الجمعة، 26 يوليو 2013

ما أشدّ معاناة المبدع ! !

ما أشدّ معاناة المبدع ! !
بشير خلف
      إن الكثير منا يغفل،  أو ينسى وهو في غمرة نشوته بقراءة عمل أدبي ما ، أو التمتع بعمل إبداعي ما، أن وراء هذه النشوة وذلكم التمتع ، تقف شخصيةٌ أدبيةٌ ونفسٌ تبدع قد تكون سعيدة، وقد تكون تحترق ألما وتتضور معاناة، وتتمزق عذابا في سبيل هذا العمل الفني الجميل الذي نسعد به ، ونتلذذ بقراءته.
     ولئن كان الطريق إلى المجد محفوفا بالأشواك وتعترضه الأهوال والمخاطر، فإن المجد نفسه إلا جحيما يضع المبدع في أتون هذا الجحيم . ومن أصدق الذين عبروا عن هذا النوع من المبدعين الفنان الأديب الراحل جبران خليل جبران بقوله :« لــم  أدر ما يحْـسبه الناس مجدا – واحرّ قلباه – جحيما.. من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من الذهب ؟ من يأخذ قبضة من جواهر لبرهة من حبّ ؟ من يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزانتي ؟ »
     ولعل أحد الفلاسفة الألمان يلتقي مع جبران في ذلك لمّا يقول : « الحياة قــصص ، أجملها ما يكتب بالدماء ».
        لكن هل يعرف الناس درجة هذه المعاناة وقيمة الدموع المنسابة .. سيّما في مجتمعنا العربي وبطبيعة الحال فالجواب بالنفي . ومن هنا فالمبدع في هذه البلاد على امتداد رقعتها الشاسعة كثيرا ما يقضي نحبه ضحية الجوع البيولوجي، أو يختفي رويدا تحت شراسة معول الفاقة والاحتياج ، أو الإهمال المجتمعي ، وتقدير الوهبة واحتضانها،  مودعا الدنيا غير مأسوف عليه .
      القليل من هؤلاء المبدعين قد يُــرفع شأنهم ، وتمدح مآثرهم وتُحي ذكراهم فيما بعد أو يُكرّمون بعد رحيلهم عن هذه الدنيا كما هو الحال في بلادنا .. والشواهد في ذلك كثيرة .. وقد تطرق إلى هذه المأساة قبل عشرات السنين الفيلسوف الفرنسي الشهير " فولتير " حينما صرخ بحرقة وألم يستنهض ضمائر المجتمعات حتى تلتفت لعباقرتها ، ومفكريها ، وتثمّن مكانتهم  في حياتهم قبل مماتهم :
     « كلمة  واحدة رقيقة أسمعها وأنا حي ، خيرٌ عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى ، حينما أكون قد مــتّ ، ودُفنت ».

           هذا من الجانب التقديري والمعنوي، أما إذا تعدّى الأمر إلى الجانب المادي فالمأساة تكون أشدَّ وقعا على نفسية الفنان المبدع . وتبعا لذلك فقضية موارد رزق الأدباء والفنانين والمفكرين مطروحةٌ اليوم مثلما كانت مطروحة في الماضي البعيد أو القريب، وتأكيدا هي باقيةٌ دوما في الكثير من البلدان المتخلفة التي تضع المعرفة وأهلها في آخر اهتماماتها .
       إن عدد المفكرين والمبدعين الذين يعيشون من مردود التأليف الأدبي والفكري في العالم المتقدم ليس بالكثير، وحتى هؤلاء إبداعاتهم لا تحتضنها دور النشر الكبرى إلا إذا تيقنت  أنها ستٌدرّ عليها أرباحا طائلة .وفي كل الحالات فإن المبدع أو الكاتب ما يتقاضاه قليلٌ بالمقارنة مع ما يبقى لدُور النشر.
     في بلادنا مثلما هو الأمر بالبلاد العربية يتقاضى الكاتب، أو المبدع نسبة 10 % من ثمن الإصدار وهي نسبة مضحكة حقًّا .

 ولا أنسى صديقي الشاب الذي شعر بالسعادة قبل سنة تغمره، وقد قُــبلت مجموعته الشعرية الأولى من قبل صندوق دعْم الكتاب بوزارة الثقافة زارني منذ أيام كي يهديني نسخة من النسخ العشرين التي أُهديت إليه..
       كان حزينًا جدّا ، مكسور الخاطر ، فاتر الحماس على غير عادته كما عهدته، وكأنه فهم ما يدور بخلدي بادر إلى القول :
ــ  تصوّرْ يا صديقي أن صاحب المطبعة الذي تعاقدت معه وزارة الثقافة يأخذ نسبة 80 %  من ثمن المجموعة ، ويسلمني نسبة 10 %  أي خمسة عشر ألف دينار، هنّأني بحرارة والسعادة تغمره وهو يركّز ناظريْه على العناوين الأخرى، وكأنه يتباهى بحظّه في الاستحواذ على مجموعة إصدارات لوحده .
      ثمّ شدّ على يدي وهو يودّعني :
ــ احْــمد الله يا بني لقد منّ الله عليك .. يكفيك فخرًا أن صار اسمك مسجّلاً ضمْن مبدعي وكُتّاب البلد. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملاحظة: للمشاركة أو التعليق ، اضغط على رابط " ليست هناك تعليقات ، تعليق  واحد ، تعليقان ، ...واكتب داخل المستطيل. 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...