عبد الحميد مهري.. الحاضر الغائب
بقلم: أبو القاسم سعد الله
سألني بعضهم في جرأة: لماذا لم تكتب عن
فقيد الجزائر عبد الحميد مهري؟ وسألني آخر مباشرة: أين نشرت ما كتبته عن المرحوم مهري؟
إن هؤلاء ربما يعتقدون بأنني “نواح” على الموتى وأنني أتقاضى أجرا مقابل نواحي وبكائي.
وما دروا أن الكتابة عن صديق أو فقيد عزيز إنما هي شحنة سخية تنبع من القلب الجريح
إلى القلم الحائر، فيخطها خطا حزينا، وأن هذه الشحنة قد تتعطف على صاحبها وقد تشرد
فلا تلين ولا ترحم.
والظروف التي ولدت فيها الكتابة قد لا تعني
هؤلاء السائلين وأمثالهم، والكتابة كما لا يعلمون، قد تكون بدافع الرغبة الملحة أو
المجاملة الذليلة. ولذلك فهم معذورون فيما اعتقدوا وسألوا عنه لأنهم لا يعرفون أنني
لا أكتب في مثل هذه الحالات إلا تحت آلام الفقد وليس عتابا للموت. فصاحب هذه الكلمة
معترف جازما بأن الموت حق على الجميع، ولكنه من الناحية الفلسفية المحضة لا يعترف بالهزيمة
أمام الموت ولو كان جبارا هازما للذات، كما يصفونه.
كثير هم الزعماء الذين نسجوا حول أنفسهم
هالة الزعامة بحق أو بغير حق. أما عبد الحميد مهري (رحمه الله) فهو زعيم بالطبيعة رغم
أنه ابتعد عن الهالة، ولكنها بحثت عنه وأحاطته بضوئها. فأنت إذا رأيته في تواضعه تقول
ما أبعده عن الزعامة التي يتبختر في حللها الأدعياء، ولكنك إذا تأملت في عمق تفكيره
وطريقة إقناعه حكمت بأن الزعامة خلقت له أو خلق لها.
رأيته ذات مرة في فاتح سنوات الخمسينيات
من القرن الماضي، يخطب في جمع من الطلبة الجزائريين بتونس، أيام نشوب الخلاف بين قادة
حزب الشعب، وقد سرى الخلاف إلى الأتباع، ومنهم
طلبة الزيتونة الذين جنّدهم الحزب ليكونوا من طلائعه، وكان سي مهري شابا طويل
القامة نحيف الجسم ذرب اللسان شجاع القلب. كان قد أكمل دراسته في جامع الزيتونة ويعرف
أوضاع الطلبة بتفاصيلها. جاء هذه المرة إلى تونس للقيام بمهمة تقي الحزب شر غوائلها.
فشرح لهم ما حدث على مستوى القادة وهدّأ من روعهم وطمأن قلوبهم وجمع كلمتهم على سواء.
ولكن مشاعر الشباب ظلت فائرة متدفقة ومتعطشة لمعرفة المزيد مما جري في باطن الأمر.
ولم تمض سوى سنة حتى تخرجت بدوري من جامع
الزيتونة، وتوجهت إلى العاصمة (الجزائر) واستلمت عملي معلما بمدرسة (الثبات) بالحراش
إحدى مدارس جمعية العلماء. وقبل نهاية السنة (1954) تردد أن بعض أعضاء اللجنة المركزية
للحزب الذين قبضت عليهم السلطات الاستعمارية والمتهمين بتفجير الثورة قد أطلق سراحهم،
ومنهم سي عبد الحميد مهري. ولم يلبث سي مهري إلا قليلا حتى وجد طريقا إلى المشرق حيث
انضم لوفد جبهة التحرير بالخارج. وبعد أقل من عام توجهت بدوري إلى المشرق ونزلت بالقاهرة،
فلم أقابله فيها وإنما علمت أن الجبهة عينته على رأس مكتبها في دمشق. وكان لا يزور
القاهرة إلا لحضور اجتماعات مكتب الجبهة (شارع عبد الخالق ثروت)، وكان وهو في دمشق
متعاونا مع السياسي القومي التونسي يوسف الرويسي، الخبير بالشؤون العربية والمناضل
من أجل استقلال تونس.
تكررت لقاءاتي به في القاهرة دون أن تكون
بيننا علاقة نلتقي بسببها في ناد أو مقهى، فنكتفي بالسلام والتحية. ومن العادة ألا
يكون وحده، فقد كان يخرج من الاجتماع مع بعض رفاقه للغداء ونحوه. وقد احتوت يومياتي
(مسار قلم) الإشارة إلى هذه اللقاءات العابرة وتبادل الرسائل الإخوانية.
عند تأليف الحكومة المؤقتة سنة 1958 بالقاهرة،
وإعلانها في إحدى قاعات فندق الكونتننتال جلس رئيسها السيد فرحات عباس، وسط طاقم ضم
سي عبد الحميد مهري وزيرا لشؤون شمال إفريقيا. كنت من الحاضرين مع بعض الطلبة الجزائريين
ونخبة من وسائل الإعلام العربية والأجنبية. وبعد المصافحة والتقاط الصور انصرفت الحكومة
لتبدأ عملها “الرسمي”. ولأسباب ما تزال محل تكهنات المؤرخين نقلت الحكومة مقرها من
القاهرة إلى تونس. ولا شك أن سي مهري كان يعرف تلك الأسباب. ومهما كان الأمر فإن لقاءاتنا
أصبحت قليلة بحكم المسافة والمسؤولية.
ومع مرور التجربة طرأ على الطاقم الحكومي
تغيير فأدمجت وزارة الشؤون الاجتماعية والشؤون الثقافية وأسندت إلى سي عبد الحميد مهري.
وتحت مظلة الحكومة المؤقتة انعقد في بئر الباي (تونس) المؤتمر الرابع للاتحاد العام
للطلبة المسلمين الجزائريين، في صيف 1960، فكان سي مهري هو الوزير المعني بالافتتاح
الرسمي للمؤتمر، إلى جانب السيد فرحات عباس رئيس الحكومة.
ارتجل سي مهري كلمته بالعربية ارتجالا شأنه
في مختلف المناسبات، بدون مراسيم ولا هيلمان. كان يقف واضعا راحتيه على طاولة عادية
مستطيلة متواضعة الشكل كأنها مائدة طعام الطلبة في حي جامعي. وكان التوتر شديدا بين
الحكومة المؤقتة والاتحاد، وبين الطلبة والحكومة التونسية، وبين الطلبة أنفسهم. وأهم
ما كانت الحكومة المؤقتة تطلبه من الاتحاد هو طاعة أوامرها وعدم القيام بنشاط مواز
لعملها الرسمي والدبلوماسي، كما هو الحال قبل انعقاد المؤتمر. لذلك كانت كلمة سي مهري
حساسة هادفة إلى رص الصفوف وتجنيد الطلبة وراء الحكومة والجبهة.
وكنت من الذين حضروا مؤتمر بئر الباي ضمن
وفد فرع القاهرة للاتحاد. وبعد انتهاء المؤتمر رجعت إلى القاهرة وقد حقق النجاح المرغوب،
ومنه استقرار مكتب الاتحاد في تونس إلى جانب الحكومة وليس في لوزان (سويسرا) كما كان
سابقا. ولم تمر سوى بضعة أسابيع حتى رجعت إلى تونس لكي أستعد للسفر في منحة أعطتها
الولايات المتحدة للحكومة المؤقتة عبر جبهة التحرير. وكانت المنح تحت إشراف وزارة الثقافة،
لذلك سلمني الأمين العام للوزارة، وهو سي عبد السلام بلعيد، جواز سفر تونسي لأن أمريكا
لا تعترف بالحكومة المؤقتة. وعندما أنجزت شؤون التأشيرة وتهيأت للسفر جئت إلى الوزارة
بضاحية بلفدير(تونس) مودعا فسلموني وثيقة من صفحتين مطبوعتين فيها تعليمات وتوجيهات
يسلمونها لكل طالب مسافر للدراسة في الخارج.
وعند الوداع خرج معي سي مهري، إلى عتبة
باب الوزارة وهو يحدثني بحديث أقرب إلى التمتمة منه إلى البيان. كان يعبر عن أمل الوزارة
في أن يكون الطالب الجزائري في عهد الثورة مثالا للاستقامة والنجاح واحترام قوانين
البلد الذي يدرس فيه، فهو بكل بساطة سفير للجزائر الثائرة ضد الجهل والعنصرية والمكافحة
من أجل الحرية والاستقلال. تلك هي الوصية اللقمانية التي يسمعها غالبا الصغير من الكبير،
والتلميذ من الشيخ. ولا أذكر سوى أنني أمّنت عليه ووعدته خيرا.
