الأحد، 14 سبتمبر 2025

 

جاذبية القصة في الأدب والعلوم الإنسانية المعاصرة

       للسرد غواية، وقوى جاذبة تطلقها المخيلة؛ لتستثير العديد من كوامن الحسّ الإنساني، وتلتفّ كنسيج حريري رابط بين العقل والعاطفة؛ وبتحريضهما معًا ينتج لنا ما يسمى حقائق الوجدان ومستودع التجارب البشرية والذاكرة الثقافية.

     فمن أبسط التوصيفات، يشير مارك تيرنر: إلى أن الإنسانية قد ابتكرت اللغة إرضاءً لحاجتها إلى سرْد القصص.

      أما في الذهاب إلى أشد الأقوال مغالاة، فنجدها عند جيروم برونر في أطروحاته الثلاث: السرد يبني الواقع، وأن الهوية في تكوينها تعتبر بناء سرديًّا، والثالثة وهي المستفزة حقًّا عند وصفه للسرد بأنه يتيح لنا الحصول على نظرية للعقل.

      لهذا تخفف الباحثة في جامعة كولورادو ماري لور رايان من غلواء التضخيم في أهمية السرد، وتضعه في سياق عملي مقبول من حيث إن القصة ليست نتاجًا لبعض العمليات العقلية، لكنها مصدر قدراتنا على تحقيق هذه العمليات.

    إذن، فالسرد طريقة في التفكير تنهل مما وراء الوعي من رؤى، وبما يشبه أحلام اليقظة عند تجسيدها للانفعالات والعواطف؛ بما يربط النصوص السردية بالواقع.

     هذا ما يقرّب القصة من الشعر، بل يصح أن نطلق عليها أنها لون من «الشعر المتحجر»؛ يجاهد القاص - بحسب موهبته وخبرته - على تسييله وتوجيهه ليصب في نهر الحكاية العظيم. وذلك ما دعا بالراحل نجيب محفوظ استشرافها بقوله: إنها ستصبح «شعر الدنيا الحديثة».

 الحد الفاصل بين الحكاية والقصة

      حسم بوريس إيخنباوم الخلاف في الفرق بين الرواية والقصة؛ ليس من ناحية الموضوع، ولا من ناحية مدلول الطول والقصر، بل من ناحية البناء الذي يقوم عليه كل منهما.

     فالرواية تقوم على ثلاث مراحل: تمهيد، فتأزّم، فانفراج، أما القصة فنهايتها التأزم.

     لكن ماذا عن الفرق بين الحكاية والقصة؟

      من جانب آخر، ذهب جورج جون في كتابه «سلطة الحكاية» للتمييز بين الحكاية والقصة وفق الثوابت التالية: الموضوعية، والزمنية، والأسطورية.

     وفي تفصيل أكثر وضوحًا، يرى جوزبير أوبريت في بحثه المعمق عن الفروقات التي يمكن ملاحظتها بين الحكاية والقصة، أنهما تتبادلان التأثير فيما بينهما، فيمكن لكل واحد منهما أن يستعير سمات فنية من الآخر، وقد حافظا على ما هو مشترك وجوهري بينهما، من ناحية: التشخيص الملموس، والاقتضاب، والواقعة، والاستطلاع.

     وتكمن الفروق بينهما في أربعة محددات:

الأول، أن زمن الحكاية هو زمن الأسطورة المغلق،

أما زمن القصة القصيرة فهو زمن سطري ومنفتح وشاهد على عالم يفقد استقرارًا لا تعيه الذاكرة.

     والثاني، أن الحكاية تحيل على حقيقة قائمة، وهي بمنزلة نظام ثابت لعالم مغلق.

أما القصة القصيرة فهي عالم مريب ومتصدع وبحث في شؤون العالم والإنسان.

      والثالث، توظف القصة القصيرة شخوصًا من العالم المعيش. أما الحكاية فتجسدها الأنماط العليا.

     المحدد الرابع في رأي جوزبير، عندما تستثمر الحكاية العجائبي الذي يوفق بين المنطق فوق الطبيعي والمنطق العقلاني، ويجعل القارئ يقبل - دون تحفظ – حضور اللامعقول في الواقع. في حين تعتمد القصة القصيرة على الاستيهامي الذي يثير شك البطل والقارئ على حد سواء.

 القصة بين هاجس الخفوت ومعززات البعث

      عدا عن الرواية التي ما زالت تتمتع بحظوة لدى جمهور القراء، نشهد تراجعًا لحضور القصة القصيرة في مشهدنا الأدبي، وهذا ما كان مغايرًا لإشراقتها في القرن الماضي. عوامل عديدة أدت إلى هذا التقهقر، ومنها عاملان أساسيان أثرا سلبًا في سيرورتها، حسب ما توصل إليه الناقد جوزبيير أوبريت.

     الأول، هو عامل النشر؛ إذ تراجعت نسبة قراءة الصحف بسبب ظهور وسائل إعلامية منافسة لا تخصص إلا حيزًا ضئيلًا للقصة القصيرة، كما أن الناشرين لا يتحمسون كثيرًا لطبع المجموعات القصصية بدعوى انحسار دائرة قرائها وضعف مبيعاتها.

     والعامل الثاني، جمالي، ويتمثل فيما تسميه مارث روبير بإمبريالية الرواية؛ حينما استطاعت الرواية أن تتربع على عرش الحكي مستأثرة باهتمام الناشرين والقراء. وهذا ما أثر سلبًا في إشعاع الأنواع الحكائية الأخرى.

      ذلك التراجع في سيرورتها، كجنس أدبي، كان فقط وجه العملة البارز من المشاهدة، أما وجهها الآخر المزدهر والمتواري، فيمكن استنباطه والاستدلال عليه من خلال حضورها الجلي في كتب «تنمية الذات وتطويرها». وهو مسار مختلف جدًّا عن توجه تقاليد كتابتها الإبداعية الأدبية؛ فهي بين الحكاية كمفهوم، والقصة القصيرة كبنية.

     ارتقت القصة قليلًا في هذا النوع من الكتب عن سذاجة الحكاية وبدائيتها التي تفرقها عن القصة القصيرة الأدبية في بنيتها السردية، وتلتقي معها في متنها الحكائي .

     فأسلوب سردها في كتب تنمية الذات، قلما يأتي بالطريقة التي يمارسها كتاب السرد الأدبي؛ من حيث المبنى الذي يتصرف فيه السارد بالأحداث على غير تسلسلها المنطقي وتتابع الأحداث.

     لذا؛ نجدها تنتمي في غالبها إلى «المتن الحكائي» وفق تنظيرات بوريس توماشفسكي الذي تُسرَد فيه الأحداث والوقائع حسب النظام الطبيعي باتساقها مع الزمني والسببي. وصوت السارد فيها، دائمًا هو موكول «للراوي العليم»، بينما تتنوع الأصوات في القصة القصيرة الأدبية.

     أيضًا تنهج كتب الذات وتتشبه بتقنيات الحبكة الدرامية في القصص القصيرة، مثل:

المقدمة الدرامية، ونقطة الانطلاق، وتصاعد الأحداث وتأزمها، ثم هبوط مستوى الأحدث إلى انحلال الحبكة.

      هذا ما نجده من طبيعة لقصص «معظم» كتب تنمية الذات المعاصرة؛ التي احتلت فيها القصص نسبة وازنة من المساحة، حتى كادت تصبح في مجمل نصوصها بمنزلة «المتن»، وقواعد السلوك المثالية التي تمليها وتنظر لها تلك الكتب مجرد «حواشٍ». عن طريقها يمرر الكاتب رؤاه وأفكاره، كما هو التقليد العريق في تاريخيته وممارسته؛ يوم كان الحكماء والمتصوفة، ثم الوعاظ تالِين، يصنعون الحكايات؛ ذلك لمقدرتها العالية المثلى، وبما هو مأمول منها؛ كرافعة تنهض بالمقولات الوعظية، وتصلها بيسر وسلاسة إلى جمهور المستمعين.

      كان ذلك دورها دون الشعر الذي يمعن في إيحائه للمعنى دون تقريره. وخصوصًا، عندما يكون مترجمًا ينتمي إلى لغة وثقافة مختلفة.

     وللمثال، يمكننا الاستشهاد بالنصين التالييْنِ من الموروث الهندي، حيث يتقاطعان في الحكاية، ويفترقان في طريقة التعبير: شعر وقصة.

       ينشد الواعظ شمس الدين هذا النص الشعري في تبيان وجوب خروج الإنسان بذاته عن صخب الخطاب الجمعي، ووجوب اختطاط الفرد مسيره، وأن ذلك يتأتى له بفهمه العميق لذاته:

«نسي الأسد القرمزي شكله،

بين الأغنام، وظن أنه صار نعجة..

ولكنه فيما بعد عرف نفسه؛

حين سمع زئيره، وهو يحدث القطيع».

    هذا المقطع الشعري المترجم إلى العربية، لا يمكن فهم إشارته بتمامها، ولما يوحي به من معنى، إلا بالرجوع إلى أصل الحكاية التي يسردها هاينريتش زيمر في كتابه «فلسفة الهند»:

      يُحكى أنه كان هناك أنثى نَمِر على وشك الوضع، وذات يوم بينما كانت تصطاد في البَرِّيَّة، أتت على قطيع من الماعز، فطاردتهم، واستطاعت وهي في حالتها تلك اقتناص إحداها، لكن إجهاد الصيد قد أدخلها في عملية الوضع، واضعة وليدًا ذكرًا وتوفيت على إثره. ثم عادت الماعز الهاربة بعد أن علمت بزوال الخطر، وعند اقترابها من الأنثى المُتوفاة لاحظت الجرو الصغير فضمته إلى قطيعها.

     كبر جرو النمر بين الماعز معتقدًا أنه أيضًا معزة، كان ثغاؤه كالماعز كيفما استطاع.. رائحته مثلها وكان يأكل النباتات فقط. مجمل الأمر أنه كان معزة من كل الجوانب لكن في داخله كان قلب نمر ينبض. ظل الأمر يسير على ما يرام إلى اليوم الذي هاجم فيه نمر كبير القطيع وقتل أحد المَعْزِ، وفَرّ بقية القطيع بمجرد رؤيتهم للنمر الكبير. لكن بطل قصتنا النمر/ المعزة لم يَرَ داعيًا للهروب، وكان هذا مرجعه لعدم شعوره بأي خطر.

     كان النمرُ الكبير مخضرمًا في أمور الصيد، لكنه لم يكن في حياته مصدومًا كصدمته عند مقابلة هذا النمر الصغير، لم يكن يعي ما الذي جعل هذا النمرَ المكتمل رائحته وثُغاءَه وأحواله كافة كالمَعْز.

      أمسك النمرُ الكبير النمرَ الصغير بمنتهى الخشونة والفظاظة، ومن دون أدنى تعاطف من مؤخرة عنقه، وسحبه نحو أقرب جدول ماء وأراه انعكاسه على الماء، ولم يَعْنِ الأمر له شيئًا، وأخفق في أن يرى وجه الشبه بينه وبين النمر الكبير. ونظرًا لإحباط النمر الكبير من انعدام استيعاب الصغير، سحبه عائدًا إلى موقع صيده السابق، ومزق قطعة من لحم الفريسة، ودفعها في فم صديقنا الصغير.

      لنا أن نتخيل صدمة النمر الصغير وذعره مما يحدث. في البداية شعر بالغثيان وحاول لفظ اللحم النِّيء، لكن النمر الكبير أصرَّ أن يريه حقيقة نفسه (نفسه الحقيقية)؛ لذا تأكد من أن الصغير ابتلع الطعام الجديد، وحينما تأكد من ابتلاعه كله، دفع إليه بقطعة أخرى، لكن في هذه المرة كان أمرٌ ما قد تغير. لقد سمح النمر الصغير لنفسه بأن يتذوق اللحم النِّيء والدم الدافئ، وتناول هذه القطعة بتلذذ. وعندما انتهى من المضغ تمطَّع وللمرة الأولى في حياته القصيرة أطلق زئيرًا قويًّا- زئير نمر برّيّ «زئير الصحوة». بعدها، اختفى النمران معًا في الغابة.

     كما لاحظنا، فقد كان استيعابنا للحظة التنوير التي تشير إليها الحكاية أكبر مما يوحي به النص الشعري لشمس الدين. هي الومضة من الوعي «عندما نكتشف فيها أكثر مما نعتقد عن أنفسنا. هي اكتشاف أننا أخذنا هويات تعبر عن كينونتنا الجوهرية بشكل غير صحيح وغير كافٍ. إن الأمر أشبه بأننا كما لو كنا نحلم ثم استيقظنا فجأة من الحلم، ننظر حولنا مدركين أننا في واقع مختلف كلية عما كنا فيه»، هكذا علق على الحكاية هال ستون ويدرا ستون.

    القصة من جمال الماضي إلى إثارة المستقبل

       هكذا هي القصة، نسيج حريري يمتد إلى أبعد من حدود «الشرنقة»، وأفسح مجالًا من إملاءات توماشفسكي وجيرار جينيت. دودة قزها تغازل فراشات الأحلام الهائمة، والعواطف الجامحة. تختبئ معها داخل الشرنقة، فيغزلون وجودًا موازيًا للعالم المعيش. تستفزها الأفكار المجردة، ويبهجها كل شطح في الرؤى؛ عندما استضافت جداتها ذات يوم، الخرافة والأسطورة والمقامة… أما حفيدتها، فهي منشغلة حاليًّا بتهيئة الشرنقة؛ لاستضافة «الشات جي بي تي»، أو الذكاء الاصطناعي!

المصدر:

المجلة العربية السعودية 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  رواية: " حفنة وجعٍ" .. قلْبٌ على مجمر الحُبّ يتلظّى..   قراءة وعرْض: بشير خلف       بكلّ غبطة وسعادة تلقّيتُ منذ أيام هدية...