الجمعة، 18 يناير 2013


''الحكّام خيّبوا آمال شهدائنا وخانوا بيان أول نوفمبر''

      ونحن نهمّ بدخول مكتبة المجاهد والمفكّر والأديب والفقيه والمؤرّخ، محمد الصالح الصديق، المتاخمة لمضافة ''فيلاته'' المتواضعة، الكائنة بالقبة في الجزائر العاصمة، انتابنا شعور عظيم تجاه الرجل وجلّ ما يحيط به، ربما قد يكون منتهى الاحترام، أو بالأحرى منتهى الوقار، لرجل وهب صباه وشبابه وشيبه للعلم، فأضحى من طينة الكبار.
      استقبلنا العلامة محمد الصالح الصديق ببرنوسه الأمازيغي ونعله البلاستيكي، وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة عريضة لم تغادره إلى حين مغادرتنا المكان، حيث تجاذبنا أطراف الحديث لأزيد من ساعتين، توقّفنا خلالها عند جوانب عديدة من حياة ومسار الرجل، الذي فضّل أن يستهل حديثه بتوضيح معلومة هامة، مفادها أن محمد الصالح الصديق هو الاسم الذي وقّع به مائة وستة كتب، إلى جانب آلاف المقالات والدراسات التي نُشرت له في أمّهات الصحف والمجلات، وكذا الأحاديث التي نُقلت له عبر الأثير، في حين أن اسمه الرسمي هو محمد الصالح آيت صديق.
       ولتحويل هذا الاسم (محمد الصالح آيت صديق) إلى محمد الصالح الصديق، يقول محدّثنا، طرفة نُقشت في أعماق الذاكرة، ويعود تاريخها إلى سنة 1946، ''عندما التحقت بجامع الزيتونة، وكان أول درس تلقّيته هو درس البلاغة، على يد الأستاذ أحمد الجريدي''، معقّبا: ''في بداية الدرس، أمسك الأستاذ دفتر المناداة، وراح ينادي علينا الواحد تلو الآخر، ولما وصل إلى اسمي ذكره متلعثما، ثم قال: من هذا؟ فرفعت أصبعي، وأوضحت له أن ''آيت'' باللغة الأمازيغية معناه ''بنو'' بالعربية، ومنذ ذلك اليوم وأنا أعرف بمحمد الصالح الصديق''.
كرهت والدي لقسوته وصرامته
       ينحدر مضيّفنا من قرية إبسكرين، الواقعة بضواحي دائرة عزازفة في ولاية تيزي وزو، وهي قرية اشتهرت، حسبه، بكونها أنجبت أبطالا وعلماء، منهم الشهيد ديدوش مراد الذي يفصل ما بين بيته وبيت مضيفنا طريق، وكذا الشيخ محمد السعيد بن زكري الذي تولّى الإفتاء في الجزائر سنة 1907، منوّها بأنه من مواليد 19 ديسمبر 1925، كما أنه نشأ في كنف عائلة من الأشراف المرابطين، فوالده الشيخ محمد البشير ووالدته فاطمة بنت الشيخ الشريف الإفليسي.
        حفظ محدّثنا القرآن على يد والده الذي قصد الزيتونة لطلب العلم، لكنه سرعان ما عاد أدراجه خاوي الوفاض ''فالعلم يتطلّب المال، لكن ما عسى المسكين يفعل في ظلّ عسر الحال، الأمر الذي جعله يحاول تعويض ما فاته من خلالي''، موضّحا: ''بذل والدي كل ما في وسعه، كي أكون رجلا وأنا طفل صغير. فقد حرمني من متعة اللعب، حتى حقّقت له أمنية حفظ القرآن كاملا، وأنا في سنّ الثامنة و4 أشهر''.
بالموازاة، اعترف محمد الصالح الصديق بأنه كان يكره والده لقسوته وصرامته، إلى درجة أنه كان يمنع والدته من إعلاء صوتها ''بيد أن هذه الكراهية سرعان ما تبددت. فبعد أن حفظت القرآن، ناداها وقال لها: زغردي يا فاطمة.. وهو ما لن أنساه ما حييت''.
 ابن باديس.. و''الشيخ إبليس''
       بغية مكافأة مضيفنا على حفظه القرآن، خيّره والده ما بين أن يشتري له لعبة (سيارة) وبين اصطحابه إلى الجزائر العاصمة، فاختار الثانية. وهناك، يقول: ''لمحت، رفقة والدي وخالي، الشيخ عبد الحميد بن باديس مقبلا، فتجنّبته، بعد أن اقشعر بدني لرؤيته، كيف لا وهو الذي يلقّبه بعض الغارقين في البدع والخرافات في منطقتنا بـ''الشيخ إبليس''. لكنه، بمجرّد أن مسح على رأسي وقرأ عليه آية، حتى انقشعت كل الصور التي كانت تموج في مخيّلتي، ولم تبقَ سوى صورته راسخة''.
ولأن زيارته إلى العاصمة لم تعمّر طويلا، فإن إغراءها له أيضا لم يعمّر طويلا. فقد عاد محدّثنا إلى قريته، كما عاد والده إلى قسوته وصرامته، حيث طالبه، هذه المرة، بحفظ الشعر والمتن، وهو ما زاد من كراهيته له، مبرزا: ''والدي أرهقني كثيرا، ففي غضون ثلاث سنوات، حفظت 36 متنا وآلاف الأبيات الشعرية، ما جعلني أكره كل ما له صلة بالقلم والمحبرة، إلى أن جاء الفرج بمجيء الشيخ أرزقي الشرفاوي الذي تتلمذت على يده 5 سنوات. قبل أن أنتقل إلى تونس في 1946، لإتمام الدراسة في الزيتونة''.
مصادفة طريفة
       فور تخرّجه من الزيتونة بشهادة التحصيل في 1951، رجع محمد الصالح الصديق إلى موطنه الأصلي، حيث تولّى التدريس في زاوية عبد الرحمن الأيلولي، قائلا: ''كنت، عقب صلاة المغرب من كل يوم خميس، ألقي محاضرة حول الاحتلال الفرنسي، لبعث روح الحماس لدى الشباب وحثّهم على الجهاد''. وتابع: ''كان هناك ثلاثة حُكم عليهم بالإعدام، وهم كريم بلقاسم، اعمر أوعمران وذبيح شريف، فأوصل طلبتي الخبر لأهاليهم، كما بلغ الخبر مسامع هؤلاء. وغداة اندلاع الثورة، في الفاتح نوفمبر 1954، فكّر القادة في شاب يُدعى محمد الصالح الصديق، فعيّنوني مسؤولا عن المالية والأسلحة، شريطة بقائي في الزاوية، حتى لا تتفطّن إدارة الاحتلال لأمري''.
      وبما أن الرياح، عادة، تجري بما لا تشتهي السفن، يضيف محدّثنا، وقعت وشاية دفعت بالقوات الفرنسية لتوقيفي ثلاث مرات. وفي الثالثة، قال لي القايد: ''سيقتلونك''. ولما أخبرت كريم بلقاسم، أمرني بأن أطلق اللحية وأعتكف في البيت 19 يوما. بعدها، سلّمتني قيادة الثورة بطاقة تعريف حركي يشبهني، فكانت صاحبة الفضل في نجاتي''.
وهنا، يستوقفنا مضيفنا لاستحضار مصادفة طريفة، تحمل في طيّاتها الكثير من الرمزية، ويتعلّق الأمر بالعدد 19، ''فقد سجنت في تبسة 91 يوما، وأطلقت اللحية واعتكفت في البيت 19 يوما، كما خبأتني فرنسية ببيتها في باريس 19 يوما، وهي في مجملها تتقاطع مع عدد حروف البسملة، والمتمثّل في 19 حرفا!''.
 أسير القلم والمحبرة مهوس بالكوميديا
      بينما كنا نتحدّث عن انضمام محدّثنا إلى طاقم تحرير جريدة ''المقاومة''، وكذا تعيينه مكلّفا بالإعلام بالقاعدة الثورية في ليبيا، ثم عودته إلى أرض الوطن في 1962، فإذا بعقيلته ''عبلة'' تدلف باب المكتبة، حاملة صينية بها أكواب بلورية من عصير البرتقال المنعش الذي دعتنا إلى تناوله. لتسرّ لنا بعدها، وبكلّ عفوية، بأن زوجها يعشق طبق ''الكسكسي بالعنب''، كما أنه فوضوي أثناء الكتابة، ووفيّ جدا لنشرة الثامنة، علاوة على كونه أسير القلم والمحبرة، ومهوسا بالأفلام والمسلسلات الكوميدية. وهو ما أكّده لنا مضيفنا الذي طالبها بجلب بعض حبات ''المقروط''، فردّت عليه بسخرية: ''المقروط يتماشى مع الشاي، وليس مع عصير البرتقال''.. ضحكنا جميعا، ثم أردف يقول: ''غداة الاستقلال، التحقت بوزارة الخارجية واشتغلت فيها سنة كاملة، ثم رأيت أن أنسلخ منها لتنافي قيمي مع ''قيمها''، فالتحقت مجدّدا بالتدريس. وحين عُيّن الشيخ عبد الرحمن شيبان وزيرا للشؤون الدينية، انتدبني مشرفا على الهيئة العلمية لإحياء التراث''.
 هرم السلطة عليل
     بعيدا عن المحطّات الحياتية والنضالية التي مرّ بها، وكذا المهام والمناصب التي تقلّدها، حاولنا استدراج مضيفنا في بعض المسائل والقضايا الراهنة، منها احتفالية الخمسينية التي قال عنها: ''جيل الثورة حقّق مكاسب كثيرة، وجيل الاستقلال، بدوره، حقّق إنجازات عظيمة. ومع ذلك، لا تزال هناك نقائص بالجملة''. واستطرد بنبرة حزينة: ''للأسف، واقعنا لا يرقى إلى مستوى تضحيات وتطلّعات شهدائنا، والسبب يكمن في الخيار غير السليم لهرم السلطة العليل، وهو ما انعكس سلبا على الشعب''، مواصلا: ''الشعب الجزائري شعب عظيم، ولو وجد رجالا في مستوى عظمته لصنع ما صنعه أجداده إبان حرب التحرير. خسارة، حكّامنا خيّبوا آمالنا وآمال شهدائنا، وخانوا بيان أول نوفمبر''.
ويرى صاحب كتاب ''مقاصد القرآن'' أن الجزائريين لم يفهموا معنى الحرية، وبالأخصّ الشباب. فالشعب، حسبه، كان مقيّدا حتى ينطلق ويشيّد ويصنع، لكن ما حدث هو العكس، مسترسلا: ''الأمّة التي لا تحترم الوقت أمّة محكوم عليها بالفشل. فالوقت هو الحياة، لكنه عندنا رخيس، إذ نجده يُهدر في المقاهي والملاهي، وبين جنبات الأرصفة والطرقات، وحتى الجدران. أضف إلى ذلك، أن الأسرة لم تقم بدورها المطلوب، شأنها في ذلك شأن المدرسة التي لم تؤدِّ واجبها كما ينبغي. فالمدرسة عندنا لا تصنع الرجل الذي يصنع الخبز، بل الذي يأكله، وهذه كارثة كبرى''.
 مذكّراتي ناقصة نكاية في أعدائنا
      من جانب آخر، أقرّ محمد الصالح الصديق بأنه لطالما تردّد قبل كتابة مذكّراته ''فقد كنت أتساءل عمّا إذا كنت سأكتبها وفق ما يقتضيه التاريخ، أي بذكر عيوب الثورة ورموزها، أم لا؟ ففضّلت ذكر الحسنات دون السيئات، حتى لا أقلّل من قيمة الشهداء في نظر الشباب، خاصة في ظلّ السهام الموجّهة إلينا''. وتابع: ''أعترف بأن مذكّراتي ناقصة، فقد اكتفيت بكتابة صفحات مشرقة عن ثورتنا ورموزها، غير أنني عازم على كشف الحقائق وفضح المستور في الوقت المناسب، من باب إنصاف التاريخ، مادامت الوثائق موجودة''.
وفيما راح مضيفنا يأتمنني على بعض المعلومات الخطيرة التي يحوزها، شعرت بمغص في معدتي لهول ما سمعت، فاستأذنته بالانتقال إلى أمور أخرى، بعد أن وعدته بعدم نشر سابقاتها، قائلا لي: ''أفهمت، الآن، يا بنيّتي، لِمَ مذكّراتي ناقصة؟''، فأجبته: ''خير ما فعلت''.
 وردة.. ذكرى لا تُنسى
         يستحضر محمد الصالح الصديق الوفد المصري الذي نزل في طرابلس بليبيا سنة 1960 أو 1961 (لا يتذكر السنة بالضبط)، بكثير من النوستالجيا، لا لشيء سوى لأنه يذكّره بتلك ''القعدة الزينة'' التي جمعته مع الفنانة الراحلة وردة الجزائرية. وفي هذا السياق، اعترف بأنه متفتّح ولا مشكل له مع الغناء، إن كانت الكلمات نظيفة ''فالغناء حاجة ضرورية، مادام الشعور والوجدان يتلطّفان به''، على حدّ تعبيره.
وعن الخلافات القائمة ما بين المؤرّخين، في الفترة الأخيرة، أوضح مضيفنا أن ثمّة كتّابا كثيرين غير موضوعيين، ''فبعضهم يلهث وراء المظاهر والشهرة، على حساب التاريخ، والبعض الآخر لا يكلّف نفسه حتى عناء البحث عن المراجع الصحيحة، كما إن المجاهدين أنفسهم متحزّبون لعواطفهم''.
أما بشأن ما يسمى ''الربيع العربي''، فذكر محدّثنا أن القادة العرب ينتسبون إلى العروبة والإسلام خطأً، لأنهم طغوا وتجبّروا في الأرض، ولم يحسنوا لشعوبهم، مؤكّدا أن الثورات التي أقيمت ضدّهم منطقية، لكنها لم تأتِ أُكلها كما يجب. وشدّد، بالمقابل، على أن ''رياح هذه الثورات ستلقي بظلالها على الجزائر دون شكّ. لذا، على ولاة أمورنا أن يحتاطوا لذلك، باستئصال الفساد من جذوره''.
      وبخصوص التظاهرات الثقافية التي تُقام هنا وهناك، ضمن احتفالية الخمسينية، قال: ''الملاحظ أن مسؤولي الثقافة حصروا الثقافة في المهرجانات الفنية، بمعنى الرقص والغناء. فعندما نعود إلى الثقافة الحقيقية لا نجد لها حضورا إلا قليلا، وهو ما يجرّني إلى القول بأنه عارٌ علينا أن نحتفل بخمسينية استقلالنا بثقافة هزّ البطن''.
      ونحن نهمّ بمغادرة المكان، استوقفنا العلامة محمد الصالح الصديق عند الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، إلى الجزائر، قائلا إن هولاند احتُفي به احتفاءً مبالغا فيه، كما إن الشخص الذي هوى لتقبيل يده سيظلّ نقطة سوداء في تاريخ الجزائر.. وهكذا، ودّعنا مضيفنا على أمل أن تتحسّن أوضاعنا وأوضاع كامل الأقطار العربية. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يومية الخبر: الجمعة 18 جانفي 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الغزو الفكري وهْمٌ أم حقيقة كتب: بشير خلف       حينما أصدر المفكر الإسلامي، المصري، والمؤلف، والمحقق، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأ...