الجزائر ـ فرنسا: بين إرث الماضي وتطلعات المستقبل
بالرغم من مرور نصف قرن، على تحرر الجزائر من قيود الاستعمار الفرنسي
،إلا أن العلاقات بين البلدين مازالت موضوعا تتجاذبه عدة اعتبارات، منها ارث الماضي
الذي يمتد إلى ما قبل الاحتلال،حيث أن عدم الاستقرار في العلاقات كان السمة البارزة،
لفترات طويلة جدا وليس العكس.
وبطبيعة الحال فإن العلة في ذلك، تكمن في سعي فرنسا الدؤوب لاحتلال الجزائر
منذ عهد الملك لويس التاسع (1226م-1270م) الذي وضع كما هو معروف لدى المؤرخين مشروعا
للقضاء على القرصنة المغاربية، وبسط السيطرة العسكرية على مراكزها الأساسية المتمثلة
آنذاك في الجزائر وتونس وطرابلس.ليبدأ مسلسل طويل من الصداقة أحيانا والتوتر في أغلب
الأحيان. والمتسبب في توتير الأجواء في كل مرة هو حكام فرنسا،الذين كانوا يلجأون إلى
إبرام اتفاقات تجارية مع حكام الجزائر، في إطار الامتيازات التي كانت تحصل عليها الدول
الأوربية في الإمبراطورية العثمانية،ثم يسارعون إلى نقضها دون سابق إنذار، باستعمال
القوة وشن حملات عسكرية على الجزائر لإخضاعها بدون نتيجة، بفضل القوة البحرية الجزائرية،
التي كانت في فترة من الفترات، قادرة على صد كل الاعتداءات الأوروبية دفعة واحدة وليس
الفرنسية فقط.
ولعل الملفت للانتباه، هو عدم يأس الفرنسيين، بالرغم من ضعفهم ومشاكلهم
الداخلية السياسية والاجتماعية، من إعداد مشروع احتلالي كلما فشل سابقه، بإصرار عجيب
قد يكون مصدره الذهنية الفرنسية التي يستهويها ركوب التحدي ولو كان خاسرا منذ البداية،أو
الجغرافيا الجزائرية التي قال بشأنها البعض أنها الجنة الثانية.فقد توالت المشاريع
الاحتلالية من دون توقف، فهذا مشروع ديكارسي 1791م الذي لم ينفذ بسبب المجاعة القاتلة
التي عمت فرنسا آنذاك، وكادت أن تقضي على المجتمع الفرنسي برمته، الذي أصبح أفراده
يأكلون بعضهم بعضا، لولا المساعدات الغذائية والقروض المالية التي قدمتها الجزائر ولم
تسدد لغاية الآن. ومشروع نابليون بونابرت، الذي أعد خطة لاحتلال بلاد المغرب العربي
لجعل البحر التوسط بحيرة فرنسية.
ومشروع استعمال حاكم مصر محمد علي باشا، الذي أقنعه القنصل الفرنسي في
القاهرة دروفتي، بشن حملة عسكرية لاحتلال الجزائر لصالح فرنسا، مقابل هدية مالية وعسكرية
سخيفة. وأخيرا الحصار البحري الذي فرض على الجزائر ابتداء من يونيو 1827م، وانتهى باحتلالها
في الخامس من يوليو 1830م، انتقاما للشرف الفرنسي المهان كما قيل. لتبدأ فترة مظلمة
في حياة الشعب الجزائري، عرف فيها القتل، الإبادة، التشريد، القمع، التجويع والبؤس،
الفقر، التجهيل، المسخ، التشويه، العنصرية، التعذيب، الاعتداء على حقوق الإنسان والكرامة
الإنسانية، فضلا عن النهب والسلب لثروات البلاد.
وعليه فمن الطبيعي في اعتقادنا، أن تتسم العلاقات بين البلدين بعد استقلال
الجزائر لا أقول بالتوتر وإنما بالتجاذب وعدم الاستقرار، لأسباب عدة ذكرنا منها الخلفيات
التاريخية التي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها بمجرد أصوات هنا وهنالك، تنادي
بتجاوز عقبة الماضي من أجل بناء الحاضر والمستقبل. فلا شك أن المصالح الاقتصادية المشتركة
التي تعود فائدتها على الدولتين والشعبين في غاية الأهمية، لكنه في المقابل ينبغي إجراء
كشف دقيق للماضي بكل تفاصيله، إنصافا للحقيقة التاريخية، ولتضحيات أجيال من الجزائريين
راحت ضحية للجشع الرأسمالي الذي ابتلع أحلامها وأمالها وقضى على حياتها وتجريما للاستعمار
الذي لم يكن في يوم ما أعمالا ايجابية، مثلما أفتت به المؤسسة التشريعية الفرنسية في
فبراير 2005م. وقطعا للطريق أمام كل المحاولات، التي ترمي دائما إلى توظيف الماضي بين
البلدين، لغايات لا نحتاج إلى ذكاء كبير لفهمها.
د. بشير فايد / كاتب وأكاديمي من الجزائر
عن القدس العربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق