الجمال في
القرآن الكريم
بشير خلف
الإحساسُ بالجمال، والميلُ نحوه نزعة فطرية متجذّرة
في أعماق النفس البشرية ؛ فالنفس الإنسانية السويّة تميل إلى الجمال وتشتاق إليه ،
وتنفر من القُبْح في شتّى صُوره، وتنأى عنه بعيدا .
إن الطبيعة الإنسانية تنجذب
إلى كل ما هو جميلٌ ، وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " إنّ الله
جميلٌ يحبّ الجمال ". والإحساس بالجمال والْـولَهِ به، والاعتناء به، والتجمّل
، واقتناء الشيء الجميل ، سلوكاتٌ قد يقوم بها الإنسان تلقائيا بفعل الميْل الفطري
المتجذّر في أعماق النفس .. ويتضح ذاك حتّى من أعْـتى المجرمين والقتلة في لحظات صفاء
مع النفس .
شاء الله سبحانه وتعالى المبدٍعُ
البديعُ ، الخالق أن يجعل من الجمال في شتّى صوره ـ وما أكثرها !، وما أعْظمها !! ـ
مَناطَ رضا وسعادة لدى الإنسان .
تذوّق الجمال حقٌّ مُشاعٌ
إن استصاغة الجمال حقٌّ مُشاعٌ
لكلّ إنسان، والأكيد أن تذوّقَ الجمال والتنعّمَ بصُوره ، والتمتّعَ بمجالاته اللامتناهية
في حياتنا ، يختلف بين فرْد وآخر، وبين جماعة وأخرى، ومن أمة إلى أخرى، ومن عصْرٍ إلى
آخر ..لكنه اختلافٌ محدودٌ قد يمسّ جانبا من الجوانب، أو عنصرا من العناصر التي تشكّل
القيمة الجمالية، أمّا الجوهر فقيمةٌ ثابتةٌ ارتضتها كلّ النفوس.
الجمال ثالث ثلاثة من القيم التي شغلت الفكر البشري منذ بدأت المسيرة الإنسانية
على ظهر الأرض لتحقق الرسالة التي من أجلها خلق الله الإنسان، وهي العبودية الخالصة
لله وحده، هذه القيم الثلاثة هي: الحق والخير والجمال.
والجمال له جانبان: حسّي ومعنوي، وقد أخفق الفكر الإنساني تماماً في وضع مقاييس
ثابتة لكليهما.
القيم الجمالية في القرآن الكريم
لكنّ الذِكر الحكيم الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يتناول هذه القيمة تناولاً محكماً، سديداً،
راشداً، يجعلها تسهم في سموّ المجتمع البشري، ودفعه إلى تحقيق رسالته الكريمة. ولقد
ورد لفظ "جميل" و"جمال" في ثماني آيات من القرآن الكريم، منها
موضع واحد عن الجمال الحسّي.
وتحدَّث في المواضع السبعة الباقية عن الجمال المعنوي والخُلُقي.
جمالٌ معنويٌّ وجمالٌ حسّيٌّ
الجمال في هذا الكون الفسيح أكبر وأكثر من
إدراك الإنسان الفاني ، الضعيف، العاجز عن الإلمام بكل شيء ، فالكون أوسع من أن يحيطه
الإنسان بعقله المحدود .. والأشياء التي تنتظم هذا الكون الفسيح ، إمّا أن تكون أجساما
لها طولٌ ، وعرضٌ ، وعمق ، كالإنسان والحيوان ، والسماء والأرض، والشمس والقمر ونحوهما،
وإمّا أن تكون معانٍ ، كالأقوال والأفعال والأسماء ، والصفات ونحوها ، واستنادا إلى
ذلك يمكن تقسيم الجمال إلى قسميْن :
جمالٌ حسّـيٌّ
وهو الذي يّدرك بالحسّ كجمال الطبيعة في سمائها وأرضها ، وشمسها وقمرها ، وليلها ونهارها ،وبرّها
وبحرها ، وكجمال الإنسان من حيث تكوينه ... وقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من مظاهر الجمال
، مُشيرا إلى جماله الحسّي كي ينتفع به الإنسان ، ويشكر ربّه الذي سخّر له الكون وما
فيه ..قال الله تعالى:(والأنعامَ خلقها لكمَ فيها دفْءٌ ومنافعُ ومنها تأكلون ،
ولكُمْ فيها جمالٌ حين تُريحون وحين تسرحون، وتحملُ أثقالكمْ إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه
إلاّ بشقّ الأنفسِ إن ربّكم لرؤوفٌ رحيمٌ، والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً
ويخلقُ ما لا تعلمون .){ سورة النحل}
وقال
الله تعالــى عن الإنسان : ( لقد خلقْنا الإنسان في أحْسن تقويمٍ .)وقد فسّر العلماء قوله : " أحْسن تقويم " بقوله تعالى: (يا أيها الإنسانُ ما غرّكَ
بربّـِكَ الكريمِ الذي خلقكَ فسوّاكَ فعدّلكَ في أيّ صورةٍ ما شاءَ ركّبكَ .){سورة الانفطار} ، فهذه الآية وتلك تعبّران عن الهيكل الجمالي الذي بُـنِي عليه الإنسان ، فالجمال
سمةٌ بارزةٌ في الإنسان مثلما هو مبثوثٌ في غيره من الموجودات .
جمالٌ معْــــــــنويٌّ
ويشتمل على أمورٍ كثيرة لا تُدركُ بالحسّ
والمشاهدة ، ولكنها تُدرك بالعقل الواعي ، والبصيرة النافدة ..من هذه الأمور الجمالية
المعنوية :
1 ــ الأقوال : فالجمال المعنوي موجودٌ في
الأقوال الحسنة ، والألفاظ الطيّبة ، قال الله تعالى:
( ومَنْ أحْسنُ قولاً ممّنْ دعا إلى اللهِ وعمِلَ صالحا وقال إنني منَ المُـسلمين.){سورة فُصّلت} فقد جعل الله الدعوة إلى الإسلام ، والنطق بكلمة الشهادة مِن أحسن الأقوال
وأجملها ، فدلّ ذلك على أن الجمال موجودٌ في الأقوال التي يقولها الناس ، وفي الألفاظ
التي ينطقونها ، لا من حيث تركيبها اللفظي وصياغتها البلاغية ، ولكن بالنظر إلى ما
تحمله من المعاني والمدلولات
2 ــ الأفعـال : والفعل قرينُ القول، بل إن
القول إذا لم يقترن بالفعل لا يبلغ الكمالَ في الحُسْن والجمال ، ولذا ذكر الله تعالى
في الآية السابقة قوله: (وعمِل صالحا) ، إذ القول وحده مهما كان جميلا لا يكفي صاحبه ما لم ينضمّ إليه فعلٌ ... فالجمال
يوجد في الفعل كما يوجد في القول .
من
خلال تقسيم الجمال إلى جمال حسّي ، وجمال معنوي ، يمكن استعراضُ ميادين الجمال ، ومجالاته
التي هي :
3 ــ الطبيعة
: بكل ما تحتويه من أرضٍ وسماءٍ ، وإنسانٍ وحيوانٍ ، ونبات وجمادٍ ..هي كلها مواطن
فسيحة للجمال الطبيعي، والقرآن الكريم حين تناول الطبيعة ، لفت نظر الإنسان إلى كثيرٍ
من دقائقها ؛ على سبيل المثال يقول الله تعالى: (إنّ في خلْقِ السّمواتِ والأرضِ
واخْتلافِ اللّيلِ والنهارِ والفُلْـكِ الّتي تجري في البحرِ بما ينْـفعُ الناسَ وما
أنزلَ اللهُ من السماءِ منْ ماءٍ فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كل دابّة وتصريف الرياح والسَّحاب المُسخّر
بين السماء والأرض لآياتٍ لقومِ يعلمون .){سورة آل عمران}
إن
هذا المشهد العظيم لوحةٌ رائعة ٌ من الطبيعة ، التي لا تحدّها الأبعادُ والأنظارُ ،
يسْرح فيها العقل ، والبصر يتملّيان السّحْـرَ والجمال . ويقول تعالى في هذه الآية
الكريمة ، مُرشدا إلى الجمال : (أفلمْ ينظروا إلى السماءِ فوقَهمْ كيف بنيناها وزيّناها ومالها من فروجِ .) {سورة ق}
4 ــ الإنسان
: إن الإنسان ميدانٌ آخرُ للجمال ، يتخلّله الجمالُ منذ مرحلة تكوينه ، ونشأته إلى
مرحلة نُضْجه وتكامله ؛ بل إن الجمال من أبرز سمات الإنسان التي نوّه بها القرآن الكريم
في أكثر من آية للدلالة على قدرة الله تعالى وإبداعه .
الجمال فينا وحولنا
إن الإنسان العادي السويّ مثلما يشاهد
الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها ، ويلْحظُـه
في الإبداع الفني الذي يصنعه كالعمارة التي يبدع فيها المهندسون ، والطرق الفسيحة
التي تحاذيها من الجانبين مساحات نظيفةٌ ظللتها أشجارٌ وارفةٌ ، وزيّنتها زهور ، وورود تفوح عطرا ..مساجدُ تألقت بعمارتها
الإسلامية المميزة ، كما أن الإنسان السويَّ يشاهد الجمال ، وينعم به في اللوحة
الفنية ،في الملابس الزاهية ، في ترتيب
غُرف المنزل ، في الكُتب المزخرفة ،في الخط ، في ترتيل القرآن الكريم ،في زخارف ونقوش الأواني
، والأبنية ، والفُرُش ، والزرابي ، في الإيقاع الموسيقي الأصيل والصوت الشجي ، في
الوزن الشعري العذب ، في الكلام الحسن ، في الحوار الهادئ ، في الاحترام المتبادل
، في فنّ الإصغاء للغير ، في حُسْن التعامل مع الجار ، مع الأقارب ، مع الزملاء في
العمل ، في آداب الأكل ، في سلوك النظافة في داخل المنزل وخارجه ، في الحفاظ على
البيئة .
وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي
يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في
الطبيعة أفسحُ، وأجملُ ، وأكثر جاذبية ؛ حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار
والطيور وسفوح الجبال، وجداول الأنهار، وشلالات المياه المنحدرة ، وكثبان الرمال
الذهبية ، ومغيب الشمس ، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه
: } وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ً{ (الاسراء:70) وقال أيضا : } لَقَدْ
خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{ (التين:4) ..
كما نسعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية ، وفي النجوم
المتلألئة ليلا، وفي القمر يغْـمرُ الكون بضيائه ..نتذوّق الجمال في الغيمة ، في
قوس قزح ، في الضباب وهو يدثر ما حولنا بغلالة شفافة منعشة ، نتذوقه في نزول الغيث
، وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة ..الجمال نتذوّقه في عيون الضِّباء
، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال ، في ألوان الأسماك ، وشاطئ البحر ، ورماله
الذهبية ، وأمواجه ..في حقول الزرع المترامية ، في السنابل الناضجة وهي متمايلة
بما حملت من ثمار الخير ..في الخضار بألوانها المختلفة ..في الأشجار المثمرة ،
وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها اليانعة الشهية ، في عراجين النخلة وهي مدلاّة ،
مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف ..وفي الأزهار بألوانها وأريجها
.. وفي ملكها الورد بدون منازع.
الفطرة الإنسانية
تهفو إلى الجمال
عموما ، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان ،
أو الحيوان ، أو النبات ، أو الصخور ، أو الجبال ، أو البحار ، أو السماء ، أو حتى
السحب وتشكيلاتها ، تهاطل الأمطار ، تساقط الثلوج ، أو التعبير الإنساني خاصة في
الفنون المختلفة ، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي ، أو الحسّي ، وقد يكون متعلقا
بالجانب العقلي أو المعرفي ، أو التأمّلي .. قد يتمثّل في حالات صامتة ، أو حالات
متحرّكة ، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة ، وقد يكون في وجْهٍ جميل ، أو جسد جميل ،
أو مسرحية جميلة ، أو مقطوعة موسيقية جميلة ، أو فيلم جميل ، أو لوحة فنية جميلة ،
أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيادي البشر ، أو حديقة تولاّها الإنسان بالرعاية
والاهتمام .
المراجع
1 ــ القرآن
الكريم.
2 ــ الجمال رؤية
أخرى للحياة.بشير خلف.طبْع دار الهدى عين مليلة 2009
2 ــ.بشير خلف.الجمال
فينا وحولنا. طبْع دار الهدى عين مليلة سنة 2009
3 ـ موسوعة
الجمال في القرآن الكريم.موقع جواد الإسلامي.
4 ــ الدكتور عبد
الحكيم العبد.الجمال في القرآن الكريم.مدخل وأطر من الكتاب والسنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق