من أمْتعِ ما قرأْتُ، واستفدْتُ
الشعر ذلك الإيقاع الكوني
في فطرة الإنسان..
رأي وموقف.
كتبه حبيب مونسي.
سألني أحد المهتمين بالشعر عن موقفي من الشّعر الحديث، وعن التّحرر من الوزن والقافية، وعمّا يسمونه بالقصيدة الحرّة.. فقلت له بعد جدال قصير أنّني أرفضه جملة وتفصيلا، ولا أعده أبد الدّهر شعرا، بل أحسبه كتابة إبداعية وإضافة نوعية لها جمالياتها الخاصة التي تنتظر من المنظرين والنقاد الجادّين أن يخطوا لها خصائصها ويحدّوا لها حدودها.. إنّنا نختلف في تحديد معنى الشّعر، ونختلف في طبيعته، ونختلف في الشّاعر الذي يبدعه.. فكيف تريد أن نتّفق حول أمور هي من الشّعر بمثابة الغريزة من الحيوان، والتي لا يلتفت إليها الشّعراء لحظة الإبداع، لأنّها إيقاعات في أنفسهم قبل أن تكون إيقاعات في الكلمات وزنا وقافيةً، فذلك لا يعدو أن يكون تجليا لها في نهاية المطاف.. فمن لم يدرك ذلك لا يمكنه أن يعي معنى الميزان لأنّه يراه آلة وحسب، مهمته وزن الأثقال، والحركات، ولا معنى للقافية، لأنّه يراها فقلا تنتهي عنده الحركات.. هذا وعي ساذج ناقص يُسيء إلى الشعر إساءة بالغة. فالوزن في ذات الشاعر غريزةٌ متأصلةٌ، رضعها مع إيقاعات الحياة من حوله، وحركة داخليةٌ مستمرةُ الإيقاع يحملها في ذاته كلّ حين. فلا يفارقها إلا وهو جثّة هامدة.. لأنّها نبضُ قلبه، ودفقُ أحاسيسه، ومجرى مشاعره.. تتعالى فيثور ويغضب، وتنبسط فيهدأ ويطمئن، وتنساب فيرضى ويطرب. فمن رآها غير ذلك، لم يعرف من شعر العرب شيئا، ولا ذاق من جناه رطبا ولا شهدا. لم يكن فيهم في جاهليتهم وبعد إسلامهم من يعرف شيئا يسمى العروض، حتى فسدت الأذواق، واضطر المتشاعرون مراجعَة أشعارهم وفق ميزان أُخرج لهم من فطرة العرب وإيقاعاتهم إخراجا، ووضع بين أيديهم ليهديهم إلى ذات التّناسق في ذواتهم، وقد اختل اختلالا.. حتى أنّهم سموا من يعتمد هذه الرّياضة اللغوية ناظما، وأبعدوه عن ساحة الشعر حتى لا يلوث فطرتها، أو يُحدث فيها من العورات ما يُحدثه المجرِّبون والمتساهلون، ثم يسمونه ضرورات شعرية، تورية لسوءات أفعالهم..
إن الذين وقفوا عند عتبة الشعر
الحر، وقالوا عنه أنّه موزون لاعتماده التفعيلة. غير أنّنا نعلم أن ليس هناك من
قانون يضبط نوعها وعددها في الأسطر الشّعرية، وأن نازك الملائكة مثلا حددتها بسبع،
وأن أقصرها سبب أو وتد.. وهذا الانفلات لا يصنع فنّا محترما أبدا، ولا يحدّد خصائص
شعرٍ جديد مهما سلمنا بالفكرة، وسمحنا للشعراء بإجرائها فيما يكتبون. لأنّهم في
كلّ الأحوال سيستسلمون للنّثرية شاءوا أم أبوا. والذي لا يلتفت إليه المشتغلون
بالوزن العربي هو ما استخرجه الخليل بن أحمد الفراهيدي رحمه الله، حينما حدد
الدّوائر التي عرفت بالدوائر العروضية.. وأثبت فيها الدّارسون من بعده حدود البحور
المستعملة التي جرى فيها شعر العرب أنهارا متدفّقة على امتداد قرون متعاقبة. غير
أنّنا حينما ندقّق في الدّائرة الواحدة التي نجدها تتوزع على أسباب وأوتاد، لا على
تفعيلات، لأنّ الأسباب والأوتاد هي التي تصنع التّفعيلة. فهي المادة الإيقاعية
الأولى، ومنها ينطلق الإيقاع الشعري. فهي أشبه شيء بمفتاح الخزانات المصفحة ذات
الأرقام من 0 إلى 9.. ومنها يستطيع صاحب الخزانة أن يغلقها بالرقم الذي يشاء.
فهناك آلاف من الأرقام هاجعة بين هاذين الرقمين. كذلك الأمر بالنسبة للسّبب والوتد
في الدائرة العروضية. فإذا انتقلت من وتد إلى سبب، تشكّل على الدّائرة بحر من
البحور مستعملا كان أم مهجورا.. وإذا انتقلت من سبب إلى وتد حدث الأمر عينه، ونشأ
بين يديك بحر مختلف..
هذه الإمكانية العجيبة هي التي
مكنت للإيقاع العربي أن يتمدّد، وأن يتعدّد إلى أشكال لا يحصيها عاد، ولا يمكن
للتجارب الشّعرية عبر العصور أن تستغرقها كلّها أبدا.. فقد كان أمام المجدّدين -
إن سلمت نياتهم - أن يواصلوا التّجريب في هذه الدوائر الإيقاعية الكونية. ولكنّهم
انعطفوا إلى الهدم.. فقد أُريد لهم أن يُهملوا الإيقاع العربي، وأن يزيلوا بناء
شامخا يحفظ اللغة ومعجمها وذاكرتها، وأن يُحدثوا فيها ما يُحدثه الزّمن في
الكتابات من محو وحتّ.. هذه الدّائرة الإيقاعية التي تسكن كلّ عربي وتتمركز في
توازنه الفطري هي التي تعطيه هذه القدرة على الطرب أمام جمال التّكوين العربي لغة،
وأمام جمال الإنشاء العربي حكمة..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق