السبت، 4 مايو 2013

ثقافة القص واللصق



ثقافة القص واللصق
        ماذا لو قُدّر لأفلاطون أن يبعث حيا، وطلبنا رأيه في نظام التعليم الجامعي في بعض الدول العربية؟ أليس هو القائل إن الكتابة تنهك الذاكرة؟ لقد كان يعتقد أن الناس لا يضطرون إلى تدريب ذاكرتهم لأنهم يتذكرون الأشياء بمساعدة وسيط خارجي، أي الكتابة؟  لقد نسف الفيلسوف الإيطالي أنبرتو إيكو هذا الرأي من أساسه إذ أكد أن الكتابة تحمي الذاكرة الجماعية. والكتاب آلية تؤدى إلى إثارة المزيد من الأفكار. لا أعتقد أنه يوجد اليوم من يخالف هذا الرأي لكن ماذا لو نزّلناه إلي حياتنا اليومية، وفحصناه على ضوء واقع التعليم في المنطقة العربية؟ هذا السؤال لا يحمل نية الإيحاء للفيلسوف الجزائري، عبد القادر بن عرفة، أننا وقعنا فيما هو أسوأ مما حذّرنا منه عندما قال فيما معناه ''لابد أن نتعلم من الكتاب كيف نفكر لا أن نتركه يفكر لنا، وأن نفكر معه لا أن نفكر مثله''.
        إنه يتضمن الإشارة إلى طرائق التعليم السائدة في بعض الدول العربية والتي لا زالت خاضعة لمنطق ما قبل المطبعة، أي أنها ظلت تحتفظ ببصمات عصر الكُتَاب، مع احترامنا لكل المتخرجين فيه، فالتعليم في ذلك العصر كان قائما على الحفظ، يقوم الطالب بكتابة السُّورَة القرآنية على اللوح ويحفظها مع الجماعة، ثم يعرض ما حفظه على المدرّس الذي يأمره بمحوه بعد أن يتأكد من ذلك. ويدعوه إلى كتابة سّورة قرآنية جديدة، وهكذا. فهذا الطالب لا يحتفظ بما كتبه ويؤرشفه لأنه حفظه. وبعد الانتهاء مما يجب حفظه ينتقل إلى الشرح، ثم شرح الشرح، ونادرا ما يتبعهما التفكير. فنظام التعليم الجامعي في بعض الدول العربية لازال، مع الأسف، رهينة الحفظ حتى عندما يتوفر الكتاب المقرر. أما التفكير فقد تُرك للشيخ ''غوغل''.
        قد يرى البعض في هذا القول تجنيا على نظام التعليم العالي في المنطقة العربية لأنه يجنح نحو التعميم، ويتجاهل دور التكنولوجيا الحديثة في تثويره في هذا البلد العربي أو ذاك. بالفعل إن بعض البلدان العربية استطاعت أن توظف التكنولوجيا بذكاء في عملية التعليم، بيد أن بعضها الآخر أصبح يعاني من تبعات هذه التكنولوجيا على نظامه التعليمي. وحتى تتضح هذه المعاناة أكثر نتوقف قليلا عند المثال التالي: يدخل أحد الممتحنين لنيل شهادة البكالوريا قاعة الامتحان. ويبدأ بالانتقال بين زملائه ليسترق النظر إلى إجاباتهم. ثم يكتب في ورقة الامتحان ما يلي: لقد أجاب ''فلان'' عن السؤال الأول بكذا وكذا.
         أما التلميذ الفلاني فقد أجاب عن السؤال ذاته بكيت وذيت، وهكذا إلى غاية أن ينتهي من نقل إجابة غيره من التلاميذ. فهل يحق لهذا التلميذ النجاح والانتقال إلى الجامعة؟ فبعض الطلبة يقومون بمثل ما قام به هذا الممتحن لإنجاز بحوثهم. وقد يسّرت لهم التكنولوجيا الحديثة ذلك لما تتيحه من قص ولصق، إلى درجة أنهم عجزوا عن توثيق المقاطع والفقرات، إن لم تكن النصوص التي سلخوها وألصقوها ببحوثهم، أي أنهم عجزوا عن نسبها إلى أصحابها كونهم لم يضيفوا لها سوى حروف الجر والعطف. قد يقول قائل:
 لقد أصبح بيد الأساتذة والمؤسسات الجامعية اليوم برامج كمبيوتر تساعدهم على الكشف عن عملية الغش والانتحال ونهب جهد الآخرين. لكن السؤال الذى يطرح يتعلق بالإجراءات المتخذة بعد كشف الغش؟ ألم يتم الكشف عن حالات التزوير قبل استخدام الكمبيوتر وبعده، وتداولتها بعض وسائل الإعلام؟
        فإذا كانت التكنولوجيا الحديثة قد دفعت ببعض الطلبة للمشاركة الفعالة في عملية التعلّم، فإنها دفعت بعضهم الآخر إلى الاستغناء عن الكتابة ليس تضامنا مع أفلاطون، بل استسلاما للكسل! لقد أصبحوا يبحلقون في شاشة عرض الدرّس أو يدفنون رؤوسهم في شاشات هواتفهم الذكية للعب أو قراءة الرسائل النصية القصيرة في أثناء المحاضرة. ويمارسون القص واللصق إذا كلفوا بواجب ما، مثلما لاحظ أستاذ الإعلام الآلي الذي كلف طلبته بالبحث عن نظرية ''هوفمان في الغرافيكس''، فجاءه أحدهم بنص مكتوب باللغة الألمانية التي لا يتقنها! لقد طبع أول نص أظهره محرك البحث غوغل!
      إن التكنولوجيا ستكون رافدا مهمّا في التعليم إذا حررت طاقة الطالب وفجّرت كفاءاته، ومكّنته من التفكير، والتفكير في طرائق التفكير.
       فهل بقى لأفلاطون ما يقوله بعد أن زعم الفيلسوف المغربي عبد السلام بن عبد العالي أن المقص أداة الكتابة، وهو يرى أن اللصق يكاد ينفيها؟  
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يومية الخبر: الاثنين 29 أفريل 2013
بقلم: نصر الدين لعياضي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...