اللغة العربية بين الألسكو واليونسيكو
عودنا المجلس الأعلى للغة العربية على أن يحتفي بهذا اليوم الكريم، يوم اللغة العربية العظيم، فلا يسعني إلا أن أقول كلاما بالمنافحة، وهذا ما اقتضته المناسبة، وأملك بعض الكلمات المنثورات، ولست بشاعر يهدي المنظومات الشعرية، ولم أتوقف في ميناء المعلقات الجميلات، لأنها المسمطات القديمات. ولكن في لساني كلام حزين، أصرح به بأسى وهين، فقد ضعفنا في هذا الزمان، وأخاف ألا نصل إلى برّ الأمان، فقد خلا الوقت من العلماء، وأقفرت الدنيا من الفضلاء، وممن يهمهم الشأن العام، وممن يسارعون في المهام. فشاهدي في ما أقول: رؤيتي لوضع العربية المهول، وأن الأمور تجاوزت حد المعقول، وفي نفسي شيء من المقول، وإني لست من أهلها المبرزين، ولكني من حماتها المعلمين، فأغتنم فرصة التلاقي، وأقول ما يوجد في المآقي.
أيهّا الجمع الحاضر: إذا استفتحت كلامي في هذا المقام، بما يشين من الكلام، فيعني أن في الأمر الخطر، وأنّ في الموضوع الهدر، بعدما رأيت ما يصدر على لغتنا من التقارير، وما يحوم حولها من المحاذير، فهذا يعني أننا سنقهر في لغتنا، ويكتب علينا التاريخ مسخ هويتنا، فما محالنا يا قوم مع الأقوام، وكيف نعتلي شاهقات العلم الهمام، فكلّ يوم تساقط في أسماعنا انجراف ركيك وهجين لغوي سميك، فما استطعنا التحكم في لغتنا، وما جارينا اللغات بتقهقرنا، فإلى أين نسير؟ وفي أيّ وضع نمير؟
جاءنا تقرر من الألسكو يقول: اتخذوا الأول من مارس يوما احتفائيا باللسان المبين، لسان لغة العالمين، فهو من الحافظين. وجاءت تقرير من اليونسكو يقول: لسان العالمين مهدد بالانقراض وأهله في تراض واستعراض، وقد يدركه الخطر، إن لم يكن محلّ النظر. بصرت بالتقريرين وخلصت إلى أمرين: فأما تقرير الألسكو يقوم على أعرابيات عفا عليها الزمان، وما يزال يستكنه أيام كان، ويعتمد الإطناب في التنويه بالغانية، ويثني بوافر الثناء على لغة قد تكون الفانية، ويزيد يهلل بالأبيات العالية:
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغوّاص عن صدفاتي
وأما تقرير اليونسكو فقام على الدراسات والاستشرافات، فلم تتدخّل فيه العاطفات الرّنانات، ولا يهتمّ إلا بالحاجات البيّنات، ويقرب من المؤكدات الواضحات. وتراني بين تقرير الاحتفاء، وتقرير الاختفاء، أعاني أزمة التحقيق، فأيهما محل التصديق، ولكن بعدما خبرت الأمر بالتطبيق، رأيت أنّ تقرير الاختفاء، تسنده معالم الاكتفاء؛ فمن أروقة المؤتمرات العالمية، ومن تلك الدراسات الإستراتيجية، صدر التقرير الخطير، يحمل ما سوف يحصل للعربية من مصير، رجّحت القول بأنّ تقرير اليونسكو على صواب، وقد علم الأمر المصاب، وهذا ما رأيته من جواب.
وفي البدء كان عليّ الإقرار، بأن أهل العربية سبب الدمار، نحن العرب نعلن الخراب، بتهاوننا المستطاب، ففي المغرب العربي تنتحر، وفي المشرق العربي تنتخر، والآن لا حيلة لنا ولو التأمنا أكتعين، أو بصمنا أبصعين، أو تكلّمنا أجمعين. بالفعل هناك العديد من مظاهر الانقراض، فنحن لا نجلي عنها أسباب الضعف والارتياض، فها هي العربية تدنو من الخطورة، وبخاصة في مواطن الضرورة، وتندب حظها مدحورة: واعرباه! لقد تخليتم عني وا أسفاه! سكتّم عنّي فتداعت علي اللغات، ونمتم عنيّ فتغلّبت عليّ الملمّات، فأرى ما يراه تقرير اليونسكو، ولم يصدق تقرير الألسكو وإنّ زمن الانقراض آت بالتحّديد، فكلّ ما هو آت آت بالتأكيد، يا قوم يا عرب، فبمن تستشهدون؟ وفي أية حضارة تندمجون؟ فهل تقبلون بما تملكون؟ وفي الحاضر لا تملكون، فأين أنتم يا عرب اليوم؟ أتتركونني لملك الروم؟ ولا يسعني في هذا المقام إلاّ تكرار قول ذلك الشاعر الذي قال:
قلت لأقلامي اكتبي وانطقي فقالت الأقلام: واسوءتاه
وشقّت الألسن من حزنها وولولت واسودّ وجوه الدواه
إخواني: إنّه لمن المخجل أن تدقّ ناقوس الخطر المؤسسات العالمية، على وضع آلت إليه لغة الجاهلية، لغة نطق بها إسماعيل، وجاء بها القرآن عن طريق جبرائيل، وكتب فيها وبها العلماء الفطاحيل. فلم تستشعر مؤسساتنا اللغوية خطورة ما آلت إليه، وما سوف تقدم عليه، وأرى القائمين في برجهم العالي؛ لا علاقة لهم بالواقع المحلي، ولا تربطهم بها إلا المناسبات وتبادل التهاني والجهر بأنّ كلّ شيء باهي، فبعضها تكشف عن حسن نيّتها في مارس، والأخرى في مثل هذا الشهر تعيش حرب داحس، ثمّ تغوص في النّوم إلى أول مارس، وا أسفاه على مؤسسات دون روح، هياكل عجيبة صروح، وعلى ماضي الزمان تنوح، فهل القوم أحياء يا إخوان؟ وأحق للعربية أن تعلن نعيها على يدّ التكلان، والذين يرددّون: للعربية رب يحميها، وأنا لي جمالي فردّوها، فيصدق فينا قول ابن خلدون: عادة العرب ألا يتسنمون الهضاب، ولا يركبون الصعاب، ولا يحاولون الخطر.
نعت لغة العرب من أحكموا لسان قريش وتبيانها
وناحت على من بنوا عزّها وأعلوا بما أثلوا شأنها
أعلمت عقلي وقلت: أين مواطن الخطر؟ فرأيت في مايرى الرائي، بفكر الصاحي، بأننا نعلق النقص على الغير، ولا نعمل في العربية فعل السير، وأنّ عقولنا تعجز عن التمييز، وقرائحنا غير موضوعة للتبريز؛ كأنها أعدت للتبربر ونعيش بياتا في التاريخ، وننكر فعل الهديد الصريخ ونرضى باستعمال ما يجمل ويزين، ولا نتجنب ما يدنّس ويشين. نحن العرب نعلن جبنا حبنا للعربية، ولا نجلي عنها مواطن المرجعية، فمثلنا مثل الشاعر البرذوني الذي سئل عن حال صنعاء فقال:
ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبت مليحة عاشقاها: السل والجرب
نحن المختصّين لا ننكر فضل العربية في العلانية، وتأخذنا العصبية والشعوبية، وننبذها في الكتمانية، ونظهر لغيرها الانتمائية، وإنه لو أخذنا في تعداد أهل الاختصاص، لنفد المداد من القرطاس، ولكن فيهم العليل والنبيل والرذيل والمرناس، فكثر اللغط والزلط والسلط، وقلّ العمل والحلّ والربط.
يقول المتحدث إليكم: إنّ البعض منّا يستغل العربية في غير ما تريد، وهي في أمر عنه لا تحيد فيجعلها لا تخرج عن الوعظ، ولا تطرح أفكار الوعي، فلم تنل منه منال المنافعة، ولم تستفد بدا من المرافعة، فمثلها مثل تلك الشجرة التي تحجب الغابة، ولكنها تحتجب في هشيم الغابة. وهناك بعض من القوالين المنافحين؛ يقول ما لا يعمل؛ فتراه يبدي الألم، ولا يعطي الأمل، فلا يلام الذئب في عدوانه، إن يكن الراعي عدوّ الغنم في ترحاله. فحقا وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، وسكوت ذوي الرأي أكبر جسامة.
إخواني: علينا أن ندرك بأنّ مواطن الخطر كثيرة، تنعي لغتنا في مواطن عديدة، فمن العقاب النفسية بمعلوم، إلى التشكيك في استيعابها للعلوم، ومواطن معرفة النجوم، والعزوف عن التعليم بها في الجامعة بمقصود، وهو حؤول دون تقدّم منشود، بل دعوة إلى بقاء الأجنبيات، وترخيص لاستعمال اللهجات، بله الحديث عن الإقصاء والتهميش، وفي البحث والإدارة والبنوك ينالها التشويش، وفي الشابكة والإعلام يغتالهات التهويش. ألم تنقلب الموازين؟ أليس في الأمر ما يهين؟ ألا تحسون مثلي بتصدّع الفصحى؟ ألا تخافون أن تصبح ذات يوم لغة قبحى؟... وإنه ليفيض وعاء الوجع من كثرة النّصال، فمن يتصدّى للنضال، آه فمشاهد الوجع ضاربة، فأيّها تصد لو تحدث الواقعة؟
ومع ذلك أقول: إنّه لو كنّا ندري، وندري أننا ندري، لعرفنا أنّ لغتنا فاقت غيرها فضلا وشأنا وقدرا وفخرا، ونحن لا نوليها أمرا! بل لا يهمّنا واقعا بدّا، ولا ما يهدّدها هدّا، ولا يساوي انقراضها نقمة، فلتنقرض دون رجعة. إنّ العربية لغة عالية المكان، على مرّ الزمان، فهي أم اللغات، وأخلد الخالدات، فجذورها سماوية، ومعانيها سرمدية، وكما حفظنا عن أجدادنا قولهم: جبت البحار وقطفت جني الأزهار، وشهي الثمار، وسني البحار، فما وجدت لغة لها يحار؛ تلقت الوحي العظيم وحفظت نصّه الحكيم، واستوعبت نجوى العشاق، وحكيت لوعة الفراق، ووصفت فرحة التلاق وبحّت بسرّ الأسرار، وحكمة الفلك المدار، وبهجة الأرض المدرار، فهي الغنية والسوّية، وغيرها من الدنّية، هي تفضيل عن يقين، هي الحق المبين، فهيهات أن نفيها حقها من الوصف والإكمال ومن التبجيل والإجلال.
مع كلّ ما نقول من حقائق، فإنّها تعيش بعض السوابق، وزارات التربية تملأ القربة من فوق ووزارات تخرقها دون طوق، فما أصعب أن تملأ، وما أسهل أن تطفأ. اتقراض الفصحى شبه ملموس، فلا نسمعها إلاّ عند الخاصة بالمحسوس، والعامة تتداولها بالمعكوس، هجرت الفصحى فاستبدلت بالعاميات، وتبعها تعميم الهجينات. بداية الانقراض تقرب من حتمية، بما نرى فيها من تعمية، حيث حدث فيها انسياب لغوي؛ فالأصل فيها عربي، ولكنّ النطق غربي، وهو نوع من البلاء الذي جاءها من وسائل الإعلام، بالإضافة إلى مدوّنات الأغتام. انقراض العربية قد يحصل إلاّ إذا نهجنا عملا يجمل، وغيّرت الحكومات ممارساتها، وأصبحت العربية بندا من بنود تخطيطاتها، ضمن سياسة التعريب الشامل، الذي يأتي في الإطار الكامل.
أيّها الحضور الكرام: إنّ مظاهر الخطورة تتنامى باستمرار، ونشاهد العربية في انحسار، ولا تصاحبها أسباب الازدهار، فمطلوب منّا معالجة ضعف تعليم العربية في مدارسنا، وتحديد مسببّات التردّي لمستوياتنا، وهذا ظاهر في نزول البكالوريا في انحدار، ونحن عن كلّ هذا في انبهار: عتبة للدروس، إضراب مدروس، العمل لمن يستطيع، والنجاح للجميع، بالاستحقاق أو بالاسترزاق، إن لم يكن هذا ولا ذاك، فبالإنقاذ المريح، دون علامة تريح، فهل تسمحون أن نبقى في العالم نكرة وتجرى علينا في بلاد الغرب التجربة، ونشيد بأنّنا الأكبر في المهمّة، والأعظم في الصنّعة والأفضل في الدربة، والأمهر في الخدمة، ونبقى نردّد: عندنا فرسان اليراعة، وأرباب الصناعة وأهل البراعة... أليس الأجدر بنا إعادة النظر، بعلاج أمر هذا الخطر، أولابدّ من تغيير، يزيل فتيل التثوير. ولكن هل يمكن أن يحصل التغيير، ونحن لا نسعى للتدبير، وهل يمكن أن يحدث التفعيل وبعضنا يمارس التضليل. تلك عيوبنا ونقائصنا، تلك همومنا وخطرنا، وعلينا أن نصرح بأنّنا غلبنا على أنفسنا في لغتنا، ولا نملك آليات التغيير في ذاتنا بلغتنا.
ولكي يحصل التغيير؛ علينا أن نسدّ مكامن النّقص، بما يتطلّبه البحث من فحص، وربط العربية بالإبداع، وحملها على خرق الإشعاع، والاهتمام بتنمية المواهب، وسدّ الثواقب، وإحداث ثورة في الترجمة؛ بمشاركة مجريات العولمة، وما يتطلبه سوق اللغات، من علاج آلي في اللسانيات وخوض ميدان الحاسوبيات، وما يتطلّبه علم المعلوميات. ولكي يتحقّق هذا في الواقع، ولا يكون من الراجع، فالعربية بحاجة إلى مؤسسات نيّرات، وإلى مراكز أبحاث في اللغويات، وتنال البحوث في الرياضيات، ويعضدها القرار السياسي، وأراه يحلّ كلّ المآسي. هو الحلّ في أيدينا، هو الطريق الذي ينجينا، هو أمر يزيل الخطر، فإن لم يكن، فلا مفرّ من الخطر.
وخاتمة المطاف وصلت إلى فاتحة الألطاف: فلقد أخذت من أفواه العلماء، ومن وصايا الحكماء بأنّهم قالوا: من يعمل للعربية فهو يصنع الأجر، ومن يضحّي من أجلها يبقي الأثر، فللرجال همم وللصقور قمم، ومن يبغي الصدارة، فلا بدّ من الجسارة، ومن يريد التغيير، فعليه بالمسير، ومن يصد على العربية الخطر، عليه أن يؤكّد الخطر. وإنّي لست من الميؤوسين، ولكنّي من الحزينين ولذا أؤكد الخطر؛ في لغة أهل الوبر والمدر والحضر، ولا يشفع فيها إلا مشاركة الجميع في التصدّي للخطر، ومع ذلك أرى الخطر، فإذا قولوا معي: قياسا على مطر مطر مطر، العربية في خطر خطر خطر.
والسلام عليكم يا بشر.
د/ صالح بلعيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق