الاثنين، 11 مارس 2013

تاريخ الجزائر المعاصر..وقائع ورؤى


تاريخ الجزائر المعاصر..وقائع ورؤى
عرض : بشير خلف
مــــــدخل
        لعقود طويلة انصرفت الدراسات التاريخية إلى تحديد مفهومي " التاريخ" و " التاْريخ"، فتبلورت اجتهادات عدّة منها أن مفهوم التاريخ لا يقتصر فحسب على سرْد أحداث الماضي، والشخصيات البارزة فيه، بل يتضمّن جميع ما قام به الناس من أعمالٍ دالّةٍ عليهم في المكان، والزمان..أمّا مفهوم التأْريخ فيشير إلى عمل المؤرخين، ومناهجهم المتعددة في كتابة التاريخ وفْق رؤى علمية، وفلسفية، وأدبية، وأيديولوجية متنوعة، ومتناقضة أحيانًا..لذلك تعدّدت مدارس فهْم التاريخ وكتابته.
      ومن دون ريب أن الباحث في التاريخ والكاتب الأستاذ الجامعي كواتي مسعود من الفئة الأولى التي تؤمن بأن أحداث التاريخ في كل مناحيها بقدّر ما يوجهها أصحاب الفكر، والقادة..وربّما النُّخب في حالات ما؛ فإن صانعيها الحقيقيين هم الناس العاديون الذين يتغلغلون، ويتحركون في إطار يومياتهم، وأشغالهم العادية.
 
       إن التاريخ في رأيي الأستاذ الباحث مسعود حقائق وخبرات إنسانية، ووثائق تُستنطق لاستجلاء تلكم الحقائق..والباحث فيالتاريخ من الأمانة العلمية أن يتعامل مع الأحداث، ومع الوثيقة، والسند التاريخي بروح المسؤولية الوطنية، والإنسانية من أجل تجلية الحقيقة، كل الحقيقة بعيدًا عن المزايدات العاطفية لكسْب العواطف على حساب المواقف.
تاريخ الجزائر المعاصر..وقائع ورؤى
       صدر منذ تاريخ قريب للباحث والأستاذ الجامعي كواتي مسعود كتاب بعنوان "تاريخ الجزائر المعاصر..وقائع ورؤى" عن دار هومة بالجزائر العاصمة..هذا الإصدار ينضاف إلى غيره من إصدارات أخرى في البحوث التاريخية أثْرى بها الأستاذ مسعود المكتبة العربية الجزائرية، والعربية..الكتاب من الحجم المتوسط يقعفي 240 صفحة ..كتابٌ حسنُ التصفيف، والتنظيم والإخراج كعادة دار النشر التي أصدرتْه.
      التصدير كان للأستاذ الباحث في التاريخ، وصاحب العديد من الإصدارات التاريخية الدكتور محمد الأمين بلغيث الأستاذ بجامعة الجزائر..
        في مدخل هذا التصدير يعرّف بالباحث مسعود كواتي على أنه مؤرخ جزائري أصيل من أصالة المعدن الجزائري الذي لا ينافق، كما عرفناه، وقرأنا عنه في كتبالحوليات التاريخية، فهو ينتمي إلى أمة معوانة على الخير، كما وصف ذات يوم العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن باديس مجتمعه في عصره.
الكتاب
     يحتوي الكتاب على دراسات، وأبحاث قيمة حرّرها المؤلف، ونشر البعض منها خلال فترة تجاوزت العقد الكامل، منها دراسة مميزّةٌٌ جدا بالنسبة للأستاذ عن الكشافة الإسلامية الجزائرية في تونس، فوج الجبل الأحمر أثناء ثورة التحرير لمّا كان الباحث عضوًا نشطًا فيه..دراسة مدعّمة بصُور تعود إلى فترة شبابه حينما كُلّف مع مجموعة من أعضاء الفوج بحراسة جثمان المناضل فرانز فانون.
      يتضمن الكتاب بعد الإهداء المُوجز جدّا، والتصدير للدكتور بلغيث 14 دراسة وبحْثًا هي:
المرأة الجزائرية والاستعمار الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، جمعية الإرشاد بالبليدة،حركة ماي الثورية 1945 في صحيفة النهضة التونسية، مقارنة بين خطّي ماجينو وموريس، معركة إيسّين من خلال كتاب فرنسي، محاولات ديغول لفصل الصحراء عن الجزائر مناورة أم حقيقة؟فرنسا وممارسة التعذيب في الجزائر أثناءالثورة،الكشافة الإسلامية الجزائرية..فوج الجبل الأحمر بتونس، دور محمد بوزيديفي الإعلام الثوري السمعي، منطقة وادي سوف وتهريب الأسلحة للحركة الوطنية(1946 – 1954)،قراءة في كتاب محمد حربي Une vieDebout
ديوان الشهيد الربيع بوشامة،لمحة عن التراث التاريخي لأحمد توفيق المدني، اليهود وثورة أول نوفمبر.
 
      مواضيع كلها معاصرة أغلبها يرتبط بثورة التحرير المباركة..كما أن الكتاب ذُيّل بالمصادر والمراجع التي باللغة العربية 71 مرجعا ما بين كتب، ومجلات ودوريات متخصصة، والمراجع باللغة الفرنسية53
المرأة الجزائرية ..حرّة وبطلة في كل الحقب
      يحدثنا الباحث في دراسة مركّزة عن المرأة الجزائرية خلال القرن التاسع عشر، وما عانته أثناء مأساة غزو المستعمرين الفرنسيين للجزائر،ولكنها قاومت إلى جانب الرجل حتى أن الطبيب الألماني سيمون بفايفر الذي عاش في الجزائر مدة خمس سنوات عاصر أثناءها وقائع غزو الفرنسيين للجزائر، وعاين المقاومة الضارية للشعب الجزائري لصدّ العدوان، والذي اشتغل بالطب يواسي الجرحى، كيف أن النساء شاركْن في المعارك بقوله:«…حتى النساء اللواتي رافقْن الرجال إلى أرض المعركة، أصبحن في حاجة إلى مساعدتي الطبية.»
        دراسة تعرضت إلى الكارثة التي حلّت بالوطن، وأهله، وتطرّق الباحث إلى نماذج من نساء الجزائر من بداية الاحتلال، وسقوط مدينة الجزائر، فكان حديثه مؤلمًا عن السيدة خيرة الجزائرية الأصيلة، وهي تُسعف زوجها المجاهد في معركة من معارك الجيش الجزائري النظامي، وهو يواجه الحملة الفرنسية الصليبية على الوطن.
        وقد تحدث الطبيب الألماني عن السيدة خيرة التي كانت ذات ثمانية عشرة ربيعا، وقد خرجت إلى أرض المعركة، ونُقلت إلى بيتها في حالة خطيرة استدعت مجيء الطبيب ليقدم لها الإسعافات، يقول وفي أثناء ذلك وقع نظري على جمالها، ذاك الجمال الذي هداني إليها صوتها الناعم المنغوم، لقد رأيت وجهًا ملائكيا، زاد اقتراب الموت من نقاء ملامحها،وغضارتها، وألقها، فزاد جمالها سموًا ورفعة، وسنًى..فزاوج الجمال الشرقي العفة الألمانية.
      كذلك خصص الباحث مسعود حديثا مطوّلاً عن السيدة خديجة شقيقة الأمير عبد القادر الجزائري التي خلّدت أنفتها، وعزّتها، وشرفها، وشرف قومها بقولها الخالد خلود المرأة الجزائرية الحرّة الأصيلة، فقالت وقد هزّها خبرٌ كاذبٌ:« إن استشهد شقيقي، فجهادكم أنتم غلى الدين، والوطن، وذكركم باقٍ إلى الأبد..وهؤلاء وأولاده فيكنف الله، وتحت رايتكم، فحافظوا عليهم إلى أن يُظهر الله ما في غيبه.»
      ويورد الباحث كيف أن المرأة الجزائرية خلال حصار قسنطينة الأول تخرج إلى ساحة القتال لتجذب جثث الموتى الصليبيين المعتدين بواسطة الحبال، وهو ما ينمّ عن الكراهية، والحقد الدفينيْن لحوّاء الجزائر تجاه العدوّ، على الرغم من بشاعة المنظر..ومن مواقف المرأة الجزائرية أنها قتلت نفسها طوْعًا على أن يُلقى القبض عليها حيّة، وهذا ما حصل في مدينة قسنطينة خلال الحصار الثاني سنة 1837
الصحراء الجزائري بعّدٌ استراتيجي هام
       من المواضيع القيمة في الكتاب موضوع بعنوان: محاولات ديغول لفصل الصحراء عن الجزائر، أهي مناورة أم حقيقة؟ والموضوع عبارة عن محاضرة ألقاها الباحث مسعود كواتي في الملتقى الوطني الأول حول سياسة فرنسا لفصل الصحراءيوم 17/04/1996 يتعرض الباحث إلى اهتمام فرنسا بالصحراء الجزائرية المتزايد، وبخاصة أثناء الثورة التحريرية الكبرى باعتبارها بعدا استراتيجيا هامًّا، وذات أهمية بالغة الأثر في المجال الاقتصادي، حيث المشاريع الاقتصادية بالجزائر في نظر فرنسا غايتها القضاء على الثورة وتطويقها، ونموّ وإنعاش الاقتصاد الفرنسي كله يعتمد اعتمادا كليا على الثروات التي تزخر بها الصحراء الجزائرية.
         إذ تمثل الجزائر أهمية خاصة في سياسة ديغول، فهي حلقة ضرورية في حياة فرنسا من نواحي عديدة، وقد أوضح الجنرال في مذكراته بقوله:« لقد كانت تحتل فيحياتنا القومية أهمية لا مجال للموازنة بينها، وبين بقية البلاد التي كانت تابعة لنا» ليواصل:« …وكشفنا منذ عهد قريب حقول البترول، والغاز التي ساعدتنا على استكمال حاجتنا الماسّة إلى الطاقة الصناعية.إذًا فثمّة أسباب كبيرة تحمل الشعب الفرنسي على أن يعدّ امتلاك الجزائر أمرًا مفيدًا، ومستحقًّا.»
       تسلّم الجنرال ديغول الحكم في جوان 1958 وخصص وزارة خاصة للصحراء، وفي سبتمبر 1959 أعلن باسم فرنسا رغبتها في منْح الجزائريين حقّ تقرير المصير، ولوّح يومها في حال اختيار الانفصال الكامل يمكن تجميع الذين يريدون البقاء فرنسيين، وضمان أمنهم واستقرارهم..وأوضح بكل صراحة وجلاء فكرة التجزئة لإبقاء الأقدام السود في الجزائر، والحفاظ على الصحراء، وخيراتها، وإبقائها ضمن المنظومة الاستراتيجية العسكرية الفرنسية، حيث جاء في مذكراته:" ولكي نحصل على الضمانات للفرنسيين الأصليين حفظًا لحقوقهم، ولإتاحة الفرصة أمام تعاون الطائفتيْن أثرنا اقتراحًا يرمي إلى إعادة تجميع الأوروبيين والمسلمين الذين يرغبون في الاحتفاظ بجنسيتهم الفرنسية في منطقة ضيّقة يؤلفون فيها أغلبية السكان، وتتولّى فرنسا حمايتها كما لو كانت جزءا من إقليمها؛ ولكي نحافظ على آبار البترول الذي استخرجناه، وقواعد تجارب قنابلنا، وصواريخنا فبوسعنا أن نبقى فيالصحراء مهما حصل، ولو اقتضى الأمر أن نعلن استقلال هذا الفراغ الشاسع."
      حاول ديغول ومن ورائه فرنسا تقسيم الجزائر، وعزل الصحراء عنها، غير أن محاولاته باءت بالفشل الذريع، بفضل يقظة الشعب الجزائري وقادة جبهة وجيش التحرير الوطني، وتمسّكهم الكامل بوحدة التراب الوطني .
وبعـــــــد
         كل مواضيع الكتاب قيّمة، المقام لا يسمح باستعراضها، أو تلخيصها..مواضيع كُتبت على فترات متقطعة، ولكنها تصبّ كلها في اتجاه واحد هو تحرير تاريخنا من المدرسة الفرنسية التي تمجّد القتلة..كتاب قيّم ومفيد للباحث والأكاديمي كما هو مفيد للمثقف، وكذا الشغوف بالأحداث التاريخية.
       إن العدوّ الأكبر للجزائريين الأحرار المخلصين للجزائر هي فرنسا الأمس، واليوم، والمستقبل، وعلاقتنا معه منذ الاستقلال إلى اليوم تشهد على أن لا صداقة مع هذا العدوّ الذي يكنّ للعرب والمسلمين كراهية من نوع خاص.
      نُكبر في الباحث الأستاذ كواتي مسعود هذا الجهد المبذول والنقي من أجل تجلية الحقيقة، وهو الذي أثرى المكتبة التاريخية الجزائرية والعربية بما ينيف عن إحدى عشرة إصدارًا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

  الجمال.. وما أدراك ما الجمال؟؟ كتب: بشير خلف      كيف نُعرِّفُ الجمالَ؟ وكيف نُحدّدُ جَــوْهَره، وأسُسَه الموْضوعية؟ ما هي المعاييـرُ...