الأربعاء، 7 ديسمبر 2022

 

رحْلةُ تندوفْ في زمن الكورونا

كتب: بشير خلف

  الرحلات، والأسفار مبعثُ التأمّل والدهشة، والرغبة في مُـتْـعة الاكتشاف؛ ممّا يؤدي بالضرورة إلى توسّع الأفق المعرفي، وتعدّد الرؤى، واتساع حدقة الوعي، ومرونة الفهم.. وكلها ملزِمات لا يمكن للمثقّف، والكاتب الجادّ، الواعي برسالته أن يكون في غِــنًى عنها. فما بالك بأن لقاء الآخرين مكانيا، حضاريا، حياتيا، مجتمعيا هي بـمنزلة معرضٍ واسعٍ لِـمئات الأفكار التي لا تفتأُ تتوالدُ عبر رحلة السّفر.

      الترويح عن النفس، والتخفّف من الأعباء التي تفرضها الحياة على الإنسان من أهم مستلزمات الحياة. ليس الترفيه هو الهدف الوحيد من وراء الرحلات، فالرحلات إجمالاً أنواع عديدة، ولها العديد من الغايات، هي نشاط واسع جداً، وضروري في الآن ذاته لكل شخص، وقد اشتهرت العديد من الشخصيات العربية، والإسلامية، والعالمية عبر عهود التاريخ بهذا النشاط، حتى صار يُـطلق عليها لقب الرحّالة من كثرة تجوالها في أصقاع الأرض المختلفة.

 رحْلةُ تندوفْ في زمن الكورونا

    أهداني خلال زيارته في شهر نوفمبر 2022 إلى الوادي، ومشاركته في الملتقى الدولي: الأدب السياحي ودوره في الاستثمار الثقافي بجامعة خمة لخضر، أهداني الدكتور عبد القادر مسكي نسخة من كتابه: رحلة تندوف في زمن الكورونا.

    الكتاب من الحجم الصغير في 119 صفحة، صدر الكتاب عن دار خيال للطباعة والنشر والتوزيع ببرج بوعرريج . قسّمه الكاتب عبد القادر مسكي إلى تسعة أقسام، ويقصد بها المحطّات التسع من مدينة وهران إلى مدينة تندوف:

1ــ نعتوني بالجنون. 2 ــ همسات ركّابٍ.3 ـــ  في محطّات بشّار.4 ــــ  ليلة نحو تندوف. 5 ـــــ ومن هنا انطلقْتُ. 6 ـــــ وصدْمةٌ تعقبها صدمة.7 ـــــ  وأيّ مفاجأة. 8 ــــ وصمة فعودةٌ. 9 ـــــ رحلة في رحلة.

      يحدّثنا الكاتب في بداية الكتاب، ووباء كوفيد 19 ، الوباء الخطير الذي انتشر في العالم ابتداء من سنة 2020 ، وفتك بالملايين، وتغلغل في كل شبرٍ من المعمورة، وتوقّفت حركية الحياة بما في ذلك النقل في الجزائر ما بين المدن، في ذلك المنع، وذاك الحذر والخوف قرّر المؤلف عبد القادر السفر إلى تندوف مواصلة لبرنامجه الرحلاتي الذي شرع فيه منذ سنوات، وهو المهووس بالرحلات، والكتابة عنها. رحلته التندوفية وهو يتهيّأ للانطلاق فيها في وضْع وباء صحّيٍّ خطير حذّره أصدقاؤه منها، لكنه صمّم، وانطلق فيها حتّى أنهم نعتوه بالجنون:

« في مطلع سنة ألفين وعشرين ظهر بالعالم وباءٌ غريبٌ خطير، وباء حصد ملايين البشر فاضطرّت دول العالم إلى فرْض الحجر الصحّي.ص:7 »

« ...وأغلقت المساجد، والمطارات، وأوقفت جميع الرحلات، واشتدّت الأزمات فأغلقت المدارس، والجامعات، ومع حلول فصل الربيع  وطقسه البديع؛ وعلى الرغم من ذلك كله كنتُ أفكِّرُ بالقيام برحلة جنونية؛ فلسْتُ من يصبر على البقاء في المنزل.ص:07»

     في ثنايا الكتاب حوارات عديدة بين الركاب، والكاتب من بينهم في سفريتهم ذات المسافة البعيدة، والخوف من مفاجآت الطريق، والخوف الأكبر لدى الكاتب من عدم إيجاد وسيلة النقل بين المحطّة والأخرى كما الرعب لدى الركاب من الوباء حتّى في بعض الحالات من بعضهم، فقد يكون أحدهم مصابا ولا يعلمون به، بل لا يعلم هو بأنه مصابٌ.

    ويصل المؤلف عبد القادر إلى تندوف، ويجد في استقباله صديقه التندوفي حفظ الله الذي رحّب به واحتفى ، ثم شرع في التجوّل معه في أزقّة المدينة قديمها، وحديثها لتكون المحطّة الموالية لدى أحد الشيوخ، الأعيان العارفين، فكان الحوار ماتعًا عن مدينة تندوف، وتاريخها، وتركيبتها السكانية، وموقعها الحدودي:

« إنّ تندوف مدينة عريقة جدًّا سكنتها عدّة قبائل معروفة تفرّعت منها عائلات مختلفة منها قبيلتا الرقيبات وتجكانت، وهي مدينة تجارية بامتياز. كون تندوف منطقة حدودية لثلاث دول إسلامية: المغرب، الصحراء الغربية، موريطانيا،  من كلمة الموري وهي تسمية أمازيغية قديمة تعود إلى الشعب الموري الذي استقرّ بمنطقة شمال غرب إفريقيا منذ عشرات القرون؛ فإن موقعها الاستراتيجي جعلها قبلة للتجارة من كل حدب وصوب، وكان يُطلق عليها ( تنطوف).ص:39 »

      رِفْـــقتُــــنا للمؤلف عبد القادر مسكي في جولته بمدينة تندوف ماتعةٌ:

« في حيّ موساني العريق يوجد قصْرٌ أعرقُ ترتفع به مئذنة شامخة، يقع على طرف الوادي الفاصل بينه، وبين حيّ الرماضين، وكلاهما من قبيلة تجكانة، يبدو أنني في قلْب تندوف، نعم قلب تندوف النابض، حيث تموقعت القبيلة المؤسِّسة لمدينة تندوف كما أوردنا سالفا. في هذا التأمّل الرهيب للقصر ظهر لنا رجلان لا أعرفهما، لكنهما رحّبا بي أشدّ ترحابٍ، وكانت المفاجأة أكبر أنّ أحدهما كان الأستاذ أمنة الله بلعمش أحد أحفاد الشيخ العلّامة المختار بلعمش مؤسس مدينة تندوف، وشيخ زاويتها...وأيّ مفاجأة لم أتوقّعْها، لم أكدْ أصدّقُ أنني في مهْد تأسيس المدينة في عمق التاريخ، والذّاكرة. ص:66 »

      في حضرة هذا الحكي الجذّاب، والأسلوب الراقي الماتع يجول بنا عبد القادر أزقّة وشوارع المدينة، ويتوقّف بنا عند أسواقها، وما تعجّ به من حركة تجارية، وما تعرضه متاجرها من بهارات تتميّز بها ممّا يُحفّز المتسوّق على اقتنائها تحضيرً لشهر رمضان الفضيل، كما يقف بنا عند المعالم التاريخية والدينية، معه نحاور التاريخ، ونوقظ الذاكرة.

      مضمون الكتاب معرفيّ، ثقافيٌّ، سيّاحيٌّ؛ يرصد بلغة سردية عذبة جميلة، وأسلوب لغويٍّ شفّاف، رقراق يسحر القارئ، فيتماهى مع الكاتب في مرافقته، ومشاركته رحلته السياحية، الجميلة، الكاميراتية، والبحثية.

    

  

 

    

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...