قصر “الباي” بقسنطينة.. “حلم ألف ليلة وليلة”
يعد قصر الباي بولاية قسنطينة إحدى روائع
الذاكرة الجمعية الجزائرية، ويبدو القصر العريق كأنه حلم لحكايا ألف ليلة وليلة، إذ
يبحر بزائره في سفرية شائقة عبر الزمن، ويتموقع قصر الباي كتاج يوشّح مدينة العلم والعلماء
“قسنطينة”، حيث يعتبر شاهدا حيا عن الحضارة العثمانية وما تركه حكامها بالمدينة المشتهرة
بجسورها المعلّقة وصخرها العتيق.
يقول مؤرخون إنّ “أحمد بن محمد الشريف بن
أحمد القلي” وهو آخر البايات العثمانيين (1786- 1850م)، كلّف كوكبة من أمهر المهندسين
العام 1825م ببناء هذا القصر، واستمرت أعمال البناء قرابة العشر سنوات، ليفتتح في خرف
سنة 1835م، بيد أنّ مُقام أحمد باي بالقصر لم يتجاوز السنتين، بعدما سقطت قسنطينة بيد
المحتل الفرنسي العام 1837م، وقام قائد الجيش الغازي الماريشال “كلوزال” بتحويله إلى
مقر له، ويفيد رواة أنّ هذا الصرح المعماري طالته “تشويهات كثيرة” إبان فترة الاحتلال
الفرنسي للجزائر التي استمرت لما يزيد عن قرن ونيف.
قصر الباي صرح عملاق يمتد على مساحة قدرها
1600 متر مربع، يتميز بنقوش شاهدة على بهاء فن العمارة العثماني، من خلال ثراء تنوعه
الهندسي والزخرفي، يشتمل طابقه الأرضي على حدائق وفناءات رحبة، ويحتوي على 121 غرفة
و500 باب ونافذة مصنوعة من خشب الأرز المنقوش بمهارة، تم طلاءه بالألوان الحمراء الخضراء
والصفراء، كما يلاحظ المتجول في ردهات القصر، التصميم البديع لطابقه السفلي، أين يوجد
ما لا يقلّ عن 27 رواقا يسمح بمرور تيار الهواء والنسمات المنعشة في فصل الصيف، و250
عمودا من الرخام جيء بها من مناطق متوسطية مختلفة. ويتميز قصر الباي بفنائه الرئيسي
الذي ظل يتحدى عوامل الطبيعة والزمن، ويحاط هذا الفناء بخمسة أقواس، وبحسب الباحث
“عبد العزيز باجاجة” فإنّ هذا الجزء كان يسمى “دار أم النون” حيث سكنته أم أحمد الباي،
لكنّه بمرور السنين تحولت “دار أم النون” إلى مركب جميل يضم حدائق غناء مفتوحة يتوسطها
حوض كبير كانت تستحم فيه النساء بالمياه الباردة المتدفقة من أعلى القصر، مشكّلة شلالات
تصب في كؤوس كبيرة ذات أحجام متميزة، جرى نحتها وصقلها كمزهريات ذات التواء متناغم.
وتشير وثائق متوفرة في مركز الأرشيف الجزائري،
أنّ خزان المياه الذي يقع أسفل القصر، كانت تعيش فيه أسماك صغيرة مزدهية بلونها الأحمر،
وحُظيت تلك الأسماك باعتناء خاص من طرف نساء القصر، وإذا ما توجّه الزائر نحو الطابق
العلوي، يلاحظ سلما يؤدي إلى فناء محاط أيضا بأروقة ذات أقواس، ويحتضن الفناء سلسلة
من الشقق تحتوي على أثاث قديم، وبالجوار فناء آخر مبلط بالرخام ومزين بأعمدة على درجة
عالية من الجمال، تطرّز حدائق غنّاء بشجر البرتقال والنباتات الزهرية، وفي الأعلى غرف
رحبة بجوارها حمام ذي هندسة مغاربية كان مخصصا للباي ولخدمه من النساء، وفوق هذا الحمام
المغاربي لا تزال عدة عصافير وبلابل وغيرها من الطيور المغردة تنصب أعشاشها هناك.
ويمكّن القصر مرتاديه، من العودة إلى الماضي
والتمعن في أحداث ووقائع تاريخية مختلفة مثل المعارك التي خاضها الباي أحمد إلى جانب
آخر دايات الجزائر “الداي حسين”، وتؤرخ اللوحات المزينة لجدران القصر، للسفريات التي
قام بها الباي أحمد إلى الشرق الأوسط ومكة المكرمة. وحرصا منها لجعل قصر الباي متحفا
حيا للفنون والعادات، وإبرازه كفضاء تاريخي راق يخلّد مآثر تاريخ الجزائر، بدأت السلطات
الجزائرية أشغال ترميم موسّعة، ويتطلب الأمر ما بين 10 إلى 12 شهرا لإنهاء أشغال الترميم
التي سهر عليها نخبة من المهندسين المعماريين المهتمين بإعادة تأهيل هذا التراث دون
إفقاده روحه ولمسة مصمميه الأوائل، علما أنّ هذا الصرح المعماري المستلهم من أساطير
الشرق ظلّ لمدة طويلة عرضة للإهمال والنسيان، ما أوصله إلى حالة من التدهور. من جهتها،
تراهن جمعية أصدقاء قصر الباي على إزالة كل أثر للوجود الاستعماري الفرنسي عن هذه الجوهرة
المعمارية الثمينة، وتريد الجهات المختصة كما الباحثين والطلبة المحافظة على قصر الباي
كقيمة ثقافية تبقى راسخة لتطلّع عليها أجيال المستقبل، لذا يُرتقب أن تقترن إعادة فتح
أبواب القصر، مع الانتهاء من إنجاز متحف خاص به عديد الملحقات بينها قاعة للمحاضرات
ومكتبة ونوادي علمية وعديد الورش التثقيفية الأخرى، في مسعى لجعل قصر الباي ينبض بإكسير
الحياة مجددا وينعش معه كنوزا ظلت منسية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق