الفنان ..ذاك الإنسان الذوّاقة
بقلم : بشير خلف
الفنان إنسان لكنه قد يختلف عن الإنسان
العادي بأحاسيسه العالية ، وتأمله للحياة ، وهو تأمّلٌ
مفتوحٌ يجعله دائما في صراع مع حالات 'المغلق' التي تحيط به.. فالفنان
الحقيقي وليس ممارس الفن كما يراه الفلاسفة ، لديه خاصية إخراج الأشياء وإظهارها
بشكل بارز كما يقول الفنّان الكبير المبدع عادل إمام في حوارٍ له . وانه ـ أي
الفنان ـ يري ما قد لا يراه الآخرون ؛ وقد كان الفن سباقا في اكتشاف ظواهرَ أعلن
عنها علماء النفس بعد ذلك ..
نعني بالفنان هنا كلّ منْ يبدع في الجمال،
ويساهم في تهذيب الذّوق، وتربية الإحساس باليراع شعرًا ونثرًا، بالريشة، بالإزميل،
باللحن الشجيّ، بالخطّ الجميل.. وكل منْ يُضفي لمسات فنية على ما ينتجه كالنجّار
على أثاثه، والحدّاد على ما يصنعه، والدهّان على الألوان التي يتفنّن في مزجها،
والزوجة في بصمات تدبيرها، وحسن إدارتها لمنزلها.. كل حركة يقوم بها الإنسان في
يومياتها يمكن أن تكون ذات بصمة جمالية وفنّية..
الفنّان عاطفة شيّاجة ، وإحساسٌ نبيلٌ
..فالفنّان يخلق العمل الفنّي ليطلق خصائصه الذهنية والوجدانية من عقالها ،
ويحرّرها من الرتابة والنمطية ..من قيود العادات والتقاليد ليتّجه بها نحْو
الحريّة ، والخير ، والفضيلة ، والحقّ ، والإطلالة على الحياة بمنظار الجمال
والحسن .
إن الفنّان إنسانٌ محكومٌ بغريزته ، وتصوّره
المميّز للوجود ، وخصوصية إلهامه ، أي بمختلف الأخيلة والعواطف التي تمور بها نفسه
، فيفجّرها عقله المتوقّد ، وبصيرته الوضّاءة .إن الفنان وهو يبدع فنّه كيفما كان
جنس هذا الفن فإنه يستلهم فنّه من روح مجتمعه ، أو من روح المجتمع الإنساني الذي
في كل العصور ينشد الحرية ، ويأبى الظُّلْم والجبروت ، فالعواطف والأخيلة لا تكفي
وحدها للتعبير عن الصراع الأبدي بين الخير والشرّ ، بين الظلام والنّور ، بين
العدل والظُّلْم .
إنّ الفنّ ما كان ولن يكون حقّا فنّا ، ولن يبلغ أسْمى المراقي ، ولن يكون
معبّرا عن الإنسان في حياته ، ولن يكون أداة نضال ، أو أداة تأثير إلاّ إذا كان
نابعا بصدق من ذاتية الفنّان ، ومن شعوره بفداحة القبح والشرّ وضررهما على الإنسان
أينما كان ، وبضرورة مقاومتهما بطرق المقاومة السلمية أوّلا ، وفي طليعتها الفنون
..يقول الأستاذ إبراهيم المصري في كتابه " خبز الأقوياء " :
( ...وإذن فالفنّ لن يكون حقّا ،
ولن يرتفع إلى روْعة التأثير واكتماله ، إلاّ إذا نشب الصراع بين الفنّان ونفسه ،
أي إلاّ إذا غالب الفنّان احتدام عواطفه ، وأخيلته ، واستطاع أن يروّض تلك العواطف
والأخيلة ويكبحها ، ويحصرها ، ثمّ يتخيّر الصالح القويّ المعبّر منها ، ثم يُبْرزه
وينسّقه ، ويصقله ، بحيث يخرج العمل الفنّيّ كالزّهرة المتألّقة السليمة ، في
ظاهرها نُضرة الجمال المتكامل الأمثل ، وفي باطنها فوضى الطبيعة ، أي احتدام القوى
الطبيعية التي أبدعتها ، والتي عرف الفنّان كيف يضبطها أُسْوة بالطبيعة التي
تضبط نظامها ، وقوانينها ، وهي تختال أمام
الناظر في أبدع حُلل جمالها ، وأغْربها)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق