المكوِّن السلفي في عقيدة
الشيخ راشد الغنوشي
قراءة في كتاب:
بقلم : بشير خلف
صدر هذه الأيام للصحفي
والكاتب المتفرغ للكتابة في التخصصات الإسلامية،
والمسيّر حاليا لفرع شركة هونداي
بالوادي كتاب بعنوان : " المكوِّن السلفي
في عقيدة الشيخ راشد الغنّوشي "
الكتاب من المقاس المتوسط، يقع في 71 صفحة
.صدر عن دار عليسة للنشر والتوزيع بتونس ..الغلاف معبّرٌ عن مضمون الكتاب، إذ
يحتلّ العنوان الثلث الأعلى من الغلاف، والثلثان الباقيان تتصدرهما صورة الشيخ
الغنّوشي التي تختفي وراءها عدة صور يبدو أن المصمّم قصد من ورائها مراحل التطوّر
الفكري لدى الشيخ لتستقرّ عند صورة علم داعش ذات اللون الأسود كسندٍ تتكئ عليها
صورة الشيخ على الغلاف.
الكتاب
المؤلف الضاوي محمد الصالح بحكم خبرته
الطويلة في التأليف والكتابة، ومعرفته
الواسعة بالواقع التونسي، قسّم كتابه هذا بعد الإهداء، والمقدمة إلى مراحل ستّة،
ثم خاتمة، تتبّع فيها المسار الفكري للشيخ الغنوشي.
بدءا أهدى كتابه للإخوة والأخوات الذين،
واللواتي ترافق وإياهم بحثًا عن الحقيقة أينما كانت، واجتمع وإياهم حول فكرة
ومشروع، ليفترق الجميع عن بعضهم حول فكرة ومشروع، فإلى كل الذين تحوّلوا..
تغيّروا.. تطوّروا.. تحرّكوا.. وقفوا.. تراجعوا.. ثبتوا يهدي المؤلف كتابه.
في المقدمة يطرح الكاتب خمس إشكالات،
وبطبيعة الحال سيجيب عنها في متْن الكتاب، أُولى هذه الإشكالات : أنه ليس من
العادة التنقيب في ضمائر الناس، والتساؤل عن عقيدتهم؛ إلاّ إذا كان الموضوع مختصّا
بشخصية عامة، وكانت عقيدتها تمسّ فكرها، وسلوكها، ونضالها كما هو الحال في الشيخ
راشد الغنّوشي. الإشكالية الثانية، إننا نؤمن ونعتقد ( الكلام للمؤلف) أنّ روافد
الشيخ العقديّة متنوعة، ومكوّنات عقيدته متعدّدة، لذلك في الكتاب تمّ التركيز على
المكون السلفي.
أمّا الإشكالية الثالثة فما يتضمّنه متْن
الكتاب يطرح الموضوع من زاوية علمية بحتة بعيدا عن التشنّجات الانفعالية،
والخلفيات الذهنية، فالاحتكام إلى نصوص الشيخ، والاستشهاد بها هي الفيصل. وليس
معنى أن ما أتينا به من استشهادات هو الادعاء بالموضوع من جميع جوانبه .هذا ما جاء
في الإشكالية الرابعة. الكاتب نبّه القارئ الكريم في الإشكالية الخامسة على أنه
تحاشى عمْدًا الوقوف عند مصطلح " السلفيّة " بسبب تطوّر هذا المصطلح
وتغيّره من مرحلة إلى أخرى؛ إضافة إلى أنه مع الشيخ الغنوشي يحتوي على خصوصيات
تُخرجه عن دائرة التعريف العام.
المراحل
في المرحلة الأولى ركّز الكاتب على مولد
الغنوشي وتربيته وتنشئته التقليدية حيث كان أبوه إمامًا، تربية مشبعة ببعض القيم
الإسلامية:« ولد الشيخ راشد الغنوشي في مدينة الحامة بالجنوب التونسي سنة1941، وتلقى
تعليما وتربية تقليديين، حيث كان أبوه إماما لأهل القرية، علّمه القرآن، وزرع فيه بعض
القيم العربية والاسلامية التي كانت واقعا معيشا في تلك الفترة وفي ذلك المكان. ويمكننا
التأكيد على أن الشيخ راشد تلقى عقيدة مالكية أشعرية تقليدية، ممتزجة بروحانية التصوف،
التي كانت تمتد إلى كل القلوب، بصفة عفوية وعاطفية، حيث المدائح والأذكار النبوية،
وإحياء الموالد، وبعض الاحتفالات الدينية، وما يتبعها من سلوكيات وعادات وتقاليد، تجذرت
في المجتمع التونسي عبر قرون.» ص :11
إلا أنه مع تقدمه في الدراسة الثانوية، كان ميله
إلى الفلسفة يشتد، وحبه لها يقوى، وتأثره بنظرياتها يظهر، مما أدخل إلى عقله الشك والحيرة
والسؤال، فكان يجادل بأدوات الفلسفة، شيوخ الزيتونة، الذين لم ينالوا حظوة لديه، بل
كان أسلوبهم التدريسي ممقوتا عنده، ولم يكنّ لهم الاحترام مطلقا.
ويؤكد الكاتب
على أن الغنوشي اتخذ الفلسفة كمادة نقدية رافقته في كامل حياته الفكرية، وقد أثّرت
في عقيدته، وحملته على مراجعة العقيدة السلفية التي اعتنقها لاحقًا في سورية.
ولمّا سافر الشيخ إلى المشرق في أوائل الستينات
كان لا يحمل من العقيدة الإسلامية إلاّ ما ترسّخ في أعماق شخصيته من تربية تقليدية
باعتراف الشيخ نفسه الذي يقول: " ... وأدركت في الوقت نفسه، أن
الإسلام الذي نشأت عليه، ليس هو الإسلام الصحيح، وإنما كان إسلاما تقليديا بدائيا مخلوطا
بمواريث عصر الانحطاطّ، لا يمثل رؤية عامة للكون والحياة، ولا نظاما شاملا للحياة،
وإنما مجرد تديّن تقليدي شخصي وخلاص فردي بعد الموت، ولذلك اعتبرت نفسي أني لم أكن
مسلما حقا، وكان عليّ أن أتخذ قرارا بدخول الإسلام، بعد أن تيقنت أن ما كنت عليه ليس
هو الإسلام، وإنما تقاليد وعادات وشعائر لا تحمل أي منهاج حضاري أو نظاما للحياة."
ص : 14
في بداياته الفكرية، كان الشاب راشد الغنوشي،
العائد من فرنسا سنة 1969، عاقدا العزم على الاستقرار بالخارج، نظرا لفقدانه الأمل
في وعي وطني كفيل بإحياء مسيرة الاصلاح التربوية الاسلامية. وكان قد أقام في مصر وسوريا،
ودرس هناك، والتقى بكل التشكيلات السياسية العاملة في الساحة الشامية، وتعرف على توجهاتها
وعلى أهدافها، واتخذ منها موقفا حازما. “زار الشيخ راشد الغنوشي في تلك الفترة من
1964 مصر، ثم سوريا، وخرج في رحلة دامت بضعة شهور من سنة 1965 إلى تركيا وبلغاريا ويوغسلافيا
والنمسا وألمانيا وفرنسا وبلجيكيا وهولندا، ثم عاد الى سوريا، ليستقر بها الى حدود
1968، ليرتحل الى فرنسا لاستكمال الدراسات العليا في الفلسفة..
راشد الغنوشي انتمى فكريا إلى القومية التي
سادت المشرق العربي في الستينات من القرن العشرين، ثم انسلخ عنها، ووصفها
بالعلمانية، ثم تأثر بالسلفية في حلقات الشيخ ناصر الدين الألباني، وفيها تعرّف
على ابن تيمية، وابن القيّم، وأنّ هذا العنصر السلفي ظل مطبوعًا في شخصيته،
وعنصرًا ثابتًا في عقيدته. وفي هذه المرحلة تعرّف الشيخ الغنّوشي على مختلف
التنظيمات الإسلامية بسوريا، وكان الإخوان أقربهم إلى قلبه، غير أنه لم ينضمّ
إليهم. ص :20
يمكن القول إن المكون السلفي الأول في عقيدة
الشيخ راشد الغنوشي، غلب عليه البعد السياسي الاصلاحي والتنظيمي، بحيث رجع إلى تونس،
حاملا عقيدة سلفية تيمية ألبانية إخوانية، مع فكر مالك بن نبي التنويري، وتجربة مع
القومية البعثية، ومشاهدات اوروبية، ثم ينخرط مع جماعة الدعوة والتبليغ في أول تماس
له مع الجماعة الاصلاحية الأولى، التي كان محركها وملهمها: الشيخ الشاب عبد الفتاح
مورو.
ممّا مهّد له خلال العشرية السابعة من القرن
الماضي بالاندماج مع هذه الجماعة كشابٍّ مدرِّسٍ للفلسفة طبع الجماعة الإسلامية
بطابعه الخاص ، من حيث إدخاله في فكرة التنظيم، وسلفية الألباني وابن تيمية، والتأثر
بالفكر السلفي الإخواني، وبكتابات أهم ممثلي الحركة الاسلامية في العالم من أمثال مالك
بن نبي، والمودودي، وقطب والبنا وغيرهم…في حين أن القاعدة العقدية المغاربية كانت مالكية
أشعرية.
يحدّد الشيخ الغنّوشي مقوّمات التديّن
السلفي الإخواني الذي طبع الحركة في تلك المرحلة في ثلاث مرتكزات : 1 ــ المنهجية السلفية التي تقوم على محاربة البدع في مجال العقائد، ورفض التقليد
المذهبي في المجال الفقهي، والعودة في كل ذلك إلى الأصل، الكتاب والسنة وتجربة الخلفاء
والأصحاب والتابعين، ومحاربة الوسائط بين الخالق والمخلوق بتقديس الأضرحة، ومحاربة
الطرقية والبدع في الدين، وتقوم هذه المنهجية أساسا على أولوية النص المطلقة على العقل.2
ــ -الفكر السياسي والاجتماعي الإخواني، والقائم على تأكيد شمولية الإسلام، ومبدأ حاكمية
الله سبحانه، ومبدأ العدالة الاجتماعية.3 ــ منهج تربوي يركز على التقوى والتوكل والذكر
والجهاد والجماعية والاستعلاء الإيماني والأخوة. 4 ـــ منهج فكري يضم الجانب العقائدي
الأخلاقي، على حساب الجوانب السياسية والاجتماعية، ويقيس الأوضاع والجماعات بمقياس
عقيدي، مما ينتهي معه الأمر إلى تقسيم الناس إلى أخوة وأعداء. ص : 36
مع
نهاية السبعينات، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران حلُم الشيخ الغنوشي بثورة
إسلامية كبرى تهدّد عروش الأنظمة العربية والإسلامية، ولم يُخف انبهاره بالثورة
الإيرانية، وبشخصية الإمام الخميني.؛ بل طوّر رؤية فلسفية تتماشى، ورؤيته الفكرية،
وأحلامه . ص: 37
لقد كان الشيخ راشد الغنوشي على وعْي
باستحالة الجمع بين سلفية وهّابية، ألبانية، تيْمية؛ وعقيدة الشيعة، لذلك سارع إلى
مبادئ السلفية الجديدة بقوله: « ولا تعني السلفية هنا، كما هي عند البعض حرْبًا
على المذاهب الفقهية، أو العقديّة.. كلاّ، فهذا تمزيقٌ لكيان الأمة.» ص : 30
ويعتقد الشيخ راشد الغنّوشي أنّ المنهج
السلفي الذي حرّره شيخ الإسلام ابن تيمية لم يُكتب له النجاح بسبب ثقل الانحطاط،
وما أقامه من تحالفٍ رهيبٍٍ بين التقليد المذهبي، والطريقة، والحكم الجبري. ويمضي
الشيخ الغنوشي في تمجيد، وتعظيم المنهج السلفي الذي حرّره ابن تيِْمية، وقد تولّى
المصلحان الكبيران ابن عبد الوهاب، والدهلوي إحياءه في الأمة، فينسب الشيخ إلى هذا
النبع كلّ التيارات الإصلاحية غير العلمانية في الوطن العربي.
يخلص الكاتب محمد الصالح الضاوي إلى أنّ
المكون السلفي التيمي الوهّابي جزء لا يتجزّأ من عقيدة الشيخ راشد الغنّوشي، لكنه
لا يتبنّى هذه العقيدة بطريقة شكلانية نمطية، بل يكيّفها مع الواقع التونسي حتى
تتلاءم مع بيئة مالكية أشعرية صوفية، كما
يكيفها مع الحركية التنظيمية الثورية الإخوانية التي انبنت عليها الكثير من
المفاهيم السياسية، وطوّرها الشيخ بحكم تنوّع الرافد الفكري والثقافي عنده، إذ
طعّم مكوّنه السلفيّ بعقلانية حديثة أخذت من روّاد الإصلاح الإسلامي، ومن فلاسفة
الغرب، ومن مصطلحات الفكر الاشتراكي.
إن السلفية الوهّابية تختفي، وتظهر بحسب
الأحداث عند الشيخ راشد الغنوشي، وهي معطى ثابت في عقيدته، طبعت شخصيّته طوال
مراحل حياته.
رؤية الكاتب محمد الصالح الضاوي هذه يشترك
معه فيها الكاتب، والبحث المصري المتخصص في الدراسات الإسلامية ، الأستاذ عبد
التواب عبد الله، حيث يقول في دراسة له: « وتلاحظ الدراسة أن هناك مناطق غير واضحة،
ومحل اشتباه في خطاب الغنوشي، يقترب فيها من الأطراف المتشددة، بينما لديه مناطق أخرى
يكون فيها رمزا وداعية للاعتدال، كما تلحظ الدراسة كذلك التناقض بين مرونته النظرية
في كثير من الأحيان، وتصلباته العملية، سواء في إدارة الحركة، أو في الموقف السياسي
عموما.»
وبعــد
الكتاب بالرغم من حجمه الصغير، إلاّ أنه يتضمّن مجموعة من الأفكار والرؤى التي طرحها
الكاتب محمد الصالح الضاوي جديرة بالاهتمام لا من حيث تركيزها على الشخصية
المحورية في الكتاب: الشيخ راشد الغنّوشي فحسب، بل بتأريخ الحركات الإسلامية،
وظروف نشأتها، وتطوراتها المعاصرة، وروافدها الفكرية.
ــــــــــــــــــــــــ
محمد الصالح الضاوي
صدر للمؤلف عن دار الكتب العلمية بلبنان:
1 ـ مفاهيم أساسية.2 ـ
الأولياء والتصوّف.3 ـ أساطير الأوّلين.4 ـ كن فيكون.5 ـ زواج المتعة في الإسلام.6
ـ أُولى الحقائق الوجودية الكبرى.7 ـ حقائق العرش عند ابن العربي.8 ـ أعمال أخرى
قيد الطبع.