..عندما تقود الثقـــــــــافةُ السياسةَ
بشير خلفالعلاقة بين السياسي والمثقف دائمًا هي علاقة يشوبها التوتر، وعدم الوفاق حيث كلاهما ينظر إلى الآخر بعين الريبة، وبما أن السياسي بحكم موقعه يحتلّ الصدارة الآنية، والإمكانات التي تجعله دومًا ينجح في صدّ المثقف، وإزاحته من الصدارة، فشدّ الحبل بينهما منذ القديم إلى أيامنا هذه يتلخّص في الآتي: " صراع الإزاحة "..هي نتيجة لحلقة، بل حلقات مفقودة تُوصل بينهما قمينةٌ بالتغيير.
ولعل أهم الجوانب التي تستحق التغيير في رأيي ينبغي على المثقف أن يكون أوّلاً صادقًا مع نفسه،وأن لا يكون مزدوج السلوك، كأن يكون إمّا منكفئا على ذاته يحلم بعالمٍ ورديٍّ، دعائمه المثالية، وفضاؤه المدينة الفاضلة، أو متزلفًا، ذليلاً، تابعًا لأصحاب النفوذ، والمال والسياسة، في سبيل الحصول على مآرب ذاتية تحطّ من كرامته، وتحوّله من متبوعٍ إلى تابعٍ..كما نشاهد ونعايش في أكثر من حادثة، وواقعة حينما يتحوّل بعض أشباه المثقفين إلى أبواقٍ منحطّة تمدح هذا السياسي، أو ذاك نفاقًا، وتنعي رحيله من منصبه، أو تعيينه في منطقة أخرى، وتصفه بكل أوصاف الشهامة، والرجولة، والإخلاص للمنطقة والوطن، وأنْ لا أحد شبيهٌ له لا من السابقين،ولا من الحاضرين،ولا من المستقبليين،والواقع الميداني يكذّب ذاك..أنصاف مثقفين كهؤلاء يهرولون تجاه كل قادمٍ جديدٍ، يقدمون له آيات الولاء، وتجدهم كفراشات الليل يحومون حوله، واجدين لهم مكانا في الصفّ الأول أينما حلّ هذا القادم، وتتفتح قرائحهم المريضة بقصائد عصماء كلّما أتيحت لهم الفرص في مناسبة، أو غيرها في حضوره.إن هذا النوع من أشباه المتعلمين المحسوبين على الثقافة كذبًا هم سبب بلاء الثقافة، والمثقفين الحقيقيين، وهم من العوامل التي جعلت السياسي يُقصي الثقافة من اهتماماته، وينظر بعين الازدراء إلى المثقف كيفما كان تخصّصه، ومهما كانت درجته العلمية والإبداعية، وهم سبب التصدّع الأزلي بين السياسي والمثقف، تصدّعٌ تولّد عنه، ويتولّد هذا الصراع الظاهر حينًا، والخفيّ تارات.
لكن هذا الصراع قد تنهار دعائمه في فلتات يجود بها الزمان قد تظهر هنا وهناك، ولعلّ ما سنورده لاحقًا هو من هذه الفلتات التي دوّنها التاريخ الجزائري المعاصر بحروفٍ من ذهبٍ.
في كتابه " مذكرات جزائري" الجزء الثاني للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ..الوزير المثقف نجْــــــل الشيخ العلاّمة البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يتحدث عن مواقف محرجة بين واجباته كمسؤول في الدولة الجزائرية، ووزير،وبين مبادئه التي يؤمن بها، ويدافع عنها كمثقف، يوم أن كان وزيرا ومقرّبًا للراحل هواري بومدين.لقد حدث أن الرئيس الراحل هواري بومدين اغتاظ ذات مرّة بعد ما قرأ قصة " الزنجية والضابط "للروائي المرحوم الطاهر وطّار، وطلب من أحمد طالب الإبراهيمي بصفته وزيرًا للإعلام والثقافة أن يردّ الطاهر وطّار إلى جادّة الصواب.
فكان ردّ الدكتور الإبراهيمي ردّ الرجل المثقف، لا ردّ الوزير :
« إن رقابة الدولة على الأعمال الأدبية والفنية ينتهي بها الأمر دائمًا، وأبدًا إلى أن تنعكس آثارها سلبيا عليها.أنظرْ إلى ما حدث في مصر عندما أريد منع كتاب علي عبد الرازق" الإسلام وأصول الحكم " وإلى ما حدث في فرنسا عندما أريد محاكمة " أزاهير الشرّ" و " مدام بوفاري"
لم يقلّلْ ذلك أبدا من شأن علي عبد الرازق، ولم يمنع بودلير، وفلوبير من أن يُعتبر الأولُ منهما أكبر شاعر، والثاني أكبر روائي في فرنسا، وأرجوك أن تُصدّقَ بأنه بعد ثلاثين سنة، فإن قليلاً من الجزائريين سيتذكّرون أسماء الوزراء الحاليين، بل على العكس من ذلك سوف يواصل الناس قراءة روايات الطاهر وطّار، والإعجاب بلوحات الفنان محمد راسم، وترديد أغاني المطرب رابح درياسة؛ وفي النهاية فإن الفنون والآداب هي الوحيدة القادرة على قهْر الموت.»(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الأستاذ: صالح السعيدي. مذكرات جزائري.
مجلة العربي: سبتمبر2010 العدد622
بشير خلفالعلاقة بين السياسي والمثقف دائمًا هي علاقة يشوبها التوتر، وعدم الوفاق حيث كلاهما ينظر إلى الآخر بعين الريبة، وبما أن السياسي بحكم موقعه يحتلّ الصدارة الآنية، والإمكانات التي تجعله دومًا ينجح في صدّ المثقف، وإزاحته من الصدارة، فشدّ الحبل بينهما منذ القديم إلى أيامنا هذه يتلخّص في الآتي: " صراع الإزاحة "..هي نتيجة لحلقة، بل حلقات مفقودة تُوصل بينهما قمينةٌ بالتغيير.
ولعل أهم الجوانب التي تستحق التغيير في رأيي ينبغي على المثقف أن يكون أوّلاً صادقًا مع نفسه،وأن لا يكون مزدوج السلوك، كأن يكون إمّا منكفئا على ذاته يحلم بعالمٍ ورديٍّ، دعائمه المثالية، وفضاؤه المدينة الفاضلة، أو متزلفًا، ذليلاً، تابعًا لأصحاب النفوذ، والمال والسياسة، في سبيل الحصول على مآرب ذاتية تحطّ من كرامته، وتحوّله من متبوعٍ إلى تابعٍ..كما نشاهد ونعايش في أكثر من حادثة، وواقعة حينما يتحوّل بعض أشباه المثقفين إلى أبواقٍ منحطّة تمدح هذا السياسي، أو ذاك نفاقًا، وتنعي رحيله من منصبه، أو تعيينه في منطقة أخرى، وتصفه بكل أوصاف الشهامة، والرجولة، والإخلاص للمنطقة والوطن، وأنْ لا أحد شبيهٌ له لا من السابقين،ولا من الحاضرين،ولا من المستقبليين،والواقع الميداني يكذّب ذاك..أنصاف مثقفين كهؤلاء يهرولون تجاه كل قادمٍ جديدٍ، يقدمون له آيات الولاء، وتجدهم كفراشات الليل يحومون حوله، واجدين لهم مكانا في الصفّ الأول أينما حلّ هذا القادم، وتتفتح قرائحهم المريضة بقصائد عصماء كلّما أتيحت لهم الفرص في مناسبة، أو غيرها في حضوره.إن هذا النوع من أشباه المتعلمين المحسوبين على الثقافة كذبًا هم سبب بلاء الثقافة، والمثقفين الحقيقيين، وهم من العوامل التي جعلت السياسي يُقصي الثقافة من اهتماماته، وينظر بعين الازدراء إلى المثقف كيفما كان تخصّصه، ومهما كانت درجته العلمية والإبداعية، وهم سبب التصدّع الأزلي بين السياسي والمثقف، تصدّعٌ تولّد عنه، ويتولّد هذا الصراع الظاهر حينًا، والخفيّ تارات.
لكن هذا الصراع قد تنهار دعائمه في فلتات يجود بها الزمان قد تظهر هنا وهناك، ولعلّ ما سنورده لاحقًا هو من هذه الفلتات التي دوّنها التاريخ الجزائري المعاصر بحروفٍ من ذهبٍ.
في كتابه " مذكرات جزائري" الجزء الثاني للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي ..الوزير المثقف نجْــــــل الشيخ العلاّمة البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، يتحدث عن مواقف محرجة بين واجباته كمسؤول في الدولة الجزائرية، ووزير،وبين مبادئه التي يؤمن بها، ويدافع عنها كمثقف، يوم أن كان وزيرا ومقرّبًا للراحل هواري بومدين.لقد حدث أن الرئيس الراحل هواري بومدين اغتاظ ذات مرّة بعد ما قرأ قصة " الزنجية والضابط "للروائي المرحوم الطاهر وطّار، وطلب من أحمد طالب الإبراهيمي بصفته وزيرًا للإعلام والثقافة أن يردّ الطاهر وطّار إلى جادّة الصواب.
فكان ردّ الدكتور الإبراهيمي ردّ الرجل المثقف، لا ردّ الوزير :
« إن رقابة الدولة على الأعمال الأدبية والفنية ينتهي بها الأمر دائمًا، وأبدًا إلى أن تنعكس آثارها سلبيا عليها.أنظرْ إلى ما حدث في مصر عندما أريد منع كتاب علي عبد الرازق" الإسلام وأصول الحكم " وإلى ما حدث في فرنسا عندما أريد محاكمة " أزاهير الشرّ" و " مدام بوفاري"
لم يقلّلْ ذلك أبدا من شأن علي عبد الرازق، ولم يمنع بودلير، وفلوبير من أن يُعتبر الأولُ منهما أكبر شاعر، والثاني أكبر روائي في فرنسا، وأرجوك أن تُصدّقَ بأنه بعد ثلاثين سنة، فإن قليلاً من الجزائريين سيتذكّرون أسماء الوزراء الحاليين، بل على العكس من ذلك سوف يواصل الناس قراءة روايات الطاهر وطّار، والإعجاب بلوحات الفنان محمد راسم، وترديد أغاني المطرب رابح درياسة؛ وفي النهاية فإن الفنون والآداب هي الوحيدة القادرة على قهْر الموت.»(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)الأستاذ: صالح السعيدي. مذكرات جزائري.
مجلة العربي: سبتمبر2010 العدد622
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق