الجمعة، 13 نوفمبر 2020

رسائل نزار قباني إلى أمه

 رسائل نزار قباني إلى أمه  

      غادة أحمد السمان ابنة أحياء دمشق العريقة هي الكاتبة والروائية السورية المشهورة عربيًا وعالميًا. ولدت في الشام ونشأت فيها وبالرغم من أنها اغتربت عنها إلا أنَّ رواياتها وأشعارها مملوءة بعبق الياسمين والريحان الدمشقي.

     كتبت منذ أيام في صحيفة الشرق الأوسط أن المرحوم الأديب الشاعر نزار قباني في سنة 1965م، أرسل لها قصيدة لي نزار قباني من مدريد لنشرها في مجلة (الأسبوع العربي) حينما كانت كاتبة عمود في تلك المجلة. القصيدة أرسلها نزار إلى أمه؛ تقول غادة السمّان:

« ولا أعتقد أن هذه الرسائل من نزار إلى أمه منشورة في أي من كتبه، ولعلها كانت ستضيع لو لم أحتفظ بها طوال أربعة عقود ونصف، فأنا عاجزة عن تمزيق الكلمات المبدعة مهما أضحت حقائبي ثقيلة في ترحالي من دمشق إلى بيروت إلى لندن فروما وجنيف فباريس وسواها. وحين شبّت الحرب الأهلية اللبنانية هربت بالكثير من أوراقي، فقد كان بيتي يقع في ساحة الحرب، وكنت أنتهز فترات الهدنة لأهرب بها إلى بيوت الأصدقاء الآمنة في أحياء بعيدة عن «خطوط التماس»!

       أعرف جيداً والدة نزار العمة فايزة التي كتب لها هذه الرسائل القصائد، ولعلها أميّة كصديقتها جدتي، وبالتالي لم تقرأها، لكنها لها!

 


1 ــ وأبدأ برسالته الأولى إلى أمه، وفيها يقول:

صباح الخير يا حلوة

صباح الخير يا قديستي الحلوة

مضى عامان يا أمي

على الولد الذي أبحر

برحلته الخرافية

وخبأ في حقائبه

صباح بلاده الأخضر

وأنجمها.. وأنهرها.. وكل شقيقها الأحمر

وخبأ في ملابسه

طرابيناً من النعناع والزعتر

وليلكة دمشقية..

 

2 ــ الرسالة الثانية إلى أمه:

أنا وحدي

دخان سجائري يضجر

ومني مقعدي يضجر

وأحزاني عصافير

تفتش ـ بعد ـ عن بيدر

عرفت نساء أوروبّا

عرفت عواطف الإسمنت والخشب

عرفت حضارة التعب

وطفت الهند، طفت السند،

طفت العالم الأصفر

ولم أعثر على امرأة

تمشط شعري الأشقر

وتحمل في حقيبتها

إليّ «عرائس السكر»

وتكسوني إذا أعرى

وتنشلني إذا أعثر

أيا أمي.. أيا أمي

أنا الولد الذي أبحر

وما زالت بخاطره تعيش (عروسة السكر)

فكيف.. فيكف يا أمي

غدوت أباً.. ولم أكبر..

 

3 ـ في رسالته الثالثة من مدريد إلى والدته، يكتب في رسالة تشي بوحشته:

صباح الخير من مدريد، ما أخبارها الفلة؟

بها أوصيك يا أماه، تلك الطفلة الطفلة

فقد كانت أحب حبيبة لأبي

يدللها كطفلته..

ويدعوها إلى فنجان قهوته..

ويسقيها..

ويطعمها..

ويغمرها برحمته..

ومات أبي

وما زالت تعيش بحلم عودته

وتبحث في أرجاء غرفته

وتسأل عن عباءته

وتسأل عن جريدته

وتسأل ـ حين يأتي الصيف ـ عن فيروز عينيه

لتنشر فوق كفيه

دنانيراً من الذهب..

 

4 ـــــ من البيت الدمشقي القديم إلى «ساحة النجمة»

      كنا جيراناً في الشام القديمة، وتصادف أن انتقلت أسرتنا من أحياء دمشق القديمة قرب الجامع الأموي إلى دمشق (العصرية)، وعدنا جيراناً في «ساحة النجمة».

وها هو نزار يذكر «ساحة النجمة» في رسالته الرابعة الرائعة إلى أمه، وجاء فيها:

سلامات.. سلامات

إلى بيت سقانا الحب والرحمة

إلى أزهارك البيضاء.. فرحة (ساحة النجمة)

إلى تختي، إلى كتبي، إلى أطفال حارتنا

وحيطان ملأناها بفوضى من كتابتنا

إلى قطط كسولات تنام على مشارقنا

وليلكة معرشة على شباك جارتنا..

مضى عامان يا أمي

ووجه دمشق عصفور يخربش في جوانحنا

يعض على ستائرنا

وينقرنا ـ برفق من أصابعنا

مضى عامان يا أمي..

وليل دمشق

فل دمشق

دور دمشق

تسكن في خواطرنا

كأن مآذن الأموي قد زرعت بداخلنا

كأن مشاتل التفاح تعبق في ضمائرنا

كأن الضوء والأحجار

جاءت كلها معنا..

 

       نعم، ثمة رسالة خامسة لا يتسع المجال لنشرها اليوم، بل في الأيام المقبلة ( هكذا تقول غادة). وهي تسيل حنيناً إلى دمشق كما حال كل (شامي).

      ــ غادر تلك المدينة المسحورة ولم يعد إلا إلى المقبرة، كما حدث لنزار.

      ــ طفلٌ في أعماق كل كاتب مبدع..

            ( ما أجمل الوفاء.. ما أجمله، وأمتعه حينما يكون بين مبدعي الجمال والفنّ، وإمْتاع الملايين بهما).

ـــــــــــــــــــــــــــــ

غادة السمان. صحيفة القدس العربي 06 نوفمبر 2020

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...