الأربعاء، 23 يناير 2013


العمارة جزء من التاريخ والهوية

          بلغت شهرة القصبة الآفاق، كونها قطعة من فسيفساء العمارة الإسلامية وحاضنة تراث ثقافي عريق لا يزال يثير الباحثين، وفي هذا السياق فتح المهندس البروفيسور بلفعة عموري أبواب القصبة لاستكشاف البعض من معالمها.
استضاف مركز الفنون والثقافة  بحصن 23 أمسية أول أمس، المهندس البروفيسور بلفعة عموري، الذي خصص محاضرته لأهم صرح في مدينة الجزائر وهو القصبة، وذلك بمبادرة من محبي القصبة (وآثار الجزائر عموما)، كيف لا والقصبة مثال لعلاقة الإنسان بالعمران، فغالبا ما ينجز الإنسان بناءه ليضع فيه بصمته ورؤيته وخصوصيته الاجتماعية والحضارية، وهذا ما كان قد أكده العلامة ابن خلدون في علم العمران البشري، والقصبة مدهشة في بنائها وجميلة في منظرها وموقعها.

           في كلمته الترحيبية، أشار الأستاذ عزيوز التواتي (وهو من عشاق القصبة وأحد المناضلين من أجل استعادة مكانتها)، إلى أهمية هذا التراث الوطني الذي يمثل هوية الجزائر،ليس فقط بالمعمار، بل أيضا بالثقافة والتراث. واستعرض المتحدث أهمية القصبة عبر العصور وكيف أن أشهر العلماء والرحالة حتى من خارج العالم الإسلامي (أوروبا) كتبوا عنها، مؤكدين أنها من روائع الزمان وقطعة من الجنة، علما أن الكثير مما كتب وثّقه الراحل مصطفى لشرف في كتبه.
         وحضر الجلسة الشاعر الشاب ياسين بوشارب، الذي عبر عن ولعه بالقصبة شعرا ليقرأ “دار العز” التي يقول مطلعها:
”دارنا يا دار العز والفراح
لامّة أحباب وناس ملاح”
وقرأ أيضا “ما تحقق حلمي ما بان” وجاء فيها:
”حبيت نجدد الحطان تولي كيف زمان
رشات حيوطها الأيام”
         استهل البروفيسور بلفعة محاضرته التي جلبت إليها جمهورا غفيرا لم تتسع له القاعة، وبهدوء لا مثيل له  مزج التاريخ والتراث والعمارة، وقسم محاضرته الى قسمين الأول تناول فيه “البيت ذي الفناء” من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب الإسلامي وجعل القسم الثاني من المحاضرة مثالا لدويرة القصبة.

        استعرض المحاضر بداية بعض أفكار العالم الفيلسوف الألماني، مارتن هيدغر، متوقفا عند كتابه “بناء، سكن فكر”، مع الاشارة إلى أن كلمة “بون” بالألمانية تعني البناء، كما أن البناء يعني السكن والسكن يعني الإيمان، أي مجموعة من المعتقدات  أو الاديان أو غيرها، ويقابلها عند المسلمين الآية الكريمة “أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم”، والآية تحمل قيما علمية هندسية وتحمل قميا وعبرا دينية وأخلاقية.
السكن في اللغة - حسب المحاضر - له حضوره القوي سواء في العربية أو غيرها، علما أن الكلمات بدأت تفقد معانيها مع الزمن ولم تعد تحمل ذات الدلالات، فمثلا السكن كان يحمل معنى الزواج والمبيت والضيافة، أما اليوم فهو الإيواء فقط.
         تحدث المحاضر عن أول بيت وهو الكعبة المشرفة، إذ يقول الله عنها “إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة”، والكعبة تحمل عدة معان في لسان العرب فهي المربع والعلو والحرم. واستحضر البروفيسور بولفعة مخطوطا بعنوان “الإعلام وأعلام بيت الله الحرام” الذي كتب في القرن 15 م ويتحدث عن الكعبة وهو موجود الآن بالمكتبة الوطنية.
         الكعبة في البداية كانت من غير سقف وأرجع المحاضر ذلك الى كون الاتجاه من أسفل الى أعلى مقدس (مقام العبودية) يربط العبد الساجد بالله، وهذا الاتجاه لا يدخل منه الشيطان عكس اليمن أو اليسار أو الأمام أو الخلف. والبيت في اللغة يعني اللصق دلالة على العمران.
         غاص المحاضر في الموروث الإسلامي متوقفا عند بعض أعلامه كمحي الدين بن عربي وكيف أسقطت مآثره على العمارة الإسلامية (معرفة الله من خلال مخلوقاته).
        وأكد المحاضر على أن القضية امتداد لهذا التراث ابتداء من بيوتها ذات الفناءات وعماراتها التي لم تخضع يوما للصدفة، فهي راقية في تقنيات البناء واقتناء الأساليب الجمالية والفنية، ناهيك عن حضور الرخام (الزلايج)، كما تفوح من عمارة القصبة روح الصوفية وتعاليمها، وهي تظهر أيضا في قبور الأولياء والبايات، فمثلا القبر يشبه الكعبة في شكله، قاعدته بيضاء رخامية توحي بيوم الحشر.
     من يدخل الدويرة يدخل إلى التاريخ الذي سجلته جدارنها، وكيف أن هذا التاريخ والجماليات يجعلان من البيت متحركا وحيا ومفتوحا بفنائه على الغير، خاصة من الجهة العلوية (الفناء بدون سقف).
          للتذكير، المحاضر أستاذ جامعي، وقد أصدر كتابا هاما عن القصبة بعنوان”الجزائر وما حولها” (عن دار داليمان) يعتبر من أهم المراجع العلمية التي تتناول تاريخ وحاضر القصبة.




        

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...