ثقافة الطفل ومنجزات العصر
بقلم بشير خلف
أَثّــرَ في ثقافة الطفل خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين وبداية القرن الحالي عددٌ من المتغيرات والتحدّيات ، من بينها وخاصة في مجال التنشئة الأسري والمدرسي ولو في نطاق ضيّق ولكنه آخذٌ في الاتساع .. ثقافةُ الحوار والسّـماع والاستماع ، والمشاركة ، والإبداع ، بدلا من أساليب الحفظ وحشْـو العقول بالمعلومات ، والتلقين ، والتسلط ، واعتماد التعليم بدلا من التعلّم .وإعادة صياغة الثقافات الموروثة بما يتماشى ومنجزات العصر ، مع اتضاح الدور الرئيسي للحواس في تنمية قدرات الأطفال خاصة الصغار منهم بدلا من الاعتماد على الكلمة الشفاهية وحدها ، ومنافسة البرامج التلفزية العديدة ، والكمبيوتر ، والإنترنيت في العديد من الدول العربية ، وفي نطاق لا يزال محدودا ببلادنا .. تحدّياتٌ للكتاب المدرسي ، ومكوّنات أدب الطفل عموما ، لما تتضمّنه هذه الوسائل العصرية من تفاعل بين الشاشة والطفل
كما تنبهت المجتمعات إلى قضايا الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة من المعوّقين جسميا وعقليا وحتى نفسيا، وكذا الأطفال ذوي الظروف الخاصة كالمشرّدين . . أطفال الشوارع ، وضحايا الخلافات الأسرية ، والمصابين بأمراض مزمنة ..تنـبّهت العديد من المجتمعات إلى تسخير العلم لمساعدة هذا النوع من الطفولة وحمايته ليس هذا فحسب ،ولكن لجعل هذه الطفـولة تستفيد بدورها من ثمار العلم وتكنولوجيا كسْب المعارف على غرار الأطفال الأسوياء. [1]
وتعاونت في ذلك الهيئات الرسمية والمجتمع المدني بأغلب مكوّناته مستعينة بالخبراء ، ومستفيدة من الدعم المعنوي والمادي المُقدم ..حتى تهيّأت ظروف مناسبة جدّا لهؤلاء الأطفال ذوي الاحتياجات ساعدتهم على أن يكونوا أحسن حالا من حيث الرعاية الصحية والتكوين والاندماج في المجتمع ، من حال الأسوياء عندنا .
انفجار معرفي نَـوّعَ .. وسائل التثقيف !!
دوْر العلم تعاظم ويتعاظم في حياتنا ممّا يحتّم علينا ترْك التردّد والشك وولوج هذه الفضاءات الجديدة لأخْذ ما هو مفيد ونافع ، واقتناء الوسائل المتاحة والمتوفرة ، وبقدْر إمكاناتنا أفرادا وجماعات لتنمية التفكير العلمي ، والمعرفة العلمية خاصة لدى أطفالنا .
هذا الانفجار المعرفي وتعدّد وسائط المعرفة ساعد على ضرورة التأكيد على نفْـض الغبار عن قيم إنسانية سامية أكدت عليها قيمنا الروحية ، ولكن تغافلنا عنها جهلا وعمْدا معا ، مثل عدم التمييز بين أهمية أدوار الفتى وأدوار الفتاة ، وقبول الآخر ، وتقوية الشعور بالانتماء إلى الوطن ، وتأكيد قيمة الوقت والعمل ، والحفاظ على البيئة من طرف الجميع الكبار والصغار ، وتنمية روح الإبداع والابتكار ، والاعتماد على النفس في التعلّم الذاتي المستمرّ في عصْر أصبحنا نسمّيه عصر انفجار المعلومات . [2]
تكنولوجيا المعلومات وتثقيف الطفل
إن التقدم الذي نشهده حاليا في جميع المجالات ، وتأثيرات المعرفة الحديثة واضحة فيه قد ضيّق المسافة بين الطفل وبين العلم والتكنولوجيا بصورة تستوجب تربية جديدة مغايرة تماما للتربية التي لا تزال سائدة في مجتمعاتنا ولم تترك المكان للتربية الحديثة والمعاصرة إلاّ في نطاقات ضيّقة وبصعوبة . وعلى أية حال فالعلاقة متينة بين التربية والثقافة ..والتربية هي عنصرٌ هامٌّ من عناصر الثقافة باعتبارها الأداة الأولى في التنشئة الاجتماعية ، لا بدّ أن تكون غاياتها واضحة .
لقد أصدرت اليونيسكو دراسة قيّمة بعنوان : التعليم ذلك الكنز المكنون وهي :
تعلّمْ لتعرف .
تعلّمْ لتعمل .
تعلّمْ لتكون .
تعلّمْ لتشارك الآخرين .
وقد قام الدكتور نبيل علي الخبير في مجال المعلوماتية بصياغة هذه الغايات الأربع الأساسية فيما يخصّ تربية الطفل العربي إلى أربعة أهداف أساسية لاستخدام تكنولوجيا المعلومات وهي :
1. تنمية قدرات الطفل العربي في اكتساب المعرفة .
2. تنمية القدرات الذهنية لدى الطفل العربي .
3. تنمية القدرات الإبداعية لدى الطفل العربي .
4. تنمية مهارات التواصل مع الآخرين لدى الطفل العربي . [3]
أيقنت كل المجتمعات ضرورة اللجوء إلى تكنولوجيا المعلومات لمواجهة ظاهرة الانفجار المعرفي ، وهو ما يستوجب إكساب الطفل العربي القدرة على التعلّم الذاتي مدى الحياة ، والتعامل المباشر مع مصادر المعرفة دون وسيط بشري في هيئة مدرّسٍ أو كتاب مدرسيٍّ . يتطلب ذلك إكساب الطفل مهارات البحث والإبحار في الشبكة العالمية الإنترنيت ..ومن حقّنا أن نطرح نحن السؤال التالي : أيمكن أن يتحقّق هذا عندنا في الأمد القريب أو حتى المتوسط ؟ ..(الآتي من الزمن عنده الإجابة .) إن مهمة التعليم لم تعد تنحصر في تحصيل المادة التعليمية بالدرجة الأولى ، فأسلوب التلقين والتحفيظ واستظهار المعلومات حرفيا ، أسلوبٌ يتناقض تناقضا جوهريا مع ظاهرة الانفجار المعرفي ؛ بل الغاية تنمية مهارات الحصول على المعارف وتوظيفها ، وأكثر من ذلك توليد المعارف الجديدة وربطها بما سبقها
مصادر ثقافة الطفل تعدّدت !!
إن مصادر ثقافة الطفل تتمثّل في الأسرة ، الجيران ،المسجد ،المدرسة ، جماعة الأقران ، وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة ، والمرئية ويتصدّرها التلفزيون ، أدب الطفل ، الوسائط الحديثة للتثقيف .نكتفي هنا بالحديث عن عوامل ثلاثة من عوامل التربية والتثقيف أوّلا ، وهي : الأسرة ،المدرسة ، أدب الطفل .
الأسرة : هي أساس التنشئة ومصدر الاستقامة أو الانحراف في فطرة الطفل وعقيدته التي هي مبعث ثقافته . وفي مراحل النموّ يتعرّض الطفل لنماذج سلوكية مباشرة في أسرته ، والمحيطين به ، أو نماذج سلوكية رمزية من وسائل الإعلام ومن القصص والحكايات التي تُقدّم في الأسرة من كبارها وصغارها معا . وفي هذا النوع من التعليم يلاحظ الطفل الشخص النموذج ، ويصوغ ما يشاهده ويختزنه ، وينتظر الوقت المناسب لكي ينتج نفس السلوك.
الأسرة هي الوعاء التربوي والثقافي الذي تتبلور داخله شخصية الطفل تشكيلا فرديا واجتماعيا ودينيا ، وهي بهذا تمارس عمليات تربوية تثقيفية هادفة من أجل تحقيق نموّ الفرد نموّا سليما … وممّا لا ريب فيه أن الوضْع الثقافي والتعليمي للأسرة يؤثّر في تنشئة الطفل وتربيته تأثيرا مباشرا ، وبخاصة في سلوكه الديني والاجتماعي والثقافي .. فالميل إلى القراءة ، والمشاركة في الأنشطة الثقافية المحلية والوطنية ، وحضور المحاضرات والندوات الفكرية ، والمساهمة في المسابقات ، وممارسة الحوارات الفكرية داخل الأسرة ، ووجود المجلّة والكتاب والصحيفة اليومية وانكباب أفراد الأسرة عليها ..كلها عوامل ذات تأثير إيجابي في تنمية الوعي الثقافي لدى الطفل ، وكذلك تساعد على النموّ السليم والتنشئة التي تسمح بسرعة التكيّف الاجتماعي والثقافي مع الوسط المدرسي من ناحية ، ومع الوسط الاجتماعي الثقافي من ناحية أخرى .
دوْر الأسرة حسّاسٌ وخطيرٌ جدّا .. تلبية الحاجات البيولوجية ، تربية ، تنشئة ، تهذيب ، غرْس الفضائل والقيم ، إدماج في المحيط ، تثقيفٌ . والتثقيف يدعونا إلى استعراض نقاط مهمّة منها : ـ هل حركية الكتاب غير المدرسي داخل الأسرة متوفرة وتمسّ كل مجالات المعرفة ؟ ـ كيف هي نظرة الأبويْن وأفراد الأسرة إلى الكتاب ؟ ـ هل توجد مكتبة منزلية ؟ كمية الكتب بها ؟ نوعيتها ؟ استثمارها ؟ طريقة العناية بها ؟ ـ ما نصيب الطفل منها ؟ ـ هل عُوّد ويُعوّد هذا الطفل منذ صغره على المطالعة خارج الواجبات المدرسية ؟ ـ هل الأسرة لها ارتباط بالصحافة ؟ وهل هذه العلاقة يومية ؟
لمّا نطرح مثل هذه الأسئلة كي نؤكّد بأن المدرسة عندنا على غرار العديد من البلدان التي تشابهنا عجزت عن دورها التثقيفي ، بل وحتى التعليمي في بعض مراحل التعليم ..المطالعة ثم عادة المقروئية التي من المفترض أن تتعاضد الأسرة والمدرسة على غرسهما لدى أبنائنا وبناتنا كوسيلتين رئيسيتين للتثقف وإثراء المعارف والاندماج في المحيط القريب والبعيد، و أداتين للبحث والتقصّي وليس فقط في المؤسسة التعليمية .. فشلتا في ذلك وكلتاهما تنحى باللائمة على الأخرى .
المسجد : من أهمّ مصادر ثقافة الطفل ، حيث يتعلم منه التقيّد بالمواعيد والانتظام في الصفوف ، واحترام الكبار والسلام عليهم ، والتعرّف على الجيران وتفقّدهم ، والمساواة والعدل بين جميع أفراد المجتمع ، والاهتمام بالطهارة من نظافة الجسم والهندام ، وتعلّم التلاوة السليمة وحفظ كتاب الله ، وتشرّب المبادئ الروحية ، والارتباط الدائم بالله عزّ وجلّ ، والانقياد للقيادة المسجدية ، ومراعاة آداب الطريق والمشي باحترام وسكينة .
وفي ظلّ وجود المدارس النظامية وتعدّد وسائل المعرفة وسهولة الحصول على المعلومات من مصادرها المتنوّعة ، نجد أن دوْر المسجد بالنسبة للأطفال قد تقلّص بشكل واضح ، ولم يعد يقوم بالدور الذي كان يؤديه في السابق ..لذا في اعتقادنا ينبغي التعاون بين الأسرة والمدرسة والمسجد من أجل تحقيق نوع من التكامل ما بينها ، فإذا كانت المناهج التعليمية في مادة التربية الإسلامية توازن ما بين محاور القرآن الكريم ، الأحاديث النبوية ، العقيدة ، العبادات ، السلوك الأخلاقي ، من المفترض أن يركّز المسجد على تحفيظ القرآن الكريم للأطفال والطّلاّب بصفة أساسية في العُطل ، لأن ما يقدم منه في المدرسة يقتصر على السُّور القصار ، وعلى الآيات ذات الأحكام .
المدرسة : امتدادٌ للأسرة وتكميل لدورها في تثقيف الطفل ، وهي تُكْسبه قيما إيجابية تؤهّله ليكون فردا عاملا مؤثّرا في مجتمعه . وقد تُكْسبه قيما سلبية تؤهله كي يكون رقما في إحصائيات التعداد فقط …تُعتبر المدرسة مؤسسة اجتماعية ثقافية من أهدافها إعداد الفرد كي يكون مواطنا مستنيرا قادرا على القيام بدوره الثقافي تجاه نفسه وتجاه المجتمع ، والإسهام في دفعه نحو الرقيّ والتحسّن في عصر يتميّز بالتطوّر السريع في جميع مجالات الحياة ، ممّا يتطلّب كفاءات ومهارات لدى الأجيال الجديدة لكي تستطيع مواكبة ما يطرأ من تغيّر وتحديث ونموٍّ لا يتوقف ..فإن المدرسة بحكم وظيفتها الاجتماعية واستمداد أهدافها من مجتمعها ، تعمل على إعداد الفرد الذي يتميز بخصائص أهمّها :
1 ـ الشعور بقيمة كينونته وأهميتها العلمية والثقافية في المجتمع .
2 ـ الشعور بأنه عضْوٌ فعّـالٌ منتج له قيمته في المجتمع الذي يعيش فيه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق