الأحد، 14 سبتمبر 2025

 

السفر: الانكشاف والتجلي

       يقدم السفر كل الوعود بالتجديد»، واكتشاف الآخر»، وتغيير الجو والمناظر الطبيعية حيث تلتقي المتعة بالأمل في تعميق الشخصية، حاضرًا أصبح السفر ديمقراطيًّا بفضل الرحلات الجوية منخفضة التكلفة، وأصبح عُـرفًا اجتماعيًّا.

      ولكن في الوقت نفسه، لم يسبق أن واجه السفر تحديًا كهذا؛ سماءٌ تتقاطع فيها الطائرات، ودول استبدادية يمنحها السيّاح نوعًا من الشرعية، وأماكن مشوّهة، ووضعٌ استعماري يُخدَم فيه المصطاف، وشعور بالغثيان من المساهمة في صناعة الزيف، في وقتٍ اختفت فيه الأصالة.

      قد يكون السفر أمرًا يسيرًا، لكنه، في الوقت ذاته وبشكلٍ مفارِق، مستحيل. فهل علينا أن نظل في بيوتنا، محكومين بالألفة؟ وهل هذا هو الوقت المناسب للتوقف عن السعي نحو المجهول؟

      علاقتنا بالسفر تبدو مرآة دقيقة لعصرنا.

    تفكك جولييت موريس نرجسيتنا: لا جديد تحت الشمس، فالسفر كان مشكلة لمدة طويلة. ويميز كتابها على نحو خاص بين سؤالين متكررين: تحت أي ظروف يكون السفر وسيلة لمعرفة العالم؟ وهل هناك رحلة جيدة وأخرى سيئة؟

      يستند رفض الفلاسفة للسفر إلى نقد طريقة المعرفة التي تكمن وراءه. إن السفر يعني أن تثق في حواسك، وفي المقام الأول في نظرك، حيث يكتسب المسافر المعرفة من خلال عملية الاستقراء التي لا تحتاج إلى أدوات نظرية.

      لقد أوصى مونتين بالتدريب القوي للمسافر الشاب، ولكن عندما يواجه المسافر المجهول، فإنه يمضي دائمًا بطريقة المحاولة والخطأ في كل الاتجاهات، وأحيانًا بلا منهج. يقول كانط: «شكرًا جزيلًا للمسافر التجريبي البحت وقصصه، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالوصول إلى معرفة متماسكة يجب أن يستعين بها العقل لتأكيد نظرية ما!» لماذا تسافر بينما يمكنك، مثل الرجل الذي لم يغادر كونيغسبيرغ قطُّ، قراءة قصص السفر؟ إذا كان هدف الرحلة هو معرفة العالم، فإن التأمل في قصص الآخرين يبدو أكثر عقلانية، وأقل خطورة؛ لهذا لا يزال من الضروري أن يكون هناك مسافرون. تطور المؤلفة «المفارقة الكانطية التي جعلت ممارسة السفر ضرورية ويمكن الاستغناء عنها. إن قراءة قصص السفر، واستخلاص معرفة المرء بالعالم من مؤلفين آخرين، يعني تصور إمكانية تجربة غير مباشرة للعالم، أي سفر عبر وساطة الآخرين».

     يعد البعد المعرفي للسفر أكثر إشكالية؛ لأنه يعتمد على القصص. وليس من المستغرب أن يحلل هذا الكتاب نصوصًا فلسفية إضافة إلى أعمال كُتَّاب، من شاتوبريان إلى نيكولا بوفييه. ومن هنا تبرز مسألة وجهة النظر، ومعها مسألة الخيال: فمهما كثرت الأكاذيب، فإنها تأتي من بعيد. تشير المؤلفة إلى أن المعارضة بين الفيلسوف والرحالة كانت قوية بالفعل في زمن بوغانفيل. فقبل أن ينتمي إلى هذه الفئة التي يكرهها مؤلف كتاب «مداريات حزينة»، كتب المستكشف: «أنا مسافر وبحار؛ وهذا يعني كاذب ومعتوه في نظر هذه الفئة من الكُتّاب الكسالى والرائعين الذين في ظلال غرفهم يتفلسفون بقدر ما تستطيع أن تراه العين، ويخضعون الطبيعة لخيالهم بشكل استبدادي».

     إن الشك في صحة روايات المسافرين في نهاية القرن الثامن عشر أفسح المجال للرحلة الرومانسية. وقد نقلت هذه الأخيرة الإشكالية من مسألة «صدق المعلومات المنقولة» إلى مسألة «صدق تجربة السفر» ذاتها. لقد شجبت الإثنوغرافيا، وعلى رأسها ليفي شتراوس، عجز المسافر عن ذكر أي شيء آخر غير التفاهات أو الكليشيهات. وتشير المؤلفة إلى أن التعارض بين المفكرين والمسافرين يضاعف التعارض بين الفلاسفة والكتاب. لقد تتبع فنسنت ديبايني، في كتابه «وداعًا للسفر» (غاليمار، 2010م)، هذه الديناميكية التاريخية التي قادت عالم الإثنولوجيا إلى التفوق على كاتب الرحلات. كان من شأن هذا النهج العلمي أن «يجرد» الأدب تدريجيًّا من إمكاناته المعرفية من خلال صياغة منهجية علمية متينة وكتابة مقابلة، كما كان من الممكن أن تدمر الإثنولوجيا سرد السفر كأداة لمعرفة العالم.

 

السفر الحقيقي والسفر الكاذب

      إن إدانة فائدة السفر تتداخل مع سؤال أخلاقي: سيكون هناك سفر جيد وآخر سيئ. هل يتمتع المسافر الذي يسير ببطء، وبالتدريج، أكثر من ذاك الذي يسافر على متن الطائرات في لحظات سريعة؟ تستكشف الباحثة، من منظور ظاهراتي، السفر سيرًا على الأقدام، بالقطار، بالسيارة، وبالدراجة… ومن خلال هذه الدراسة لطرائق تحرك الجسد، ينخرط العمل في نقد كامل للدوكسا «البديلة» أو «المضاد للثقافة» التي بموجبها تكون بعض الأسفار أكثر «أصالة» من غيرها. إنه سؤال تقليدي في المحادثات بين الرحالة في الأراضي البعيدة (…) حيث كان أحد الأشخاص يسافر سيرًا على الأقدام لمدة عامين، وآخر كان محظوظًا بما فيه الكفاية ليختطفه مزارعون لبضعة أيام، بينما آخر تناول «البَيُّوت» مع الأميركيين الأصليين الحقيقيين… إلخ. في هذا المعرض العظيم من الزخارف والأناقة المغايرة، هناك دائمًا مسافر أفضل منك. ونظرًا لكون جولييت موريس باحثة جادة، فقد امتنعت عن الاستشهاد بدليل السفر «مولفانيا»، وهو الكتاب الذي يمكننا أن نقرأ فيه الجملة التالية: «إذا لم تنم بين صندوقي قمامة في شارع سيئ في لوتنبلاغ (العاصمة)، فأنت لم ترَ مولفانيا». وباختصار، كلما اقتربت الرحلة من المغامرة، وبالتالي من المخاطر، وبخاصة خطر الموت؛ اقتربنا من السفر الحقيقي.

      ومن خلال تعديل مسألة السفر الحقيقي والسفر الكاذب، يبرز سؤال آخر: ما الذي يميز المسافر الجيد عن المسافر السيئ، أي المسافر عن السائح؟ وفقًا لجولييت موريس، يُعرَّف السائح بثلاث وصمات: «التعلق بالصورة (الفوتوغرافية خاصة)، وممارسة التخريب، اللجوء إلى الدليل». من فورنا، نتخيل نوعًا مثاليًّا من السائحين الغربيين من الطبقة المتوسطة، حاملًا عصا السيلفي في يده أمام إحدى الأهرامات، يركض نحو أول متجر للهدايا التذكارية. بدا نيرفال مختلفًا! من السهل إثبات أن فيكتور هوغو (الذي نصب نفسه مخربًا) أو شاتوبريان قد شاركا في هذه الممارسات، وهي ليست مخصصة بأي حال من الأحوال للسياح المعاصرين.

 

        يقف السائح أمام تراكم المواد (مدينة إلغين الإسكتلاندية ورخامها)، مركزًا على المناظر الخلابة والأثرية على حساب السكان المحليين. وعلى نحو أكثر عمقًا، يرغب في الهروب من المعايير الثابتة التي حددها المرشدون، ينجذب حتمًا إلى الأماكن غير السياحية… التي تصبح سياحية بوجوده فقط. يجد المسافر نفسه «أسيرًا لقيود مزدوجة، ومحكومًا إما بالتخلي عن الرحلة، أو أن يكون مجرد سائح. لنلخص الأمر بشكل مبسط بالقول: «إن السائح هو الوجه الآخر للمسافر»؛ السائح هو الذي لا يقوم برحلة حقيقية، والشخص الذي سيحدد علامات هذه الحقيقة ذكي جدًّا، كما يشير إلى ذلك عالم الأنثروبولوجيا جان ديدييه أوربان.

      وباختصار، فقد حلت العلوم الاجتماعية محل سرد السفر، وأصبح التمييز بين السائح والمسافر تعارضًا زائفًا. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المثير للاهتمام أن بعض الأشخاص يرون الأمور على نحو مختلف في أثناء السفر، ولكن بشكل خاص يرونها أفضل من الآخرين. لنـأخذ، على سبيل المثال، الروايات السياسية للرحلات الغائبة عن هذا الكتاب، ففي الأغلب تكون هذه لحظات مليئة بالوضوح أو العمى. عندما يسخر تروتسكي من «السياح الراديكاليين» الذين يسافرون عبر الاتحاد السوفييتي في أواخر عشرينيات القرن العشرين، فإنه يستهدف المثقفين الغربيين العاجزين عن رؤية ما وراء الأكاذيب التي تُقال لهم. على العكس من ذلك، تمكن بعض المسافرين، بسبب ثقافتهم السياسية أو انتمائهم الطبقي، أو كليهما، من إدراك حقيقة النظام، أو حقيقة البلاد، إذا جاز التعبير.

 تطوير أخلاقيات السفر

      لنتأمل كتابات كل من أندريه جيد أو بانايت إستراتي، اللذين تكشف قصص سفرهما الوجه الآخر للواقع. وفي المدة نفسها، كتب جورج دوهاميل رواية يشيد فيها بروسيا السوفييتية «رحلة موسكو»، (1927م)، بينما نشرت إيلا مايلرت رواية «بين الشباب الروسي»، (1932م) عن رحلاتها في منطقة القوقاز التي يسكنها البروليتاريون الودودون… أربع رحلات إلى الأماكن نفسها وفي الوقت نفسه. أربع قصص كتبت بلا شك بإخلاص متماثل. قال الأولان الحقيقة، فيما الآخران جانَبَاها. ونضيف أن جيد وإستراتي، اللذين لم يتبعا أي أسلوب آخر غير الأدبي، عرفا كيف يصلان إلى جوهر الأمور بدقة. ولنضف إلى ذلك أن جيد وإستراتي، وقد تجردا من أي أسلوب غير الأسلوب الأدبي، عرفا كيف يصلان إلى حقيقة الأشياء وبكل دقة.

      قد لا يكون هناك شيء اسمه رحلة كاذبة أو حقيقية، ولكن بعض الرحلات فقط هي التي تعطي لمحة عن الحقيقة. وبالتالي، فإن الواقعية هي الفكرة المركزية لمسألة السفر هذه. تحلل الباحثة مفهوم الغرابة، وترى فيه علامة على ما قد اختفى، وهو أمر خارجي بالنسبة لنا، ولكننا مع ذلك ندركه. تظهر الغرابة وتشير إلى «رحلة حقيقية»، لكنها دائمًا ما تكون في الماضي، عندما لم يكن هناك سياح بعد. إنه الزي التقليدي الذي ترتديه سيدة عجوز في إحدى قرى البلقان، أو مهرجان ديني كان قد استمر في عمق وادٍ إيطالي، والبقاء على قيد الحياة في عالم من المفترض أن يكون موحدًا بشكل متزايد. ومن هنا تأتي كآبة العديد من الرحلات التي ربما تبتلع فيها الكيلومترات للوصول إلى زمن مضى وأكثر نقاء، وبمعنى أدقّ نقيًّا من السياح.

     في ضوء ذلك، فإن أقصى ما يمكن أن نفعله، وفقًا لجولييت موريس، في قراءتها لكتاب ليريس «إفريقيا الشبح»، هو تطوير أخلاقيات السفر التي تبدأ بالاعتراف بالنقص الذي هو جزء لا يتجزأ من كل سفر. لذلك يجب أن نستمر في الانطلاق؛ لأنه لا يزال ممكنًا وقد يكون له بعض القيمة، لكن من دون أن يغيب عن بالنا حقيقة مفادها أننا سنتأرجح دائمًا «بين الخيبة والأمل المتجدد في القدرة على لمس شيء ما. أليست هذه الحالة -غير المؤكدة وغير المستقرة والهشة والمتحركة دائمًا- هي الأكثر حكمة ووضوحًا لأي مسافر؟».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  غزلُ النساء في الأدب العربي       لا يجادل أحدٌ في وفرة الأبيات، والقصائد التي يتغزل فيها الرجل بالمرأة عبر العصور، وفي مختلف الأمكنة، و...