الجمعة، 16 أبريل 2021

  حديث القُبّرة..

 سيرة ذاتية الإكراهات، والُـمحْبطات.. فالمكلّلة بالنجاحات

بقلم: بشير خلف

      أتممتُ توًّا قراءتي الماتعة للسيرة الذاتية للكاتب الصديق، السّارد الكبير، والشاعر سعدي صباح، الموسومة بــــــ "حديث القُبّرة" التي صدرت أواخر السنة الماضية 2020 عن دار خيال في 213 صفحة من الحجم المتوسط. نصٌّ سيراتي جذّابٌ، ساحرٌ، لم أشعر في جلستي الأولى وقد قرأت 105 صفحات، وفي الجلسة الثانية 63 صفحة، وفي الثالثة بقية الصفحات 45 صفحة.

      سيرة مليئة في بداياتها بالإكراهات البيئية، البدوية، والمطبّات الاجتماعية في وضْع تاريخي استعماري مظلم على كل مناطق الجزائر بما فيها منطقة الكاتب الذي برغم ذاك كان في حضْن أسرة كريمة، أصيلة وجد فيها الحضن الدافئ، والحنان الكافي، وشمائل البادية، وقيمها النقيّة الأصيلة. الكاتب صباح من خلال قراءة سيرته استخلصتُ أنه من منبت أصيل نقيٍّ، مـمّا ساعده أن يكون من ذوي العزم، والتصميم في الانتصار على الإكراهات، وتجاوز المطبّات بحنكة ذاتية، والاستفادة من الغير سواء في مرحلة التنشئة، أو في مرحلة الدراسة بالكتاتيب، ثم في مراحل الدراسة النظامية بعد الاستقلال، ونفس العزيمة في تجاوزها أثناء مرحلة التدريس بالتعاون، والعشرة الطيبة، ومساعدة الكل، والعفو عن الجميع أصدقاء، وأعداء، وتحاشي تصفية الحسابات التي يلجأ إليها ضعاف النفوس، ويسمو عنها الكرام.

       سيرة طافحة؛ بل باذخة بالرومانسيات ــــــ لا الحميميات ــــ في الكثير من المحطات المُغْرية التي نجا منها ليخلص إلى واحدة أنجبت له البنين، والبنات، وقد حباه الله بهم، وبهنّ، حيث نجّاه الله من إغواء الكثيرات لنقاء سريرته الأصيلة، وتشبّعه منذ الصغر بقوّة الإيمان، ونقاء روح البداوة.        

       يرى البعض من النّقّاد، وكذا المهتمّين بأدب السيرة الذّاتية من اللأفضل ألاّ يُقْدِم الكاتب الأديب، المبدع على كتابة سيرته، إلّا إذا رأى في حياته عدّة أحداث فارقة تستحقّ الوقوف عندها، بينما البعض الآخر يُــقرّ حتى وإنْ توفّرت الأحداث لا ضرورة أن يكتب كل كاتب سيرته الذاتية، حيث جميع الأعمال الأدبية التي قدّمها، ويقدمها هي جزء من سيرته الذاتية، سواء كانت قصيدة، أو رواية، أو قصة، أو لوحة.. ما يهمّ أن يُــــتقن تقديم نفسه أمام المتلقّي، بمواضيع إنسانية راقية، ذات حمولة قيمية جليلة، بلغة جيدة، وأسلوب جذّاب، سلسٍ، ومصداقية عالية في الطّرْحِ.. آراء في تقديري تعجيزية للقارئ العادي إنْ أخذ بهذا الرأي كي يعرف حياة وسيرة الكاتب عليه أن يبحث عن كل كتاباته، وإبداعاته، ويقرأها، ويستخلص منها السيرذاتية.

         إنْ جارينا هذه الآراء فأديبنا سعدي صباح، ربّما ليس من حقّه كتابة سيرته التي بين أيدينا، وليس من حقّنا قُرّاءً أن نتمتع بهذه السيرة المبهرة، الغنية بتحرّك " القبّرة" العصفورة، الجميلة الكثيرة الحركة التي لا تهدأ، وتستقرّ إلّا وهي بين هذه الباحات الخضراء مع الحيوانات، والطيور، ومُـمارسة الصيد؛ أو في هذه البلدة، أو تلك المدينة، وقد يكون الرحيل أسبوعيا إلى المغرب، ثم في المرحلة الثانية بعد التقاعد إلى هذا الملتقى، أو ذاك، أو المشاركة في هذه المسابقة أو تلك.

           خصّص الكاتب بالكاد 60 صفحة لأهمّ مرحلة في حياته التي موْقعَـــتْه فكريا، وأدبيا، أكثر من موقعه مربيًا، ومعلمًا.. موْقعَتْه لا أقول فحسب إلى جانب الكبار في السّرد القصصي بالجزائر، والعالم العربي، والشعر الشعبي، فكان من مثقفي الجزائر، وكُتابها، ومبدعيها، والمنافحين عن هويتها، وخاصة اللغة العربية عمليا في جميع محطّات حياته؛ مسيرة طويلة بدايتها قلم القصب، والسّمق، والدّواة في الكُتاب، فحصولًا على " القلم الذهبي الإسباني"، وصولًا وتـموقعًا، واستمرارية في فضاءات: صالون يازيد عقيل، بيت الشعر، اتحاد الكُتّاب، وغيرها من الفضاءات، استهلالًا مباركا بأوّل خاطرة أدبية تنشر له في جريدة الجمهورية، نصوص أخرى: اليوم، العالم السياسي، الموعد، صوت الأحرار، ليتوالى حضور الملتقيات؛ مسيرة ثرية لتتوج بالعديد من الإصدارات، والمجاميع القصصية: عرسٌ في الزنزانة، سرّ البيت المفتوح، عرس الشيطان، ثم حديث القبرة ..هذه السيرة الثرية، الباذخة.

       نصٌّ سيراتي ساحرٌ، جاذبٌ للمتلقّي، ما ينفكّ يغوص في زواياه، وتمفصلاته، يتماهى فيه مع الكاتب، يُماشيه في مراحله، خاصّة منْ جايَـــلَه، وعايش نفس الأوضاع: بادية، صحراء، نزوحًا إلى المدينة. نصٌّ سرديٌّ بامتياز اتّكأ على سلامة اللغة، وحُسْن توظيفها، في مواقعها. غواية السّرد في نصّ " حديث القُبّرة" تُلْقي بالقارئ بحبائلها الماتعة، إذْ يتيه في سحْرها أهو يقْرأ رواية، أم سيرة، أم الاثنتيْن.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...