الخميس، 7 مارس 2013

معاناة المبدع

معاناة المبدع
بقلم: بشير خلف
         يوم أطلق الجاحظ كلمته المأثورة منذ قرون،ما أطلقها عفْويا إنما بعد تروٍّ وتجربة ميدانية وخبرة حياتية معيشة : « ... المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي و ...» وذلك إثر استماعه إلى كلام منظوم فيه عظة وحكمة أعجبت بعض العلماء يومئذ ،وأعجبت الجاحظ عينه من ناحية ما اشتمل عليه هذا الكلام  من ثراء المعاني وتنوعها .إلا أنه  لم يجعل صاحب هذا الكلام المنظوم شاعرا،لأن الإجادة كانت إلا في المعنى وحده.. والمعاني مطروحة في الطريق أمام كل الناس .. وما أكثرها.
                                المعاني مطروحة
        إن المعاني إذا كانت مطروحة في الطريق لا محالة،فإن الذي يلتقطها بلطف ويقدمها لغيره ثمرة ناضجة ،نضرة ،طيبة الطعم ،لذيذة المذاق هو الفنان الأصيل الموهوب .
     إن الأدب ليس معاني وأفكارا فقط،وليس صورا وتراكيب وحسب ،وإنما هو نتاجٌ  لعبقرية كامنة في نفس صاحبها،تبدو في تأليف المعاني الممتازة والعبارة الحيدة،والاهتداء إلى أفكار غير معروفة وغير متداولة.ومن يقدر على هذا غير الأديب الفذ المبدع الصادق في إبداعه .
         غير أن معاناة المبدع الحق وهو يقدم عصارة أفكاره للغير ليست بالأمر الهين أو بالشيء السهل ،خصوصا إن كان المبدع وكيفما كان إبداعه يحيا بين ظهراني قوم تسود فيهم الأمية بأوسع مدلولاتها وآخر ما يفكرون فيه :المعرفة والثقافة ..إن معاناة الفنان المبدع وليكن رساما، أو نحاتا.. موسيقيا.. شاعرا.. مسرحيا.. روائيا.. فالأمر سيان.. إن معاناة الفنان في هذه الحالة قد لا تتأتى في كثير من الأحيان نتيجة صعوبة عملية الإبداع فقط ولكن تكمن المعاناة في المحيط الاجتماعي والسياسي وتأثيرها في الفرد المتلقي.
                              معاناة المبدع
      إن الكثير منا يغفل أو ينسى وهو في غمرة نشوته بقراءة عمل أدبي ما أو التمتع بعمل إبداعي ما،أن كان وراء هذه النشوة وذلكم التمتع ،تقف شخصيةٌ أدبيةٌ ونفسٌ تبدع قد تكون سعيدة،وقد تكون تحترق ألما وتتضور معاناة،وتتمزق عذابا في سبيل هذا العمل الفني الجميل الذي نسعد به ونتلذذ بقراءته.
     ولئن كان الطريق إلى المجد محفوفا بالأشواك وتعترضه الأهوال والمخاطر،فإن المجد نفسه إلا جحيما يضع المبدع في أتون هذا الجحيم .ومن أصدق الذين عبروا عن هذا النوع من المبدعين الفنان الأديب الراحل جبران خليل جبران بقوله :« لــم  أدر ما يحسبه الناس مجدا – واحرّ قلباه – جحيما.. من يبيعني فكرا جميلا بقنطار من الذهب ؟من يأخذ قبضة من جواهر لبرهة من حبّ ؟ من يعطيني عينا ترى الجمال ويأخذ خزانتي ؟ »
     ولعل أحد الفلاسفة الألمان يلتقي مع جبران في ذلك لمّا يقـــــول :« الحياة قصص ،أجملها ما يكتب بالدماء ».
        لكن هل يعرف الناس درجة هذه المعاناة وقيمة الدموع المنسابة ..سيّما في مجتمعنا العربي وبطبيعة الحال فالجواب بالنفي .ومن هنا فالمبدع في هذه البلاد على امتداد رقعتها الشاسعة كثيرا ما يقضي نحبه ضحية الجوع البيولوجي،أو يختفي رويدا تحت شراسة معول الفاقة والاحتياج مودعا الدنيا غير مأسوف عليه والقليل من هؤلاء المبدعين قد يرفع شأنهم وتمدح مآثرهم وتُحي ذكراهم فيما بعد أو يُكرّمون بعد رحيلهم عن هذه الدنيا كما هو الحال في بلادنا .والشواهد في ذلك كثيرة ....ولقد تطرق إلى هذه المأساة قبل عشرات السنين الفيلسوف الفرنسي الشهير " فولتير"حينما صرخ بحرقة وألم يستنهض ضمائر المجتمعات حتى تلتفت لعباقرتها ومفكريها وتقدر قيمتها في حياتها قبل مماتها :
     « كلمة  واحدة رقيقة أسمعها وأنا حي ،خيرٌ عندي من صفحة كاملة في جريدة كبرى ،حينما أكون قد مت ودُفنت ».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...