وكان سي مهري، وكذلك سي بلعيد، يعرفان الضجة
التي أثيرت حول رد الاتحاد العام على طلبي سنة من قبل لمنحة دراسية في بلاد غير عربية.
فقد كان ردّ الاتحاد أنني غير مؤهل للدراسة في بلاد أجنبية. وقد جاء هذا الرد عندما
كان الاتحاد في لوزان. ومن ردود الفعل عليه تحرك طلبة الجزائر في المشرق. فكانت المنحة
التي حصلت عليها هذه المرة استثناء لإرضاء تيار من الطلبة كانوا يدرسون بالعربية. وخوفا
من وقوع انشقاق في الاتحاد على أساس ثقافي، تصرف الوزير مهري ومخابرات بوصوف. وأذكر
أن عهد الوزير مهري شهد إرسال عدد من طلبة المشرق العربي إلى أمريكا منهم عمار بوحوش،
وبشير كعسيس وعبد الله شكيري…
بين 1962 و 1970 عرفت الجزائر ما عرفت من
أحداث، وفاز في السياسة من فاز ورسب من رسب، وخفت صوت فريق الحكومة المؤقتة. فما كان
من سي مهري إلا الدخول في معترك آخر رآه يفيد البلاد وكان مؤهلا له بحكم البيئة العائلية
والدراسية. وانقطعت صلتي به بعض الوقت عدا بطاقة تهنئة نتبادلها في المناسبات.
ثم تعاقبت على الجزائر حكومات اختلف قادتها
على كثير من الأمور إلا على عدم إشراك وزراء الحكومة المؤقتة في الطاقم الحكومي الجديد.
وكان سي مهري في الفريق الذي عرف كيف يظل فعالا في مجاله، وهو التربية والتعليم.
لم أرجع إلى الجزائر إلا سنة 1967 وقد علمت
أن سي مهري كان على رأس مدرسة المعلمين في بوزريعة. وبعد حوالي سنتين تكونت لجنة عليا
لإصلاح التعليم بإشراف رئيس الدولة ورعاية وزير التربية سي احمد طالب. وعينت عضوا في
هذه اللجنة التي انقسمت إلى لجان فرعية، منها لجنة التعريب التي كانت برئاسة سي مهري
وعضوية سي مولود قاسم والضابط محمد أمير، وكاتب الكلمة…
وبعد جلسات طويلة مضنية ومناقشات متباينة
أحيانا حول طريقة التعريب وإحياء الهوية ثم دراسة المنهج العملي في التربية والتعليم
على ضوء تجارب بعض الدول الأخرى حاولت اللجنة أن تختار للجزائر الطريقة المثلى التي
تضمن لها التكوين الجيد وإحياء التراث، بفضل رؤية سي مهري وشخصيته وعقيدته، ثم قدمت
لجنتنا مقترحاتها وتوصياتها إلى اللجنة العليا التي كانت تعقد دوراتها في قصر زيغود
يوسف. وفي نهاية المطاف انبثق عن توصيات مختلف اللجان افتراق التعليم الابتدائي والثانوي
عن التعليم العالي، وأضيف إليهما ثالث أطلق عليه التعليم الأصلي. وتقدمت قافلة التعريب
خطوات سرعان ما تبين صبحها. وبناء على هذا التحول في الخارطة التربوية تولى (ابن يحيى)
التعليم العالي، و(عبد الكريم بن محمود) التعليم الابتدائي والثانوي، و(مولود قاسم)
التعليم الأصلي. أما سي مهري فكان حظه من هذه الوليمة أمانة وزارة التعليم الابتدائي
والثانوي. ويبدو أن دخوله إليها كان استثناءلأن وزراء الحكومة المؤقتة كانوا ما يزالون
تحت الحصار.
ألجأتني مصالح الناس التربوية إلى سي مهري
أحيانا فزرته في مكتبه، فقضى حاجتي من غير توان، بينما لا أذكر أنني زرته أثناء أداء
مهمته في حزب جبهة التحرير. وعندما عزمت على تكوين ملف النضال طلبت منه شهادة فكتبها
لي بكل أريحية. وكانت هي وشهادة المرحوم إبراهيم مزهودي كافيتين لقبول ملفي. وقد لاحظت
عليه ظاهرة الوفاء بالوعد ولو طال الزمان. فقد طلب مني مرة نسخة من كتابي محاضرات في
تاريخ الجزائر فقدمتها له ولم أكتب عليها إهداء، وظلت عنده سنوات حتى نسيتها. وذات
يوم كنا ضيفين على صديق فجاءني سي مهري بظرف فلما فتحته وجدت فيه الكتاب في أحسن تقويم.
فنظرت إليه باستغراب واحترام وقلت مبتسما: “نادرون هم الذين يردون الكتب بعد استعارتها.”
وقد مرت الأيام والسنون بعد ذلك فإذا بي أحمل إليه نسخة من تاريخ الجزائر الثقافي بأجزائه
وقلت له مقالة المتنبي:
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال..
ومنذ حوالي سنتين ألقيت محاضرة عامة في
أحد المنتديات فكان سي مهري يجلس في الصف الأول، وحين أنهيت كان من أوائل المعلقين
على بعض ما جاء فيها عن الحركة الوطنية. وحين كنت أجمع مادة الجزء التاسع من التاريخ
الثقافي (وهو يتعلق بمرحلة الثورة) طلبت من سي مهري إجراء مقابلة فوافق، وكانت المقابلة
في بيته بحيدرة حيث جلست معه بضعساعات كتبت فيها أجوبته المتحفظة والمختصرة.
وأقول بالمناسبة إن سي مهري بعيد عن الحماس
والاندفاع، فلا تراه يقذف قادته أو زملاءه بالتهم المباشرة أو يكيل لهم المدح والثناء،
أو يجعل من نفسه بطلا والآخرين أقزاما. كان يجيب وكأنه يخشى وخز الضمير أو سيف التاريخ
أو إدانة قاض صارم الأحكام. هذا الطبع هو الذي خيب ربما آمال بعض المعجبين به المنتظرين
منه إنجاز عمل طالما عرقله آخرون. إن المعجبين به هم الذين رفعوا شعارا يقول إنه رجل
ثقة ونزاهة ولكنه لا يكاد ينجز شيئا يثير ردود أفعال غير محسوبة.
رغم أنه رجل سياسي عريق، فإنه كان لا يتحفظ
من اطلاق نكت جادة ودعابة، وهي في العادة نكت أطرافها جزائريون وشرقيون حدثت خاصة أيام
الثورة. وكانت له قدرة نادرة على إطلاق النكتة -وهي غالبا سياسية- بشكل عفوي هادئ تنتهي
بفرقعات من الضحك البريء. وله عند سرد النكتة حركات بطيئة، جسمية ويدوية، كالتلفت والإشارة
ورفع العينين المختبئتين وراء نظارات سميكة.
في الصيف الماضي، وقد كنت بعيدا عن الوطن،
قرأت في الصحف عن وفاة عبد الرحمن مهري شقيق سي عبد الحميد فبادرت بإرسال رسالة تعزية
إليه بطريق البريد الإلكتروني. وكنت أعرف شقيقه عبد الرحمن منذ أيام الدراسة بالقاهرة،
فكان طالبا مستقيما فعالا متواضعا كأخيه. ولما رجع إلى الجزائر توظف في شركة الغاز
والكهرباء. وكنا نلتقي بالصدفة فنستعيد الذكريات ونتبادل المعلومات عن أوضاع كل منا
في موقعه بالجزائر.
وحين رجعت من غربتي في الخريف الماضي، سمعت
من الأصدقاء أن سي مهري تأثر كثيرا بوفاة أخيه. ولم تمر سوى أسابيع حتى بلغني أنه ذهب
إلى فرنسا لإجراء تحاليل ثم رجع مصدوما. فقد طلب من الأطباء الفرنسيين أن يفصحوا له
عن مرضه فلم يفعلوا، فطلب منهم أن يعالجوه أو يتركوه يرجع إلى بلاده. وبعد رجوعه بفترة
قصيرة أدخل المستشفى العسكري بعين النعجة. وقد أخبرني الصديق سي عبد الله عثامنية بهذه
الخطوات فاتفقت معه على ترتيب زيارة بواسطة الحكيم الإنساني د. إبراهيم حمادة. وجدت
سي مهرى نائما على فراشه، وكان المساء يقترب، فأيقظه القيم على رعايته الذي يظهر أنه
موظف سام في المستشفى. وقد لاحظت أن سي مهري كان متصل الأنف والفم واليدين بأنابيب
للتغذية والأكسجين. فتح عينيه فعرفنا ومد يده ببطء وسلم بصوت خافت. واستغرقت الزيارة
لمحة.
وحين خرجت من عنده استقر في نفسي أنني لن
أراه ثانية، وهكذا كان الحال. فقد كانت علامات النهاية بادية عليه. وقد حاولت إعادة
الزيارة فقيل إن ظروفه لا تسمح، فزاد ذلك من يقيني. لقد حان أجله ليفارقنا فراق الدنيا..
فراق رجل عشق بلاده منذ نعومة أظفاره وتحمل في سبيلها الأذى وخدمها بكل إخلاص، وعاش
صديقا لجميع من مارس معه المهنة العلمية والسياسية والاجتماعية، فكان هذا ”الجميع”
يحبونه ويقدرونه ولو لم يتفقوا معه.
بداية من التسعينيات اتسع جرح الجزائر أمام
سي مهري. وكمناضل غير أناني كان يرقب السفينة وهي تشق عاصفة هوجاء وتتدحرج على صخور
حادة، وكان يريد إنقاذها، فكان دائم البحث عمن يمد إليه يده. وفي النهاية بقي في قلة
من الأوفياء للثورة في طهارتها الأولى، فكان يكتب الرسائل لأولي الأمر ويرسل إشارات
الخطر لأولي الألباب، فيقرأ الناس رسائله وتحذيراته ويعرفون أنه لا يقول إلا الحق.
وقد ظهر الفساد في البر والبحر وارتفعت أصوات أغنياء الحرب والإرهاب حتى غطت على صوت
الحق، صوت سي مهرى وأمثاله ممن بقي على الدرب، فكان حريصا على نشر مقترحاته لتجاوز
الأزمة، وكان كثير التحذير لأصحاب السلطة وحتى لخصومه الذين لا شك أنهم مسرورون اليوم
باختفاء صوته وتوقف قلمه. ولعلسي مهري يردد مع لسان الدين بن الخطيب عندما تيقن من
نهايته:
فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات، ومن ذا الذي لا يفوت
ومن كان يفرح منهم لــــه فقل يفرح اليوم من لا يموت
البيئة التي أنجبت سي مهري قد حمّلته مسؤولية
حماية الهوية الوطنية المتمثلة في الإسلام والجزائر واللغة العربية، ثم زكتها الدراسة
بجامع الزيتونة، ودعمها وجوده في دمشق خلال حرب التحرير. فكانت العائلة والزيتونية
والروح القومية والبيئة العربية في المشرق خلال الخمسينيات قد دفعته إلى الدخول في
معترك النضال الوطني والقومي. فكان سي مهري، رغم هدوئه وتحفظه، رافعا لواء الاتجاه
العربي في جبهة التحرير والحكومة المؤقتة ومجلس الثورة. وعندما استقلت الجزائر دافع
عن العربية والعروبة الثقافية بتوصيات لجنة التعريب المنبثقة عن اللجنة الوطنية العليا
لإصلاح التعليم، ثم من خلال المدرسة الأساسية التي دافع عنها وطبقها في الميدان رفقة
إخوانه المخلصين لنفس الهدف. ومن ثمة كان منهج هذه المدرسة هدفا لسهام القوى المضادة
لأنها كانت تعرف النتائج لو سارت الدراسة كما خطط لها سي مهري ورفاقه. لذلك جندوا كل
طاقاتهم المدعومة من جهات عديدة وهاجموا المدرسة الأساسية ومنهجها جهلا وعنادا ثم واصلوا
الهجمة ضدها إلى أن انهارت وعوضوها بتجربة هجينة لا طعم لها ولا لون باسم الحداثة.
ختم سي مهري نضاله القومي بدعم التنسيقية
الجزائرية لمناهضة التطبيع، وترأس المؤتمر القومي العربي الذي مقره بيروت. وكان صوته
محترما بين كل الأصوات مشرقا ومغربا لمواقفه منذ مؤتمر طنجة إلى غزو العراق واجتياح
لبنان، والهجوم على غزة. وقدم للمشارقة تجربة الجزائر النضالية كما كان يفعل في الخمسينيات.
ولا شك أن له موقفا متحفظا مما يسمى بحركة الربيع العربي، وكان سي مهري يفضل التغيير
والتحرير بالوسائل الديمقراطية بدل اللجوء إلى الوسائل العنيفة المعطلة والمهددة للوحدة
الوطنية والمنحرفة عن التيار الإسلامي والقومي. وما رسالته الأخيرة (أبريل2011) إلى
الرئاسة إلا نذير بما قد يحدث للجزائر إذا لم يسرع أبناؤها بمداواة جراحها وإجراء إصلاحات
حقيقية واضحة المعالم ومصالحة وطنية شاملة العناصر، ولكن الموت غيّبه قبل أن يرى حلمه
يتحقق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق