الأحد، 14 سبتمبر 2025

 

فَنُّ التارِيخ عند ابن خَلدُون… هل قرأنا المقدمة

 أم نكتفي بقراءةٍ عَجْلَى؟

     إن الغرضَ من هذا المقال هو عرضٌ مكثف لمكانة «المقدمة» لدى الغربِ وتشديدٌ على ضرورة تفحصها أكثر في البحوث الأكاديمية العربية. الألمان، مثلًا، لم يملوا، لمدّة أكثر من أربعة قرون، من دراسة الفيلسوف إيمانويل كانط، وتطوير أفكاره ونقدها، فلماذا لا يعتني العربُ بالمقدّمة فلسفيًّا وتاريخيًّا وحضاريًّا وثقافيًّا ولغويًّا؟

    موقفه من الفلسفة والعقل

     يقول الفيلسوف وعالم الدين الإسكتلندي، روبيرت فلينت:

«إن ابن خلدون هو أول كاتب طرح التاريخ بوصفه موضوعًا خاصًّا لعلم خاص.»

     ووفقًا لهذا الأساس، هل نعدُّه مؤسّسًا لعلْمِ التاريخ، أم لا ؟ قد تختلف الآراء حول هذه المسألة، ولكن أيّ قارئ نزيه لكتابه «المقدمة» لا يمكنه إنكار استحقاقه لهذا الشرف أكثر من استحقاق أي مؤلف آخر قبل فيكو».

     يخصّص روبيرت فلينت جزءًا من كتابه، «تاريخ فلسفة التاريخ: الفلسفة التاريخية في فرنسا وألمانيا»، للحديث عن ابن خلدون ومقارنته بغيره. فقد وجدَ فيه النموذج المثالي للسياسيّ الماهر والكائن الفاعل في المجتمع، فضلًا عن مهارته في الإقناع والتكيف مع الظروف؛ ذلك أنّ ابن خلدون طمح إلى التميّز في السياسة والأدب، ولم يلتزم بأيّ نظام ميتافيزيقي أو تأملي في كتاباته.

    خصص في كتابه: «المقدّمة» فصلًا كاملًا للبرهنة على عدِّ الفلسفة علمًا كاذبًا، وهي ليست خائنة لوعودها وحسب، وإنّما ضارة بطبيعة الحال؛ لأنها معادية للدين. وهو يعترف فقط بأنّ معرفة تاريخها له قيمة، وأن دراستها تعمل على شحذ الفهم المنطقيّ. وقد نُبرّر هذا العِدَاء بالسياق التاريخي والفكري آنذاك.

     ومع ذلك، فهو لا يُخفي تَأكيدهُ ضرورةَ ترسيخها من قِبل أولئك الذين لديهم أساس جيد في تفسير القرآن، والفقه الإسلامي.

      لطالما قدَّر ابن خلدون العلوم الإيجابية تقديرًا عاليًا، وهو الذي تقبّل تعاليم اللاهوت العقائدي بوصفه جديرًا بالثقة، وفقًا له.

      ويرى أيضًا الممارسة الحرّة للعقل في مجالات الدين والميتافيزيقا ضارة. ولأنه لم يتبع أيّ فلسفة، لم يحاول تفسيرها.

      ومن ثمّة لم يشكّـلْ نظريات تاريخية وحاول استنباطها مباشرة من الحقائق التاريخية.

     ومعرفته بها جعلته قادرًا على فهم موروث الشرق بعمقه واتساعه. وقد بَرَعَ ابن خلدون في تحليل الظواهر الاجتماعية وآثارها داخل المجتمع.

     هـدفُ ابن خلدون، بحسب فلينت، هو رفع التاريخ من مرتبة الفنّ إلى العلم. وهو الذي تتبع الروابط الحياتية بين الريف والمدن بوصفهما مهدَ الحضاراتِ، مُشدّدًا على التفوّق الأخلاقي لسكان الريف على سكن المدن. فعلى الرغم من فظاظتهم الشديدة في السلوك، فإنهم الأكثر شجاعة.

     ويعود ذلك، إلى استقلالهم الأكبر في العمل وإعفائهم من التنظيم الخارجي للسلوك البشريّ. ويتناول بالتفصيل طبيعة الحياة الاجتماعية في الصحراء؛ إذْ تَحتاج قَبيلة الصحراء إلى أن تكون قبل كل شيء مُــفعمة بالحيوية والأحاسيس المجتمعية. وهذا الشعور لا يوجد بقوّة إلا بين الأشخاص الذين تربطهم علاقة دم أو ما يعادلها.

     إلى جانب ذلك، تكمنُ ميزة ابن خلدون في رؤيته المُختلفة للتاريخ. يقول في «المقدمة»:

«واعلم أنّ فنّ التاريخ فن عزيز المذاهب، جمّ الفوائد، شريف الغاية؛ إذْ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم. حتى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمَنْ يَرُومهُ في أحوال الدين، والدنيا، فهو محتاجٌ إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسن نظر وتثبت يُفضيان بمصاحبهما إلى الحق، ويُنكبان به عن المزلّات والمغالط؛ لأن الأخبار إذا اعتمدَ فيها على مجرّد النقل، ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمنْ فيها من العثور ومزلّة القدم، والحيد عن جادّة الصِّدْق».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  رواية: " حفنة وجعٍ" .. قلْبٌ على مجمر الحُبّ يتلظّى..   قراءة وعرْض: بشير خلف       بكلّ غبطة وسعادة تلقّيتُ منذ أيام هدية...