بشير خلف و«السيرة الذاتية»: من الأداتي إلى الجوهري
عبدالحفيظ بن جلولي/ صحيفة القدس العربي. 04 أفريل 2021
قراءة السيرة الذاتية تثير
بعض الأسئلة، ولعل طبيعتها الذاتية تفسر شيئا من ذلك، ويمكن أن يكون اختيار بعض
المفكرين والكُتاب، السيرة الفكرية تجنبا لمثل ذلك الطائف من السؤال، الذي يراود
ذهن القارئ، فلا يمكن إغفال التساؤل حول المغزى من الكتابة السيرذاتية، هل يريد
الكاتب أن يقول ها أنذا؟ هل يحاول أن يكتب مسارا مهنيا لوجوديته القلقة؟ هل يريد
أن يقدم تجربة حياتية بسيطة كما حدثت؟ هل يريد أن تكون السيرة بداية، باعتبارها
حياة بالكلمة والمعنى؟ هذه بعض الأسئلة داهمتني وأنا أتابع قراءة «حياتي في دائرة
الضوء» السيرة الذاتية للأديب الجزائري بشير خلف.
يبدأ بشير خلف سيرته الذاتية بسؤال ماهيتها، وبعد أن يقف عند آراء عدد من
الكتاب، منهم فيليب لوجون، الذي يؤكد على «التطابق الحقيقي بين شخصية المؤلف
وشخصية الراوي» في السيرة الذاتية، ويعرج على إحسان عباس الذي يرى فيها رابطة تقرب
بين الكاتب وقلوب الناس، يطالعنا برأيه في السيرة بأنها «اعتراف» لكنه يعترض عليه
بقوله: «الاعتراف ممنوع حتى إشعار آخر» وذلك لاعتبارات المجتمع، والتصريح بذلك
شفاهة، أو كتابة «يقتضي من صاحب السيرة ذلك الفعل الجريء، ولحظات من التردد والارتباك
والحيرة» فالسيرة عند بشير خلف هي إمكانية من الإمكانيات التشاركية، التي يتعرض
لها الكاتب خلال مشواره الإبداعي ليقول ذاته مقتربا منها، ومن ثمة الاقتراب من
الناس، ولعل الهاجس الذي يركب كاتب السيرة الذاتية عند تداول الفكرة بينه وبين
ذاته تجعل المجتمع، مسبقا، عنصرا من عناصر الرقابة على الكتابة، ومن هنا تأخذ
طابعها الاعترافي العميق، ويقع الكاتب متربصا بأفكاره التي تحمل آثار خطاه على أرض
الواقع والحياة، وحينما يتحرر من رقابته الذاتية الشديدة تنفرج تلك الكتابة
السيرية الجامحة التي تضع الذات أمام مرآة ذاتها، تماما كما عبرت الواقع وقاربت
بؤر الدنيوة ببشرية ضعيفة متعاركة مع ذاتها والواقع، وتلك السيرة، مرفوضة مجتمعيا
وفق رؤية بشير خلف، ربما لم نصادف مثلها سوى عند محمد شكري في «الخبز الحافي».
ولد بشير خلف في مدينة قمار عام 1941 يصفها: «تلك المدينة التاريخية
والعاصمة الدينية.. مُنحت انبساط الأرض وسهولتها، وقرب الماء من السطح. هذه
المدينة تحمل مواصفات المدن العربية، لها أبواب». المكان بالنسبة للمبدع ليس فقط
بؤرة الميلاد، إنه أيضا الذاكرة التي يتباهى بها أمام بلاغة اللغة ذاتها، وأمام
الآخرين، إنها المرآة التي يحملها معه لترى الأشياء ذاتها على صفحتها. يصبح المكان
معيارا بما شكّله مخيال الكاتب له، ولهذا لا يكتفي بمجرد تحديد جغرافية المدينة،
بل يمد شرايينها في جغرافية الامتداد القومي، ترابا وبشرا، حيث يأتي على ذكر
العديد من مفكريها وعلمائها، ومنهم المؤرخ الجزائري أبو القاسم سعد الله،
والتيجاني بوجلخة عالم الرياضيات، ثم ينتهي إلى ذكر ابنيها شيخ القراء في المدينة
المنورة إبراهيم بن القيم المقيم في السعودية، والشيخ بشير الباري مفتي دمشق وخطيب
الجامع الأموي الذي توفي في السنوات الأخيرة.
يبحث المبدع عن معالم مستقرة في وعيه كعلامات دالة قابلة للتشارك مع الآخر،
ممعنا في تكريسها كجرس صغير على رقبة حمل وديع ليكون قرع الجرس الخفيف منبها يحول
النظر إلى المدينة التي أنتجت مبدعا يناور على حدود اللغة، ولهذا يحاول المبدع أن
يجد تلك التماسات، التي تجعل المكان الميلاد مستمرا في وعي جغرافي ممتد، ولأجل
استمرار جرس المكان المفتوح، ينتقل إلى المكان المغلق (البيت) ليركز بدايةً على
علامة مميزة في الميلاد، «في هذا المنزل، نزلْتُ إلى العالم… وسمعتَني أملأ الغرفة
الضيقة بكاء وصراخا».
يضع المبدع وعيه على رمزيات معينة، يحمّلها شيفرات تختزن رغبة الذات في
الاستمرار والكينونة المعلنة، الأكيد أن الغرفة الضيقة والصراخ، لم يعايشهما، لكن
اللغة تعتبر بالنسبة للكاتب ورشة لتصنيع المدى الذي يرنو إليه، فالضيق صنع اتساع
المركز، وامتداد الاسم، أما الصراخ فهو جرس مادي للانتباه إلى الكينونة المستقبلية،
وهو ما يحيلنا إلى أن الكتابة السير ذاتية، قد تُكتب في لاوعي صاحبها بوعي لحظته
التي يكتبها فيها أحيانا.
اندمج في سلك التعليم بعد
الاستقلال وترقى فيه، ومما يذكره أن بدايات الرحلة مع الحرف كانت في السجن، إذ كان
نزوله فيه مع ثلة من مثقفي جمعية العلماء، واستطاع السجناء أن يفتكوا من المستدمر
الحق في التعليم باللغتين الفرنسية والعربية، فتعلم من أساتذته قراءة الكتب، ومن
هناك كانت البداية.
يربط بشير خلف الكاتب والقاص بين وفاة والده عام 1956 وخروجه للعمل، وهو ما
يحمل إشارة الانفكاك إبداعيا من سلطة ما، لأن العلامات التي يقدمها المبدع في
سيرته الذاتية ليست ترفا معلوماتيا يقف عنده القارئ للترفيه، وإنما هي رمزيات تحيل
إلى تأويل دلالاتها، كونها تفيد في تفكيك شيفرات الكتابة السيرذاتية، فالخروج إلى
العمل إثر وفاة الوالد، والتأكيد على «أم في ريعان شبابها تفرغت لتربيتنا ولم
تُعِد الزواج» يحمل في طبقاته المضمرة الخروج إلى الإبداع، من رحم البيئة الأسرية
التي تواجه ضراوة المستعمر بتحدي الاستمرار في ثبات الهوية النضالية، فالأم ليست
سوى صورة للوطن الذي تبنى قضيته منذ هبوطه إلى مساق الحياة، «اشتغلت في ورشات
البناء المحلية» «أتجه نحو ضواحي البلدة البعيدة بحثا عن الحشائش، فأقتلعها وأعود
بها على ظهري أبيعها» «كنت يوم الجمعة أساعد أحد باعة هذه الخضر» هذا الانتقال بين
هذه الأشغال، يحيل إلى العلاقة بين العمل كضرورة تحررية وغياب الأب، الذي ساهم في
اكتشاف الهوية النضالية في مجال الحياة، وبالتالي يصبح هناك فرق شاسع بين التخلص
من الأب أوديبيا، والانطلاق من غياب الأب، فالهامشين جد متمايزين نضاليا، فحالة
بشير خلف تؤكد التوجه نحو الحرية في أمدائها الفسيحة، انطلاقا من الشعور الإيجابي
بغياب الأب كسلطة حامية، ومن هنا يبدو ذكره للأم التي لم تُعِدْ الزواج لأجل أن
يجعل مركز التحول والنضالية هو استمرار العلاقات المتداولة بين سلطة الأب ووجدانية
الأم، ودورهما في التكامل، ودافعيته على الاستمرار، وهو ما سوف يعلن عنه بما يؤكد
تأويلات غياب الأب ونضالية الأم في سبيل إذكاء روح التحرر، فعلى المستوى
الاقتصادي/العملي يذكر: «في بداية 1960 وجدت نفسي في قلب مدينة عنابة، في حيها
الشعبي محضن الثورة الجزائرية، أملك متجرا صغيرا».
