كسر التقوقع مرهون بصناعة ثقافية ولا مركزيّة
الفعل
الجزائر بحاجة إلى استثمار معرفي عقلاني
مبتكر
أجرى الحوار: كامل الشيرازي
تشدّد المثقفة والأكاديمية البارزة “حبيبة
العلوي” على أنّ كسر التقوقع في الجزائر يبقى مرهونا بخلق آليّات جديدة تكفل صناعة
نشاط ثقافي فاعل، مبرزة اهتمام فريقها المهتم باستحداث سياسة ثقافية مغايرة بخلق لا
مركزيّة الفعل وتحقيق إحرازات ذات بال هذا العام.
وفي حديث خاص بـالوسط، تحيل العلوي إلى
أهمية استثمار المؤسسات الاقتصادية الكبرى في رعاية الفعل الثقافي بالجزائر مع تشجيع
عموم المتعاملين من خلال حزمة تحفيزات ضريبيّة، ورفضت محدثنا توصيفات العقل الجزائري،
مصممة على أنّ الأخير الذي عانى من النفي والتهميش والتغييب، هو أقرب العقول إقليميّا
إلى صناعة خطاب.
* ـ ماذا عن مؤدى مشروع السياسة الثقافية، إلى
أين تسير الأمور؟
ـ بتفاؤل واثق وعقلاني نسير بالمشروع إلى
توطيد أركانه بفتحه على النقاش والمساءلة وإذن الإثراء، فبعد تنظيمنا للقاء الرابع
الذي شهد العرض العام الأوّل للمشروع للرأي العام، وبعد نشر النسختين العربية والفرنسية
لمشروع السياسة الثقافيّة للجزائر على شبكة الأنترنت؛ ليتوافر بذلك المشروع بكلّ شفافيّة
لدى جميع المهتمين، نسير بتؤدة نحو إدخال التعديلات المطلوبة والتي سيقترحها الجمهور
خلال ثلاثة أشهر ـ جعلناها فسحة لتداول المشروع بين المهتمين ـ ليتدارسها أعضاء المجموعة
الوطنية لكتابة السياسة الثقافيّة للجزائر قصد تمتين هذا المشروع الذي يفترض فيه أن
يمثّل الحساسيّة الثقافيّة الجديدة للجزائر المنطلقة من قناعات المجتمع المدني وطموحاته،
بعدها سنعمل على تنظيم اللقاء الخامس حول السياسة الثقافية للجزائر خارج العاصمة لإعطاء
دفع قويّ لمقولة لا مركزيّة الفعل الثقافي الذي يؤمن ويقول بها مشروعنا، باختصار سنة
2013 ستشهد بحول الله الكثير من الحركية المعزّزة لتوجهات مشروع السياسة الثقافيّة
والمتوجهّة أساسا إلى تقريبه للمواطن بفتح جسور من الحوار والتفاعل معه.
* كلام كثير قيل عن المنظومة الفكرية في الجزائر بين الراهن والقادم
والمراهنات، فهل توقف الجزائريون عن التفكير؟
ـ إطلاقا، لا أعتقد أنّ الجزائريين توقّفوا
عن التفكير، فهم حتى وإن أرادوا أن يعطّلوا فعل الفكر عن خيبة واقعيّة، لن يفلحوا في
تعطيل القلق المزمن الذي يسكنهم لصناعة غد أفضل، رغم الحموله الثقيلة لسنوات العنف
التي مازالت تنهك تاريخهم البعيد والقريب وتنتهك حقّهم في الحلم، يبقى العقل الجزائري
في تصوّري على حالات النفي والتهميش والتغييب التي تطاله يوميّا هو أقرب العقول إقليميّا
إلى صناعة خطاب يتجاوز تناقضات وتقاطبات الخطاب السائد، بحكم خبرته في اختبار خطابات
التطرّف التي دفع ثمنها من زهرة شبابه ….العقل
الجزائري وفق تصوّري مازال لم ييأس من رحلة البحث عن مخرج يشبه تطلّعاته…على استعصاء
هذا الطريق مع الظرف الراهن الملتبس بحالة من التوجّس والريبة من غد ليس تماما باليد.
* هل ما حصل ويحصل في الجزائر ناتج عن إحباطات العقل وتساقطاته؟
ـ الأمر ناتج ربما عن فعل التهميش والتغييب
الذي مازال يمارسه منطق سلطوي متعفّن بالأنانيات قصيرة النظر.
* ماذا عن نسبة 0.23 % من ميزانية وزارة
الثقافة المخصصة لدعم الجمعيات الثقافية “المستقلة“؟
ـ نسبة تشي بذهنيّة رجعيّة مازالت تصرّ على
احتكار المشهد الثقافي لصالح رؤية أحاديّة توظّف الثقافة لصالح الخطاب الحاكم، وهي
نسبة نطالب بإسقاطها بتبني الطرح الذي يقول به مشروع السياسة الثقافيّة بالجزائر والذي
يهدف إلى تعزيز الجمعيّات المستقلّة بنسبة ثلت ميزانيّة الثقافة على أقل تقدير؛ النسبة
التي ستسمح بخلق نوع من التوزان بين الفعل الثقافي الرسمي والفعل الثقافي المستقل،
كلّ هذا لخدمة تنوّع وثراء المشهد الثقافي الجزائري الذي ينبغي ألا ينحصر في مقولات
السلطة وخططها الثقافيّة، إنّها ضرورة حيويّة تتبنّاها اليوم أغلب الدول التي تنظر
للثقافة كرابع دعامة للتنمية المستدامة لا كإكسسوار تُجمَّل به الصور المصدّرة للبلد
إلى الخارج، أضرب دائما في هذا المقام مثال التجربة البرازليّة “كيلتيرا فيفا” (لنحيا
الثقافة) التي رمت بكلّ ثقلها في فترة تولي الفنان جيلبرتو جيل (Gilerto Gil) لحقيبة وزارة الثقافة من
سنة 2003 إلى سنة 2008 في توجّه دعم المبادرات
المستقلّة بتمويل يغطّى ثلاث سنوات من عمرها، لتُترَك بعدها المشاريع لتَتَدبّر تمويلاتها
بنفسها.. وقد حُرٍص في ذلك على استهداف المناطق الأكثر فقرًا والأكثر تهميشا لرفع الغبن
عنها، هذا التوجّه جعل البرازيل مضرب مثال في التسيير الثقافي في العالم لدرجة جعلت
كثيرًا من البلاد الأوروبية تتبنّى هذه الفكرة المبدعة كمثل إيطاليا وبريطانيا.. علينا
أن نفتح أعيننا قليلا لنقتبس من الناجحين بعض آليات التحرّك نحو أفق مغاير!
*ـ كيف تقاربون أداء صندوقي دعم الابداع وكذا
ذاك المتخصص في ترقية الفنون والآداب والدور الذي أداه في العشرية الحالية؟
-
كل ما يمكنني أن أقوله كمتابعة ومهتمّة، هو أنّ نوايا هذا المشروع الحسنة لم
تجد الصيغة الشفّافة والكفيلة بتوزيع تمويلاته وفق معايير جماليّة تتعلقّ بقيمة الأعمال
…لا يكفي أنّ نخّصص صناديقًا لدعم الإبداع، بل علينا أن نسند مثل هذه الصناديق بلجان
مستقلّة عن المؤسسة الراعية والمانحة تتكفّل بإصباغ عملية التمويل بالمصداقيّة المطلوبة…ثمّ
هناك أمور كثيرة تتداخل لأجل إنجاح مثل هذه المبدرات أهمّها توفير شبكات التوزيع وآليات
التسويق التي من شأنها أن توصل السلعة الثقافيّة للمتلقيّ، لكي لاتبقى حبيسة مخازن
وزارة الثقافة أو متداولة في فضاء نخبوي ضيّق.. ومعطيات كثيرة، من أهمّها وضع لجان
مستقلّة أيضا لمراقبة وتقييم إنتاجات الصندوق من حيث قيمتها الفنيّة ومردوديّتها الإجتماعيّة،
الخ.
* هل بات فتح الباب أمام التمويل الأجنبي
للقطاع الثقافي المستقل في الجزائر واردا مع تنصيب لجان وطنية مستقلة لمراقبة مدى موثوقية
مصادر التمويل؟
- سبق وقدمتُ هذا الاقتراح كحلّ معقول لرفع
اللبس والتوجّس حيال هذه الإمكانيّة التمويليّة، غير أنّي أقول على ذلك بضرورة تداول
هذه النقطة الحسّاسة بالنقاش بين الفاعلين الثقافيين بالجزائر بشكل موسّع ومفصّل وجريء
للبتّ فيها، نرى مؤخّرا أن السلطات منحت الضوء الأخضر للمركز الثقافي الفرنسي لتمويل
بعض النشاطات الثقافيّة، في حين أنّ الخطاب الرسمي مازال يتوجّس من مثل هذه التمويلات
بل يخوّن من يقول بنجاعتها كوسيلة لتنويع مصادر التمويل للفعل الثقافي؛ وبالتالي ضمان
تنوّع حتمي للمشهد الثقافي بالجزائر، علينا أن نتحلّى بالجرأة المطلوبة لمواجهة مثل
هذه الإشكالات.. أمّا أن نسمح لطرف معيّن بتمويل النشاطات الثقافيّة بالجزائر ونحرم
طرف آخر فهذا معناه أنّنا نريد أن نسقط المشهد الثقافي الجزائري بواقع التبعيّة الثقافيّة
لا أن نرفعه إلى أفق التنوّع.. هناك فارق حاسم بين الخيارين ونحن مع خيار تنويع مصادر
التمويل مع ضمان إستقلاليّة الفعل الثقافي وهذا لايمكن أن نحرزه إلاّ بالانفتاح على
أكثر من مانح دولي …لا الانصياع لمانح مازال ينظر للجزائر كتركة مازال له الحقّ في
التحكّم في دواليبها ولو ثقافيّا… ما معنى أن نعطي الضوء الأخضر للمركز الثقافي الفرنسي
في التمويل في نفس الأسبوع الذي نحرم فيه تركيا مثلا من مجرد فتح مركز ثقافي في الجزائر
… هذا تصرّف وإجراء جدّ مريب..يستوجب الإيضاح والتبرير…من حقّ المركز الفرنسي أن يتنافس
عن الريادة في هذا المجال، ومن حقّنا كجزائريين أن يتوافر لدينا أكثر من خيار …أعتقد
أنّه مطلب مشروع!
* ماذا بشأن رفض وتوجس كثير من الفاعلين
الثقافيين الجزائريين من فكرة التمويل الأجنبي وتفضيلهم للتمويل الداخلي وصيغة السبونسورينغ؟
- توجس أراه مشروعًا فلكلّ فاعل ثقافي قناعاته
التسييريّة وخططه في البحث عن مصادر التمويل، من حق الفاعلين الثقافين بالجزائر المطالبة
بنسبة محترمة من ميزانيّة وزارة الثقافة بالنظر إلى السيولة الحالية التي يزخر بها
القطاع، بل والمطالبة باستقرار هذه النسبة على تقلبّات الوضع الإقتصادي، من حقهم أيضا
أن يطالبوا بإطار قانوني يلزم المؤسسات الإقتصاديّة الكبرى التي تستثمر في الجزائر
برعاية الفعل الثقافي مع تحفيزات ضريبيّة مثلا ـ إعفاءات مثلا ـ ، مشروع السياسة الثقافيّة
يتبني منهجا يؤكّد على تنويع مصادر التمويل مابين حكوميّة ووطنيّة ودوليّة موثوقة،
مع ضرورة إبداع طرائق بديلة لتمويل الفعل الثقافي المستقل نابعة من المجتمع نفسه، ومن
قناعته بجدوى الفعل الثقافي اجتماعيا وإقتصاديّا.. وحضاريّا، وهذه مرحلة تحتاج إلى
اشتغال وتحضير يستند إلى الاجتهاد في التواصل
والتفاعل مع فئات المجتمع المختلفة.
* ـ ماذا عن رهانات تطوير القطاع الثقافي المستقل؟
ـ في الواقع نحن في بداية طريق صعبة وعصيّة
نحو بناء فعل ثقافي مستقل في الجزائر، غير أنّها غير مستحيلة، علينا أوّلا أن نعزّز
هذا القطاع بإطار قانوني يدعم حقّه في الوجود، ثمّ نوفرّ له فضاءات الفعل القريبه من
المواطن والتي تضمن لهذا الفعل حيويته ونجاعته…وعلينا أوّلاّ وقبل كلّ شيء أن نضمن
له أخلاقيّات تضمن وفاءه بعهوده حيال قيمة الاستقلال والتعبير عن تنوّع وأصالة الثقافة
الجزائريّة.
* هل يمكن إنضاج بدائل من داخل الوسط الثقافي
نفسه بتفعيل فكرة صرف المثقف على النشاط الثقافي بتشكيل تجمعات وتحالفات ثقافية تدعم
فعلها الثقافي من جيبها ومن اجتهادها في جلب تمويلات من رجال الأعمال المستعدين لدعم
النشاط الثقافي؟
- طبعا، علينا أن نبدأ أصلا من هذه النقطة، على المثقف
المنخرط في الفعل الثقافي والناشط الثقافي أن يبذل من وقته أوّلا ومن جهده ثانيا..
ومن ماله أخيرا لدعم فكرته وخطّته لتغيير مشهد ثقافي ـ وإذن وطني ـ لطالما انتقد غبنَه وبؤسَه، في الواقع نحن في حاجة
إلى مثقّف يكسر القوقعة التي أسرته داخلها
الأنظمة البائدة والسائرة إلى الإنقراض…مثقف مبدع في خلق آليّات جديدة لصناعة نشاط
ثقافي فاعل في مجتمعه ومعبّر عن هواجسه ملبٍّ لحاجاته..والواقع أنّ الساحة الجزائريّة
بدأت تشهد مبادرات من هذا الطراز المبدع والمستقل الذي يسعى إلى خلق جسور بين المثقف
والجمهور الواسع أذكر منها على سبيل المثال لا على الحصر ؛ مبادرة سلسلة المواطنة التي
أطلقها الروائي كمال قرّور، والذي سيطلق قريبا مبادرة كتاب الجيب المعرفة للجميع..والتي
يعمل فيها على تقريب المعرفة للمواطن عن طريق منشورات جيب تبسّط المادّة الثقافيّة
وستضمن توزيعها مؤسسة الخبر.. مبادرات كهذه نتمنى أن تتعدّد وتتنافس في جزائر جديدة
تسعى لتجاوز محنتها وبناء حلمها المشروع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق