضنا تحتها ببراءة مردّدين أهازيج المطر:

"ياالنو صبّي..صبّي حتى يجي حمّو خويا يغطّيني بالزربية" ص07


   النص الروائي هذا ثريّ بالقيم من تعلّق بالمكان، وبمرارة الغربة في حال الابتعاد والترحال طلبا للرزق في بيئات أخرى:

"الغربة ياولدي ليست غربة الجسد، إنما الغربة الحقيقية هي غربة الروح حتى وإن ظلّ بمحلّه الجسدُ" ص08

     الروائية فطيمة بهيليل من عشقها وتعلّقها بالقصر الصحراوي ذي المكوّنات البنائية الصحراوية الذي تقطنه عشرات العائلات منذ أزمنة أب عن جدٍّ، وأجيال جديدة تصفه وصفا وكأنها تمسك ريشة، والألوان أمامهأ تبدع لوحة بديعة، رائعة، ماتعة:

"...رحتُ أضمّها كأنّما أفتّش من خلالها عن عبق القصر، وأهالي الديار بمدينتي التي أبدع الرحمن في تشكيل تضاريسها ، وترك لعُشّاقها إبداع وصفها بالقلم، والريشة، والعود.. مع الكثير من المحبّة" ص08

     مبدعة هذا النص السردي باعتبارها أكاديمية تتكئ على المنهجية، فجزّأتْ مسار متْن روايتها إلى عتبات مُعنونة:

ــ كل طرق المحبة تؤدي إليك.

ــ حفنة وجع تدروها الرياح

ــ قلب على مجمر الحنين يتلظى.. يحترق

ــ الهزات العنيفة لا تسقط، إنها فقط تشبثنا بمن نحب.

ــ الفراشات برغم ضعفها لا تنحني.. إنها فقط تحلق.. تطير

ــ لا حاجة لمزيد من النور فقد انكسر ظلك بمرآتي.

ــ للغرباء أيضا أوجاع

ــ ملح الشوق يفتح الجراحــ وفي أرض توات.. موعد الفرح.

      الشخصيات الفاعلة في النص منها ما هو رئيسي، ومنها ما هو ثانوي، الشخصيات الرئيسة: زينب، صالح، الجدّة، زوجة العم، العم، الأم أم زينب الغائبة جسدا، وحضورا، الحاضرة في الذاكرة. ثم شخصيات ثانوية: أم الخير، مسعود، عيسى، زاهية، أم الخير…وغيرها من شخصيات عابرة.

     جميعها تمثل شرائح وأطياف المجتمع وفئاته فمنهم الفلاح الوفي صالح ابن العم الذي لازمته منذ الصغر، وعانا حرمان اليتم، ومنهم العمّ العنيف المتسلط، المتشدّد دينيا عن جهْل، ومنهم الدجال المشعوذ، والحركي الخائن ذو العينين الخضراوين، والمرأة الخادم (أم الخير)، أم زينب.

       عالم الشخصيات في الرواية صورة لمجتمع تقليدي متمسك بجملة من الأعراف بعضها حميد يتم توارثه (الألبسة، الغناء، الأعراس) وبعضها وليد جهْـل وتفسير خرافي لظواهر الطبيعة وقضايا المجتمع.

    من خلال قراءتي المعمّقة لهذ النص الروائي الماتع، أشعر وكأن فضاء عين الصفراء هو نفس فضاء الجنوب الشرقي الجزائري، وتحديدا ربوع وادي سوف، نفس البيئة الصحراوية، نفس المناخ المتحكّم في حيوات الساكنة، نفس العادات والتقاليد، والأعراف.. عنوان الرواية " حفنة وجعٍ"..لفظة ( حفنة) كلمة لها علاقة بالتعامل التجاري في زمن ما قبل استقلال البلاد، وكان التعامل بالمقايضة، وبمعايير الكيل قبل أن تظهر الموازين الحديثة، فالحفنة هي امتلاء اليدين معًا، وتنطبق على الحبوب، والثمار الجافة: حفنة تمْرٍ، حفنة قمح، حفنة شعير، حفنة فرماس، حفنة لوبية، حفنة جلبانة، حفنة عدس،...

    الروائية مبدعة النص أسقطت بذكاء لفظة "حفنة" التي تعني كل ما يتغذّى به الإنسان الصحراوي في بيئته القاحلة، الطاردة للحياة الميسورة، الإنسان الصبور، المقاوم للقساوة، حتى معيشته الغذائية، ومراحل حياته إلى لحظة رحيله، حفنات من وجعٍ.

     الإبداع السردي عن الصحراء لا يعنيْني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما يعني نقْل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان، والتعبير عنه بشكل عميق بعيدا عن النظرة العجائبية.

      في رأيي الشخصي النصّ السّردي الصحراوي، ليس فقط ما يتّكئ على الصحراء مصدرًا للأحداثِ فحسبُ، وإنّما تلكم أيضًا الروائح، والأساطير، والذكرياتٍ التي سكنت الصحراء، وآثار الإنسان من عمارة، وأساليب حياة فردية، وجماعية، وتقاليد، وعادات، ونشاطات اقتصادية، وتلاحم، ممّا يُكسبُ النصّ السّرديَّ المتعة.

      نصُّ رواية " حفنة وجعٍ " للدكتورة المبدعة الساردة في رأيي الشخصي لعمري جديرٌ بالتميّز، إضافة مائزة للمتن الروائي الجزائري المعاصر.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  رواية: " حفنة وجعٍ" .. قلْبٌ على مجمر الحُبّ يتلظّى..   قراءة وعرْض: بشير خلف       بكلّ غبطة وسعادة تلقّيتُ منذ أيام هدية...