من غير الممكن أن تكون هذه الجملة تعبيرا ترفيا المراد منه فقط إخبار
القارئ بسيرورة حياة، لأن المفصل الدال في عمق القضية الاقتصادية (شراء محل)، هو
ورود الحي باعتباره دالا ثوريا، ومن ثمة كان الحصول على متجر خاص، تعبيرا عن
التحرر من قيد التبعية للغير في المعاش، ما سوف يقود حتما إلى تنامي الروح
الثورية، وهو ما يستنتجه الكاتب، من خلال حركة دورة المحل الاقتصادية، إذ يؤكد
ابتداء على التنوع البشري في الساحة التي يوجد فيها المحل، ثم رواج السلعة، ثم بعد
ذلك إتقان أداة التواصل (الفرنسية)، «ما سمح لي في التواصل أكثر مع العساكر، لتبدأ
مغامرتي الثورية معهم» والمغامرة مصطلح ثوري عميق في الدلالة السياسية الوطنية،
التي تحمل عنصر العناد والاستعصاء عن الترويض، إذا تعلق الأمر بضرورة الخلاص من
المستدمر، فسلطة الأب استمرت في الروح النضالية التي تحولت من الاقتصادي الأداتي
إلى الثوري الجوهري.
«السؤال الذي انتصب أمامي كالجبل أيامها: كيف الخروج من الجيش؟». في مسار
الإبداعية الجزائرية لابد أن نذكر ياسمينة خضرا، الذي كان ضابطا في الجيش الوطني،
ثم صار روائيا عالميا، ومنه يتردد سؤال الانضباط العسكري والتحرر الذي يتطلبه سقف
الإبداع، فرغم نبل المهمة العسكرية وامتيازاتها، وهو ما يذكره، إلا أن بشير خلف
اختار «رسالة الرسل والأنبياء» كما أطلق عليها، وناضل أيضا في سبيل الانفكاك من
سلطة المؤسسة العسكرية، ليلتحق بواجب آخر على مستوى مختلف.
اندمج في سلك التعليم بعد الاستقلال وترقى فيه، ومما يذكره أن بدايات
الرحلة مع الحرف كانت في السجن، إذ كان نزوله فيه مع ثلة من مثقفي جمعية العلماء،
واستطاع السجناء أن يفتكوا من المستدمر الحق في التعليم باللغتين الفرنسية
والعربية، فتعلم من أساتذته قراءة الكتب، ومن هناك كانت البداية. تتماوج الحظوة
الإبداعية داخل الذهن، فتحيل الواقع متخيلا جماليا يتنافس على حلبة الحياة مع غيره
من المجالات، وعادة ما تكون له الريادة، لأن الواقع لا يمكن أن يكرس سطوته إلى
الأبد على من تفتقت قناديل الإبداع في توترات عقله، وأديبنا بشير خلف يذكر أنه في
بداية مساره المهني التعليمي، نهره أحد المستشارين ومنعه من التدخل بحجة أنه مازال
متمرنا، ورغم غضبه منه، إلا أنه كظم ذلك إلى حين، لكن كما يقول: «قد خدمني على
الرغم من ذلك، دون أن يشعر، فقررت أن أكون معلما مساعدا» ولم يُظهر له عدم رضاه،
بالعكس استفاد من كتابه «طرق التدريس في التعليم الابتدائي» ولهذا فالإبداع محاورة
بين ذات ومرآتها، صورة للذات في واقع لا يميز بين الصورة والحقيقة إلا من حيث
إنهما توافق، والمبدع يراهما اختلافا، ومنه تنبثق روح الإبداع المشاغبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق